أ. د. عادل الأسطة - صباح مبكر..

في الصباح المبكر، أيام العمل، تغادر منزلك الى مكان عملك. الشوارع تذرعها ارجل المارة، عمال، طلاب، طالبات، والشوارع تسير فيها الحافلات تقل هؤلاء وهؤلاء، وأنت تسير وتسير، تبدو فرحاً بالحياة، فهل الحياة الا العمل؟ عمال النظافة، بائعو الخضار والفواكه، والمراييل الخضر، والفتيات المقبلات على الحياة، ونشدان الرزق. وأنت تسير تسير فرحاً بشيء ما، خفي كما قال الشاعر. تترحم عليه، وتكرر معه: على هذه الارض ما يستحق الحياة، تكرر معه: ونحن نحب الحياة اذا ما استطعنا اليها سبيلا.
تذرع الشوارع ولا تذهب الى مجمع السيارات، مجمع السيارات هذا في وسط المدينة. منها الى الجامعة ومنها اليه، في الصباح يبدو مكتظاً بالطلاب والطالبات والكل يريد ان يصل الى الجامعة حتى لا يتأخر عن موعد المحاضرة. تذرع الشوارع وتسير باتجاه الجامعة، حتى اذا ما رأيت حافلة فارغة اشرت الى سائقها: الى الجامعة. (عند الظهيرة وأنت في المجمع ترى الركاب زرافات زرافات. لا احد ينتظم في الدور. تقول لمحمود: يا محمود اما من وسيلة لأن ننتظم في صف واحد؟ يجيبك: هذا محال. وفي السيارة تقول لأبي هاشم: يا ابا هاشم: اما من طريقة لأن ننتظم واحداً واحداً فلا يعتدي احدنا على دور الآخر؟ ويجيبك: تطلب المحال، وتواصل حديثك: شرطي واحد والكل سيصف بانتظام. هكذا يبدو الامر في الاردن الآن. ويقول لك ابو هاشم: ربما يحدث هذا بعد عشرين عاماً. وفي المجمع تغدو واحداً من مئات يتسابقون ليستقلوا الحافلة، وتضطر لأن تسأل عن المواعيد التي لا تكون الازمة فيها بدأت. هل تتذكر ما يكرره الناس عن (موشيه ديان) وسبب هزيمة العرب ومتى يمكن أن ينتصروا؟ هل نحن متخلفون عن شعبنا في الاردن عشرين عاماً؟
يقلك السائق الى الجامعة، السابعة والنصف والحركة نشطة. ازمة ازمة سيارات. حتى تتجاوز المائة متر قد تحتاج السيارة الى ربع ساعة. ما ان تقترب من الجامعة حتى يخبرك السائق انه لا يستطيع مواصلة الطريق، فمعه طلب وقد تأخر عن الركاب، هل كان محقاً؟ أنت تدري، فالمسافة المتبقية، وهي لا تتجاوز المائة متر، تحتاج الى ربع ساعة اخرى، فكيف يواصل طريقه، ولا بد من عذر: معي طلب.

2- صباح مبكر
تنزل من الحافلة وتمشي. انت مضطر لأن تمشي اصلا، تحرق السكر الزائد في الدم، وتحرك عضلات جسمك، ولربما تستقيم فقرات عمودك الفقري، فالرابعة والخامسة منه متكلستان، لا بد من مشيء، هكذا نصحك غير طبيب، وهكذا نصحك الطبيب الذي رأى صورة الرنين المغناطيسي، البنايات على جانبي الشارع، فيلل الاثرياء، ومباني الجامعة، الفيلل انيقة تسر الناظرين، والرصيفان نظيفان، لا اوساخ، الا ما ندر، ولا تراب، ورياضة الصباح ضرورية.
وأنت تقترب من مدخل الجامعة ترى الشباب والشابات انيقين جادين ثمة فتاة تبدو لافتة: ملابسها لافتة ايضاً. بنطال أبيض ناصع البياض، وبلوزة فستقية اللون، كأنما فصلت الملابس على قدها المياس. يبدو بنطالها مثل بنطالات (التايت). انت ترى ولا تعلق. هذه حريات، وكم من شابة ارتدت مثل هذه الملابس، ثم فيما بعد ارتدت الزي الشرعي. هذه حريات (تتذكر صديقاً كان يساريا، تتذكره يوم خطب، خالف العادات والتقاليد السائدة لم يرسل امه أو اهله للفتاة، ذهب هو مباشرة وخاطب ولي امرها. واليوم! كيف يتصرف اليوم. يصلي في الصف الاول في الجامع، وحين زوج ابنته - هكذا سمعت - كان الزواج اسلامياً والله يهدي من يشاء).
انت تنظر وترى ولا تعلق، ثم ما هو شأنك بها؟ وقد تغدو الفتاة ذات يوم متشددة دينياً: في اللباس وفي الصلاة وفي النهي عن المنكر وفي الامر بالمعروف، وقد تتحول الى قوة ضاربة.
لم يرق زي الفتاة لحارس كان واقفاً على مدخل الجامعة، لعله محافظ، قد يكون من المدينة، وقد يكون من الريف، وقد يكون توجهه اسلامياً يبارك ما فعلته حماس في غزة: لا للبس التايت. لا لتدخين النارجيلة. وسيرتفع صوته: قولي الله يعدمك ابوك، ويكرر العبارة ولا يكتفي، لو سمعته لربما رفعت فيه شكوى قد تؤدي الى فصله. وسيخاطبك: قل آ يا دكتور، وسترد عليه: هذه امور شخصية. وهذا تدخل آخر منه. تلح على ذهنك في الاسابيع الاخيرة الكتابة ثانية عن ترييف المدن وأسلمتها. ترييف بغداد الذي كتب عنه شوقي عبد الامير. ترييف القدس الذي كتب عنه محمود شقير، وأسلمة غزة.
وأنت تقرأ الزلزال للطاهر وطار تأتي على الفكرة، تقول: سأتخذها مدخلاً لكتابة مقال، وتقول هذا في المحاضرة التي القيتها في ذكرى الاربعين لوفاته: اهي الاسلمة ام الترييف؟ تتجادل مع الحضور. صباح مبكر، الفتيات يدخلن الى الجامعة مثل ورود تتفتح، يروق هذا لبعض الناس ولا يروق لآخرين.

3- صباح مبكر
الجمعة صباحاً تصحو من النوم كما تصحو في أي يوم آخر. لا فرق. تجلس على الشرفة ترتشف قهوتك. (أنت تشرب النسكفيه لا القهوة فلماذا تصر على استخدام دال القهوة/ ألأنه عربي؟) . تجلس على الشرفة ساعة ونصف ساعة ثم تشطف الدرج. هذه عادة غدت شبه أسبوعية. كل جمعة تنظف الدرج في الصباح المبكر. تمارس تمارين رياضية لعل تكلس فقرات العمود الفقري يزول تلقائياً. تمشي في المنزل ذهاباً واياباً. تمشي نصف ساعة، ثم تحلق ذقنك، وقد تفرغ أمعاءك من الفضلات وتستحم منتظراً الساعة السابعة والنصف، حيث تأتيك الجريدة التي تشتريها كل يوم، باستثناء الأعياد. وتبدأ بقراءة المقالات التي تقرأ لأصحابها دائماً، الجمعة لا تقرأ أدباً، فصفحات الثقافة تصدر يوم الثلاثاء، ثم إنك لا تملك حاسوباً في المنزل.
الجمعة صباحاً تقرأ مقال إلياس خوري: محمود درويش: الهوية وسؤال الضحية، فتتذكر عنوان كتابك: سؤال الهوية: فلسطينية الأدب والأديب، وتسأل: هل اطلع عليه إلياس خوري؟
كان إلياس كتب عن درويش قبل ان تبدأ أنت تكتب عنه. كتب عنه في شؤون فلسطينية، وأعاد نشر ما كتبه هناك في كتابه: الذاكرة المفقودة، ثم كتب عن درويش ثانية في كتابه: دراسات في الشعر العربي، فحلل قصيدة سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا.
يروق لك ما كتبه، ولكنك تتوقف امام بعض أخطاء. جل من لا يسهو. أنت أحياناً تقع في أخطاء مثل هذه. تبحث عن هاتف إلياس لتتصل به، فلا تجده. كانت الطالبة التي أشرفت على رسالتها، وكانت عن روايته: باب الشمس، أحضرت رقم هاتفه إليك، ولكنك لا تجده. هل استأت؟ ربما
وستدون بعض ملاحظات على المقالة، فهي سوف تنشر في مجلة فلسطينية، وستحزن للأمر. حتى لو أبلغته فلن يكون هناك وقت كاف لتصحيح الأخطاء. المجلة ستصدر في 82/9/0102، واليوم هو الجمعة 62/9/0102.
وتخاطب إلياس من بعيد: أيها المارون بين الكلمات العابرة، لعل الخطأ مطبعي. ومؤلف الكتاب عن عابرون في كلام عابر ليس محمد علي طه، وتود ان تكتب عن أنا المتكلم في قصيدة سجل أنا عربي. تود، فلك رأي آخر مغاير. وتبحث عن الكتاب الذي صدر عن دار الأسوار فلا تجده في مكتبتك، لمن أعرته؟ صباح مبكر، وقد يعتريك بعض الحزن.

4- صباح مبكر: رمانة
ما الذي ذكرني بها؟ لا أعرف امرأة بهذا الاسم شخصياً، ولم أكتب عنها من قبل لترسخ في ذاكرتي. لعله موت مؤلف القصة. مات الطاهر وطار في آب، وكان لا بد من قراءة بعض أعماله لأتحدث في المناسبة، فأنا أستاذ الأدب العربي الحديث، ولقد تحدثت عن عبد الرحمن منيف والطيب صالح ومظفر النواب، سأتناول مجموعة "الطعنات" التي أعاد طباعتها في الارض المحتلة الشاعر أسعد الأسعد. من يذكره الآن شاعراً؟ ربما يذكره البعض روائياً! ربما!
صباح السبت والساعة الآن السابعة والنصف، حركة السيارات خفيفة والناس ما زالوا نياماً، وأنا شربت قهوتي ونظفت غرف منزلي وتناولت افطاري. ماذا سأفعل في المدينة لو ذهبت اليها مبكراً؟ أتناول مجموعة "الطعنات" وأقرأ رمانة كنت قرأتها في نهاية سبعينيات ق 02، يوم كنت مدرساً في النصارية في الغور. كنا مفتونين باللاز والزلازل والطعنات والشهداء يعودون هذا الاسبوع، ووطار أول أديب جزائري قرأنا له. كنا شباناً نقرأ ونخربش ما نسميه نفداً، وكنا أحياناً نسافر إلى رام الله وبيت ساحور وغزة وعكا وحيفا والناصرة، وقد ننام هنا أو هناك.
هل بقي من رمانة شيء في الذاكرة؟ ربما اعجاب صديق لي بها.
سأقرأ صباح السبت رمانة. سأنفق ساعتين في ستين صفحة من الحجم المتوسط، ولسوف اسأل: هل بقي في العالم شيوعيون مثل الشيوعي الذي بدأ في القصة؟ الطاهر وطار نفسه في قصته "اشتراكي حتى الموت" كتب عن تغير بعض هؤلاء زمن الاستقلال وتراجعهم عن أفكارهم. الشيوعي المناضل في رمانة، مدرس الشعب ومربيه، يتحول في اشتراكي حتى الموت إلى برجوازي صاحب ثروة يترفع عن الشعب. أتذكر مقولات الناقد الفرنسي (ميخائيل ريڤاتيري) الذي درس قصيدتين لـ(بودلير) وقال انهما تعكسان البنية نفسها. هل ربط النقاد الجزائريون بين رمانة واشتراكي حتى الموت؟
رمانة الفتاة الفقيرة يحولها الأثرياء، بعضهم، زمن الاستعمار إلى عاهرة، ويريدون ان يضاجعوها وان يستفيدوا منها. يأخذونها من حيها الفقير، لتغدو بائعة هوى، وييسر الله لها شيوعياً متخفياً، فيحترمها ويعلمها، ويحولها - دون ان تدري- إلى فتاة تساعد الحزب وتنقل أخباره إلى رفاقه. هكذا كان المناضل الشيوعي، ولكنه في اشتراكي حتى الموت تغير. هل أتتبع حال الشيوعيين الفلسطينيين؟
صباح مبكر أقرأ رمانة وأعود ثلاثين عاماً وعاماً إلى الوراء، كنا نعلم في العقربانية، ونعيش بين الناس الفقراء. ألهذا راقت لنا رمانة يومها؟


عادل الأسطة
2010-10-03

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى