ذياب شاهين - العَربانة..

إنها فرصة طيبة، تمتم مع نفسه، وحين جلس بقربه، تمتم: يبدو أنني أخطأت الجلوس بقربه فملابسه وسخة ملطخة بالدهون السوداء والتراب، لكنه عاد فلام نفسه على تفكيره متمتما: ما هذا الهراء يا أحمق فكلنا من تراب ومن لحم وشحمِ، أما الرجل فقد كان متعجّبا، أن يجلسَ جنبه شخصٌ نظيف الملابس وأنيق، وحاول الرجلُ الابتعاد عنه نحو شباك الكيّا المتهالكة، ولكن إلى أين سيذهب فالكراسي ضيقة وكأنها مخصصة للأقزام، أو للأطفال، وحينما جلسَ غطس بالكرسي حتى شعرَ بقاعدة الكرسي الحديدية تضغط على مؤخرته، ولكنه قال لنفسه: ومع ذلك فهي فرصة طيبة أن أجلس مع هذا الرجل البسيط، إنه شابٌ بالثلاثين من عمره، أسمرُ البشرة وتعلو وجهه ابتسامةٌ طافحة، وتعجب حين بادره الرجل : هل أنت موظف، فيبدو عليك نظيفا ووقورا، وقبل أن يجيبَه باغته بجواب أضحكه: أنتم الموظفون أموركم جيدة وليس لديكم ما تفعلونه وتاخذون راتب في رأس الشهر، وحين رأى ضحكته، عاد وسأله بمرحٍ: أليس ما أقوله صحيحا، فابتسم مرة أخرى دون أن يجيب، وبدا أنَّ ابتساماته قد أكدت للشاب أنه متفق مع كل ما يقول، لكنه عادَ وقال له: أنا أعرفك فأنت تعمل مديرا بالبلدية، وأنت قد رشحت نفسك للانتخابات، فكاد ينفجر من الضحك من هذا الاستنتاج الطريف، فحملق بوجهه مبتسما، وقبل أن يقول له: كيف عرفت؟، أجابه: لقد رأيت صورك معلقة بالشوارع، وقبل أن ينفيَ عنه هذه التهمة العجيبة وهي تهمة الترشيح، باغته الرجل: بس دير بالك علينا، من تفوز، مو تسد تلفونك ومتجاوب، فهز رأسه وهو يحاول أن يبيّن للرجل أن من رأى صورته كان شخصا آخر، لكن الشاب ضحك واستمر قائلا: لا تضم علينا، فأنا سأنتخبك لو أعطيتني كارت موبايل وخمسين ألف دينار، وربما أقل، وهنا قال للشاب بحزم: أنا متقاعد ولست موظفا بالبلدية، ولم أرشحْ نفسي للانتخابات، فتح الشاب عينيه وكأنه لم يصدقْ ما سمعه، فارتدّ عنه نحو شباك السيارة، كان الجو مشمسا خارج السيارة لكن البردَ شديد برغم وجود الشمس، ولاحظ أن الشابَ لا يزال يرسمُ ابتسامة بلهاء على وجهه، فأراد أن يعيد ما انقطع بينهما من حوار فسأله: هل تعمل بالبلدية، فأجاب الشاب بالنفي، إذن ماذا تعمل، فقال: لدي عربانة أعمل بها، فسأله: وأين تركت العربانة، فقال: في الساحة، ألا تخاف أن يسرقوها، فقال: لا فالمكان محمي وعليه حراس، وقبل أن يلتقط أنفاسه، باغته الشاب فجأة بسؤال لم يتوقعه: لم لا تذهب للزيارة، كان عليه أن يصمت لاستيعاب مغزى السؤال، وقبل أن يجيبه قال الشاب: أنا دائما أذهب للزيارة في كربلاء، وعليك أن تزور أنت أيضا، خذ زوجتك الحجية وروح بالصيف فأنا سأذهب بالصيف إذن، وهنا شعر بأن هذا الشاب يتصرف بغرابة فتساءل في سره: هل هو مجنون، نحن بالشتاء وهو يخطط لزيارة كربلاء بالصيف وكأنه يريد الذهاب للحج، وحين لاحظ ابتسامته البلهاء ورميه للكلام على عواهنه، تمتم مع نفسه: لابد أن يكون هذا الرجل غير عاقل، أو على الأقل نصف مجنون، ولكنه عاد عن رأيه حين استرجع ما قاله الشاب، فضحك هامسا لنفسه: ربما أنا المجنون وليس هو، فمن الصعب أن يكون الانسان عاقلا في هذا الزمن الغريب.
تحركت الكيّا بعد أن امتلأت بالركاب، والشابّ لا يزال يشير لصور المرشحين، ويتكلم عنهم بصوت عال بأنهم لصوص وكان الركاب يستمعون إليه ضاحكين وهم ما بين مؤيد ومستنكر لكلامه، ولكن الأغلبية كانوا متفقين بأن هنالك جيل جديد من اللصوص على وشك أن ينتخبهم الناس، وفجأة أشار لإحدى صور النساء المترشحات وكانت تلبس العباية والشيلة وبوجه قاسي الملامح خال من أي أنوثة وكبيرة بالسن ولفرط بدانتها تكاد تخرج من الصورة، فقال المجنون: ألا تخجل هذه المرأة من نفسها، كان عليها أن تجلس بالبيت وتسكت، فضحك الركاب حتى النساء الجالسات بالكيّا ابتسمن، وأخذت التعليقات تأخذ منحى قاسيا ممتلئا بالتهكم على الحكومة والأحزاب، وحين وصلت السيارة قرب جسر ساحة الأم، لاحظ وجود صورة كبيرة على واجهة محل للحلاقة، فأراد أن يختبر الشاب المجنون فقال له: أنظر هذه الصورة فهذا الشاب الجميل قد رشح نفسه أيضا، فحدجه الشاب بنظرة لوم وكأنه قد عرف ما يقصده، فقال: هذه صورة دعاية لمحل الحلاقة، أنا أعرف اللصوص المرشحين، فلا تختبرني، فابتسم وهو متيقن أن هذا الرجل ليس مجنونا، فقال أحد الركاب له مبتسما: هو يعرف اللصوص جيدا كما نعرفهم، وأيده بعض الركاب، فأحس الشاب بالفخر والسعادة وقد وجد أن الركاب يدعمونه.
في ليلة ذلك اليوم وصورة ذلك الشاب لا تزال تثير في نفسه العجب والضحك معا مما سمعه منه، ذهب للنوم وسرعان ما دخل في حلمٍ عجيب:( أنا أمشي وراء الشاب المجنون وهو يقودني باتجاه مكان واسع وجدت فيه الكثير من العربانات الخشبية في فرع يقود إلى مسجد الغيبة قرب سوق الهرج، وكان المكان فيه رجل ضخم كما لاحظت وجود كاميرا تراقب المكان التي تركن به العربانات وقربها تواليت عام، فأشار لإحداها قائلا: سأخذ هذه وأنت خذ واحدة لنعمل سوية، ولكنها ليست لي كيف سآخذها، فأجاب: نعم أنا أيضا مثلك، ماذا؟، يا حاج أنا أؤجرها من هذا الرجل الضخم لقاء ألفي دينار يوميا، أعمل بها وأعيدها إليه بعد عدة ساعات، فأخذت واحدة ووجدتني أجري بسرعة في السوق، والمجنون يصرخ ضاحكا : على كيفك حجي لتروح تدهس الناس، كنت فرجا بالعربة، وأنا أنقل البضائع هنا وهناك، كانت وجوه الناس حزينة، لكن المجنون كان يراقب حركاتي، كانت الصور باهتة بالحلم وتحدث أمور عجيبة، وانفصلت عن المجنون بالزحام، ونقلت مواد وحقائب وصناديق وأكياس، وفجأة ظهر الشاب المجنون وقال لي : لقد سرقوا العربانة مني، ماذا سأقول لصاحبها، هيا نعود، هيا أصعد وسأدفعك، ركبت بالعربانة وأخذ يدفعني ويصرخ بالسوق مشيرا عليّ: لقد سرق الحاج عربانتي، وسرق نقودي، يا ناس لا تنتخبوه، هذا حرامي لا تنتخبوه لكن الناس كانوا غير عابئين بما يقوله، كان يركض بسرعة، حتى أحسست وكأن العربانة تطير بالفضاء وكلانا متعلقان بها، وأخيرا هوت العربانة على الأرض وتحولت إلى أجزاء متناثرة). فاستيقظت من النوم مذعورا.
كان الحلم مخيفا ولم أجد تفسيرا له، فهو محمل بالرموز وخصوصا العربانة وسقوطها المريع، بعد عدة أيّام التقيت بالشاب المجنون مرة أخرى بالمكان ذاته، حيث كنت راكبا في الكيّا وأريد الرجوع للبيت، وحين رآني صعد بالسيارة وسلم عليَّ وجلسَ قربي بالكراسي التي تقع خلف السائق مباشرة، كانت السيارة فارغة، وهنا التفت إليَّ وقال: هل تتذكر كيف طرنا أنا وأنت بالعربانة، فأصبت بالدهشة، هل يتكلم هذا المجنون عن الحلم، هل يعقل أننا حلمنا بالحلم ذاته، هذا لا يمكن أن يحصل بل مستحيل، فلم أجبه، بالأحرى لم أجد ما أقوله له، ولكنه أعاد السؤال عليَّ قائلا: لقد فقدت السيطرة عليها يا لها من عربانة لعينة، إذن فهو يتكلم عن الحلم، فوجدتني أسأله دون وعي مني: وكيف نزلت، فقال: أنا وقعت على شجرة فمسكت بأغصانها ونجوت، فسألته: وماذا حلَّ بي، فأجاب : لا أدري فقد اختفيت ولم أر لك أثرا، وها أنا أراك أمامي، فسألته :وماذا حل بالعربانة، فقال: لقد تحولت إلى أجزاء متناثرة، فتعجبت مرة أخرى مما يقول. فسكتُ وأنا مرتبك وخائف من هذا الشاب فتساءلت: سرا هل يمكن أن يكون جنيا؟ ففلتت من فمه ضحكة قوية أفزعتني، فوددت النزول من السيارة، ففكرة أن أجلس قرب جني في وضح النهار وأمام الناس تبدو فكرة مخيفة حقا، ولكن فجأة صعدت السيارة امرأة شابة جميلة وجلستْ قربه، كانت بيضاء البشرة مشوبة بالحمرة، وتلبس العباية والحجاب ومع ذلك كان جملها يفيض من بينهما، وبدا أنهما يعرفان بعضهما البعض، فسمعتها تسأله عن أمه وأخيه، وهو يجيبها بطريقة عفوية، فتيقنت أنه رجل حقيقي وليس جنيًّا، امتلأت السيارة بالركاب، وتحركتْ باتجاه الحي العسكري، فسألته المرأة: هل أنت جوعان، فأجاب بالنفي وهو يشعر بالخجل منها، أخرجتْ المرأة باكيت من البسكت وأعطتهُ بعضَ القطع، فأخذها كطفل مدللٍ وأخذ يأكل وعندما جُمعتْ أجرة الركاب، دفعتْ المرأة أجرته أيضا، فأردت ممازحته قائلا: بعد شتريد بساكتْ والأجرة بلاش، فضحك، فأردت أن استفزه قلت له: لكن كان عليك أن تدفع الكروة أنت، فالرجل من يدفع وليس المرأة، هذا ما يصير، ولكن المرأة انتبهت لما قلته له، فأجابتْ : لا يصير، يصير بالنسبة له، وكأنها كانت تشير إلى كونه مريضا، كانت عيناها تبرقان ببريق أخاذ بحدة، قالت ذلك وارتسمت على وجهها ابتسامة ساحرة حقا، فشعرت بالظلم الذي يحيق بالمرأة العراقية بعيدا عن نساء العالم، فتساءلت: ترى أتعرف هذه المسكينة الظلم الذي يحيق بها من كل جانب، كانت تنتظر مني جوابا على ما قلته، أشعرني بالخجل، وكأنها تريد أن تقول لي: أنا امرأة أعمل بعرق جبيني وأستطيع أن أدفع أجرة من لا يستطيع الدفع، وأنا سعيدة برغم قيودكم المقدسة والبالية التي تفرضوها علينا، فأخبرتها أنني أمزح معه ليس أكثر، ولم يكن لي قصد الإهانة مطلقا، فبادلتني بنظرة امتنان وفهم لمقصدي، فأجابت: هو ابن جارتي، ثم التفتت إليه قائلة: إنك تشبه أمك، بل إنك نسخة طبق الأصل منه، لكنه قال لها : بعدج تشتغلين بالمستشفى، فقالت: نعم، ثم وجهت كلامها إليّ قائلة: أمه هكذا مثله، فسألتها : هل لديه راتب رعاية، أم يعمل ... ولكنها أجابتني قبل أن أكمل كلامي مسرعة: هو لا يستطيع العمل، وحينما وصلت السيارة منطقة نادر الثانية نزلت المرأة وودعته، وكان نصيبي نظرة بطرف عينها تفيض شكرا، لكنها طلبت من الشاب أن يوصل سلامها لأمه، تحركت الكيا باتجاه الحي العسكري، ولكنني بقيت تحت تأثير ما قالته المرأة، وبقيتْ في حيرة، وخصوصا ما قالته من أشياء تخص الشاب الذي يسكن جنبي الذي بقي مبتسما ويبدو عليه الذهول، واسترجعت ما قالته المرأة الشابة عنه، وهن شبهه لأمه بكل شيء، فهل ورث الجنون عن أمه أيضا، ولم لا يستطيع العمل، ثم ماذا عنها هي، وهل هي تعمل ممرضة بالمستشفى، يبدو أنها مطلقة فقد سألها عن ولدها وابنتها، استبد بي الفضول لمعرفة المزيد، فسألته عمن تكون هذه المرأة، فقال لي مستغربا سؤالي: ماذا... أية امرأة، فقلت: المرأة التي نزلت توا وأعطتك بسكوتة ودفعت أجرتك، فقال : يا حاج هل أنت صاحي، فحملقتْ بوجهه الذي تحوّل إلى صخرة قاسية، وكنت أود أن أضربَه على وجهه لأنني شعرت أنه يريد استغفالي، ووددت أن أصرخ عليه وأحذره من أن يدعوني بالحاج مرة أخرى، لكنني تمالكتُ نفسي فأجبته: نعم أنا صاحي ولست مخمورا، لماذا تسأل هذا السؤال؟ فقال: لأنك تتوهم أشياء كثيرة، فصرخت: ماذا؟، فانفجر يضحك ويقهقهُ بقوة وتفاجئت بالركاب أيضا يضحكون وكأنهم قد استغربوا سؤالي، وفجأة التفتَ نحوي السائق قائلا: حجي لم يكن هنالك امرأة بالسيارة، وهنا أسقط بيدي وشعرت بخجل شديد، وحين نظرت إلى الركاب رأيتهم ينظرون إليَّ بنظرة غريبة، ويحملقون بوجهي وكأنني مخلوق غريب، كان الشاب المجنون يضحك بقوة، والسيارة منطلقة بسرعة، فتفاجئتُ بأنه قد فتح باب السيارة وهي منطلقة، فقفز منها، حاولت أن أمنعه فلم أستطع، والركاب يقهقهون بأعلى أصواتهم، كانت السيارة المتهالكة تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال وفجأة وجدتها وقد تحولت إلى عربانة خشبية بأربعة عجلات، كنا نجلس جميعا بها والكل يصرخ ويهتف حولي(أجه الحجي أجه هله، أجه الحجي أجه هله)، شعرت بأنني تائه في جوقة مريعة من الرقص والغناء والطبول والزمارات، كان الناس مسحورين، فتذوقت حلاوة الجنون، كان الرجل المجنون يشير إلي من بعيد ضاحكا بضحكته الهستيرية، وكانت العربانة منطلقة بسرعة يتناوب على دفعها رجال بوجوه شيطانية ضاحكة نحو الهاوية.


بابل- الثلاثاء
‏12‏/12‏/2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى