حمزة الذهبي - أديب وصل هوسه بألف ليلة وليلة إلى درجة قراءتها بترجمات عدة ومختلفة

هناك العديد من مؤلفي الكتب الذين تأثروا كثيرا ، إلى حد الإفتتان إن لم أقل الهوس ، بألف ليلة وليلة ، ذاك الكتاب السحري الخالد ، المليء ، حد الثمالة ، بالحكايات - الغريبة ، العجيبة ، الخارقة ، الخارجة عن المألوف، التي تأسر لب القارئ / المستمع وخياله - والتي تسردها شهرزاد على الملك شهريار وذلك لعدة أسباب يمكن تلخيصها في سببين: أولهما - ثانوي - من أجل الحفاظ على حياتها … وثانيهما – رئيسي - لتعالجه ، ‘ن صح القول ، من أوهامه وهواجسه .
إذ أنه ، أي شهريار ، كما تعلمون ذلك جيدا أيها القراء الكرام ، إثر إكتشافه خيانة زوجته له . اسودت الدنيا في وجهه وأضحى مجنونا بالكامل ، سجين هواجسه ، تتملكه وتستحوذ عليه نزعات سادية تدميرية إتجاه العنصر النسوي ، كرد فعل عن الفعل الأول أي الخيانة وهو رد فعل يمكن القول عنه أنه وإن كان موجها للآخر/المتمثل في المرأة ، من أجل سحقها - بعد قضاء ليلة معها - كي يتفادى أن تخونه ، فهو رد فعل يسحق الذات القائمة به أيضا لأن تدمير الآخر في النهاية هو في الآن نفسه تدمير للأنا .

وقد تمكنت شهرزاد من تحقيق مهمتها على أكمل وجه ، إذ يقول الأديب المغربي عبد الفتاح كليطو في حوار مع كاظم جهاد موسوم ب وعالجته بالحكاية : لا يجادل أحد في كون شهرزاد عالجت شهريار وخلصته من وساوسه بفضل ما روت له.2
على أي ، من بين هؤلاء الكتاب الذين تغلغلت الليالي في نفوسهم وأثرت في أدبهم تأثيرا كبيرا نذكر على سبيل المثال لا الحصر إذ لا يتسع المجال ولا الوقت لذكرهم كلهم:
- ديدرو
- فولتير – يقول طه حسين في مقدمة ترجمة قصة زاديغ : مر بفولتير طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة ألف ليلة وليلة فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه وأخرج للناس قصصا شرقية بارعة
- غارسيا ماركيز
- الطاهر بنجلون
- عبدالفتاح كليطو
- المكسيكي خورخي فولبي
بيد أن هناك كاتبا واحدا ، لا غير ، إرتبط وإقترن إسمه بهذا العمل ، فما إن تذكر ألف ليلة وليلة حتى يذكر إسمه ، وذلك لأن أثر هذا الكتاب الخالد الذي ترجم إلى معظم لغات العالم يبدو واضحا في العديد من أعماله وأيضا في محاضراته وحواراته .
هل إذ قلنا أنه كان مهووسا بهذا العمل هوسا شديد نكون قد جانبنا الصواب ؟
لا ، نحن لم نجانب الصواب ، لأن هوسه بألف ليلة وليلة بلغ به الى درجة قراءتها بكل ترجمات اللغات التي يعرفها وهي الإسبانية ، الإنجليزية ، الألمانية ، الفرنسية . بل ذهب به الأمر إلى أبعد من ذلك ، إذ أنه وهو في عامه السابع والثمانين حاول تعلم لغة الضاد على يد أستاذ مصري من الإسكندرية من أجل قراءة الليالي ، لكن العمر لم يسعفه لفعل ذلك . هنا نلقي سؤال آخر مثلما يلقي صبي حجرا في بحيرة ماء هادئة :
لماذا أراد هذا الكاتب قراءة هذا الكتاب باللغة العربية ؟
يجيبنا على ذلك عبد الفتاح كليطو بالقول : كان يود قراءة كتاب ألف ليلة بالعربية لفك سره المفترض وجوده في هذه اللغة بالذات ، يود كشف مكنونه ورؤية ما لم يبصره حين قرأه بلغات أوربية ، وكأن الأمر يتعلق بسر الوجود ولغز الأبدية ، كان يتمنى وهو على حافة الموت أن يجد فيه كلمة السر التي تتيح له ولوج العالم الآخر واكتساب حياة جديدة 1
فمن يكون هذا الكاتب الذي لم يمهله العمر من أجل إكتشاف السر، سر الليالي؟3
إنه الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي تشبه ذاكرته " مكتبة بابل " 2 إذ أنه غالبا ما كان يدهش المستمعين والمحاورين بذاكرته التي تنتقل بتلقائية وألفة ما بين الأفكار والفلسفات القديمة والأشعار الخالدة .3
من أهم الكتاب العالميين في القرن العشرين ، وصفه ماريو فارغاس لوسا بأنه أهم كاتب في اللغة الإسبانية منذ سرفانتيس . نهل من ثقافات وحضارات شتى فأصبح كاتبا كوزمبولوتيا. يمكن القول عنه، أنه أكثر من مثل اللقاء بين ثقافات العالم وحضاراته 4
قارئ استثنائي قبل أن يكون كاتبا مدهشا ، متواضع ـ يقول في محاضرته السادسة التي ألقاها في جامعة هارفرد حيث دعي ليلقي سلسلة من المحاضرات عن الشعر جمعت في كتاب تحت عنوان صنعة الشعر ترجمة المترجم القدير صالح علماني : إنني أعتبر نفسي قارئا في الأساس ، وقد تجرأت ، كما تعرفون ، على الكتابة ، ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته .
ولد في بيونس أيريس ، في الرابع والعشرين من أغسطس عام 1899. في كنف عائلة مستنيرة وغنية بتنوعها الثقافي ، فالأم كانت ذات أصول إسبانية برتغالية، أما لأب فكان ينحدر من أصول إنجليزية وكانت لهذا الأب مكتبة ، هذه المكتبة كان لها دور كبير في حياة بورخيس الأدبية وفيها تعرف على العديد من الكتب الخالدة من بينها كتاب ألف ليلة وليلة الذي سيطر عليه وهو لم يتجاوز الحادية عشر من عمره ، واستولى على كيانه بالكامل.
في هذا السياق يقول سعيد الغانمي في مقدمة ترجمته- لكتاب بورخيس الصانع-الموسومة ب رؤيا عاشق المتاهات أن بورخيس في إحدى حواراته يذكر ما يأتي : " كانت عند أبي مكتبة كبيرة . وكان مسموحا لي بقراءة أي كتاب منها ، حتى تلك الكتب المحظورة على الأطفال في العادة . من ذلك مثلا كتاب ألف ليلة وليلة بترجمة كابتن بيرتن . قرأت الكتاب بكامله وهو كتاب أراه يزخر بالفواحش التي لم ألاحظ أيا منها في ذلك الحين ، لأن ما كان يهمني منها حينئذ هو سحر ألف ليلة وليلة . لقد استولى علي ذلك السحر.." ويظهر هذا الاستيلاء - بالإضافة إلى كل ما أسلفت أعلاه - في انتحاله بعض المقاطع وتقليده بعض الحكايات ، ثم وقوفه كثيرا عند عنوانها وتخصيصه للعديد من المقالات حولها ثم قيامه بدراسة حول ترجمات ألف ليلة وليلة .
بالإضافة إلى مكتبة الوالد التي اكتشف فيها ألف ليلة وليلة ، هناك أمر أخر شكل لحظة فارقة في حياة بورخيس الذي يبدو اليوم أقرب إلى أن يكون شخصية روائية ، متخيلة ، منه إلى شخصية حقيقية من لحم ودم . ولا غرابة في هذا إذا علمنا بأن البعض شك في وجوده من عدمه واعتبروا أن بورخيس شخص لا وجود له ، بل هو نتاج / اختراع لمجموعة من مؤلفي الكتب والمثقفين الأرجنتينيين الذين نشروا وهم متسترون وراء قناع شخصية خيالية عملا أدبيا مشتركا وأن الشخصية المعروفة باسم بورخيس ذلك الضرير العجوز بعكازته ، وابتسامته المريرة هو ممثل من أصول إيطالية – أنظر مقال أنطونيو تابوكي الموسوم ب هل وجد بورخيس فعلا ؟ - والبعض الآخر جعلوا منه شخصية سواء رئيسة أو ثانوية في رواياتهم وقصصهم ، لنذكر منهم على سبيل المثال:
الطاهر بنلجون في روايته طفل الرمال ، إذ جعله من الرواة الذين حكوا قصة الأنثى التي خلق منها الأب الذي ينجب الإناث فقط – سبع إناث - ذكر غصبا عنها . وذلك تجنبا للعار الناتج عن إنجاب الإناث في المجتمع الذكوري الأبوي .
قلت أنه بالإضافة إلى مكتبة والده التي وصفها بأنها الأثر الأهم في حياته ، معتبرا أن ذكريات طفولته هي ذكريات الكتب التي قرأها 5 هناك أمر أخر شكل لحظة فارقة في حياته الأدبية وهو إصابته بالعمى نتيجة ضعف وراثي في النظر ، إذ نجدهذا العمى حاضرا في الكثير من أعماله ، فهو لم يتبرم من عماه ، بل قبل به دون أسى ، وجعل من تردده وسط الظلال موضوعا للمديح – مديح الظل – لأنه كان يستشف من خلالها نورا داخليا ، ولذلك سمته مارغريت يورسنار الأعمى الرائي 6
أضحى عماه منجما للكتابة الإبداعية فها هو يكتب عن عماه بطريقة لا تخلو من سخرية قائلا : لم تكن هناك لحظة حاسمة ومحددة ، حل ذلك مثل غسق صيفي بطيء . كنت مديرا للمكتبة الوطنية ( في بوينس أيرس ) وبدأت أجد نفسي، شيئا فشيئا ، محاطا بكتب بلا أحرف ، ثم فقد أصدقائي وجوههم ، ثم لاحظت أن لا أحد في المرآة .
ومن المفارقات التي ينبغي ذكرها على سبيل الختام أنه قد عمل أمينا للمكتبة الوطنية في الأرجنتين قبل بورخيس شخص يدعى غروساك وانتهى مصيره أيضا إلى العمى .
وقد كتب بورخيس على هذه المفارقة قصيدة عن الهبات يقول مما يقول فيها :
من منا ، نحن الإثنين ، يكتب الآن هذه الأبيات
عن أنا متعددة وكآبة واحدة ؟
وماذا تهم الكلمة التي تمثل اسمي
اذا كانت اللعنة التي حلت بنا واحدة
عود على بدء :
يتضح مما سبق أن كتاب الليالي الذي يشبه صندوق الدمى اللانهائي ، قد تأثر به الكثير من الأدباء المحليين والعالميين إن صح القول ، لكن وحده بورخيس - ذو الأصول الأرجنتينية الذي رحل عن عمر يناهز 87 عاما بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس في النصف الثاني من القرن العشرين مخلفا وراءه إرثا أدبيا عميقا جسد إمكانيات اللقاء بين الحضارات - من وصل هوسه بهذا الكتاب هوسا لا حد له مكنه من تأسيس مملكة الخيال المترامية الأطراف .
هنا نطرح سؤال تاركين القارئ الكريم يتكفل بالإجابة عليه :
هل اشتهر بورخيس بسبب الليالي أم أن الليالي زادت شهرتها بسبب بورخيس ؟





المراجع التي اعتمدت عليها :

1-بحبر خفي عبد الفتاح كليطو
2- عيسى مخلوف الأحلام المشرقية بورخيس في متاهات ألف ليلة وليلة
3- بورخيس ومصادره الإستشراقية . أ. باهرة مجمد عبد اللطيف
4-عيسى مخلوف الأحلام المشرقية بورخيس في متاهات ألف ليلة وليلة
5- عيسى مخلوف الأحلام المشرقية بورخيس في متاهات ألف ليلة وليلة
6-بورخيس صانع المتاهات ترجمة وتقديم محمد آيت لعميم
أعلى