سي حاميد اليوسفي - المحفظة الضائعة وهدم المباني المحتلة للملك العام

قبل النوم عقدت العزم على أن أستيقظ باكرا، وأذهب إلى مقر التعاضدية العامة للتعليم.. في مثل هذه المواقف، اعتدت على أن ما أقرره في الليل، أتراجع عنه في النهار..
خرجت من المؤسسة التي أشتغل بها قبل الوقت المحدد.. لم أعمل في الحصة الأخيرة، لأنه لم يلتحق بالقاعة سوى تلميذ واحد، فأجّلت الدرس إلى الحصة القادمة، ثم انصرفت..
لا أتذكر المسافة التي قطعتها.. يظهر أن المدة التي غادرت فيها القسم تقارب العشرين دقيقة.. فجأة اكتشفت أني نسيت المحفظة في القاعة.. توقفت عن السير.. وضعت يدي على رأسي.. أحسست كمن طُعن بخنجر في صدره.. لو لم أضع فيها الهاتف، وأجرة الشهر التي سحبت من البنك، لما أحسست بأي ألم أو حسرة.. الناس لا تهتم بالكتب والأوراق والأقلام، فهي لا تساوي عندهم شربة ماء.. قررت العودة إلى القسم، وأنا أتخيل أن أحدهم فتح المحفظة ، وأخذ الهاتف والنقود ثم مزقها، ورمى بها خلف حائط مكان مهجور كما يفعل اللصوص عادة..
التقيت في الباب بزميل يعمل في الإدارة.. لحسن الحظ، وجدنا تلميذا يُقيم بالداخلية في القاعة، ومعه المحفظة.. قال بأنه وجدها رفقة أحد أصدقائه الذي خرج قبل قليل.. قررت أن أكافئه بمائة درهم ، وطلبت منه أن يقتسمها مع صديقه..
خرجت من المؤسسة، لكن هذه المرة رفقة زميلي.. مررنا بحي شعبي من أزقة جد ضيقة، لكنها خالية من المارة.. أحسست بالعطش، وقررت شراء ماء معدني.. أغلب الدكاكين التي مررنا بجانبها بدت قديمة ومهترئة، تشبه حوانيت نهاية الستينات من القرن الماضي.. ويبدو من الغباء أن تسأل أصحابها عن الماء المعدني..
خرجنا من الزقاق إلى شارع كبير.. فكّرت في آخذ سيارة أجرة.. الطريق إلى البيت بعيد جدا، ولا يمكن أن أقطعه راجلا.. رأيت دكانا في الواجهة الأخرى للشارع، فتذكرت الماء.... قطعنا الطريق.. دخلنا المحل.. وجدنا صاحبه يقدم بعض السلع، ويتقاضى أجرها من إحدى الزبائن، ويتحدث مع شخص آخر يبدو أنه صديقه.. سألنا صاحب الدكان عن الماء، فدخل صديقه الى ركن المتجر، ومدنا بقنينتين من حجم نصف لتر.. قدمت له ثمانية دراهم، لكنه طلب مني إضافة درهمين..
اشترينا الماء، وقطعنا الشارع الى الجهة الأخرى.. فجأة تذكرت أني وضعت الحقيبة في الدكان أثناء انتظار تسلم قنينتي الماء.. عدنا مرة ثانية إلى الدكان.. وعلى بعد خطوات رأيت المحفظة تلمع بلونها الأسود، وراء الرجل الذي كان يتحدث مع صاحب الدكان، لكن عندما سألته، تنحى قليلا، فمُسخت المحفظة، وتغير شكلها ولونها.. رفع الرجل المحفظة فبدت نسوية، وفي لون بيج.. إلى هنا قفزت من الفراش، وأنا أردد مع نفسي اللهم اجعله خيرا..
نظرت إلى الساعة في الهاتف فوجدت أن الوقت لازال مبكرا على النهوض، فعدت إلى الفراش.. ونمت من جديد..
فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، فرأيت نفسي في شاطئ (إيمسوان)* واقفا مع الناس أتابع عمليات الهدم التي تمارسها السلطات المحلية على يمين الميناء.. قرية صغيرة أسفل الجبل، لكنها تبعد عن الأرض بحوالي عشرة أمتار أو أكثر.. بيوت من طين تآكلت صباغتها بين اللون الأبيض الذي يزين الجدران، واللون الأزق الذي يزين النوافذ والأبواب.. ينزل منها الناس إلى الشاطئ عبر سلالم اسمنتية.. أغلب السكان فقراء، يعمل البعض منهم في قوارب صيد تقليدية.. رب أسرة في الخمسينات يبكي بحرقة على البيت الذي ورثه عن والده.. قال بأنه وُلد وكبُر وتزوج وأنجب ثلاثة أبناء في هذا البيت.. واليوم أجبرته السلطة على الخروج منه بالقوة، وهدمه أمام أعين زوجته وأطفاله وجيرانه.. قالوا: بأنه ملك عام للدولة، ومن حقها أن تسترجعه..
نهضت من النوم فزعا.. ذهبت إلى الصنبور لغسل وجهي.. بعد ذلك أعددت فنجان قهوة.. وأنا أتناول الفطور، قفزت بي الذاكرة إلى سنوات التسعينيات من القرن الماضي عندما كنت أقضي العطلة الصيفية ببعض الشواطئ المغربية المُطلة على المحيط الأطلسي.. تذكرت الفيلات الفخمة التي تشبه القصور في تمارة والصخيرات وبوزنيقة والواليدية.. مساكن فخمة شُيدت فوق رمال هذه الشواطئ.. لا أعتقد أن قائد ملحقة، أو عامل إقليم أو حتى من يُصدر لهما الأوامر، يستطيع أن يأتي بجرافة، وفريق من القوات المساعدة لهدم هذه الفيلات التي تعود ملكيتها لشخصيات من أعلى الهرم الإداري والاجتماعي..
قلت مع نفسي لو أن السلطة أعطت المثال بهدم هذه المساكن التي يملكها مواطنون من أعلى الهرم، لربما صدّق المواطنون من درجات سُفلى أنها تنوي فعلا استرجاع الملك العام..
في الطريق حاولت جاهدا البحث عن رابط بين حلم المحفظة الضائعة، وحلم هدم المساكن والبنايات التي تتهم السلطة أصحابها باحتلال الملك العام، فلم أفلح.. بدا أن الحلم الأول ضرب من الخيال، والثاني حدث بالفعل. لذلك فكرت بعد العودة من مقر التعاضدية أن أسأل الشيخ جوجل عن ابن سيرين لتفسير الحلمين، ومعرفة رأيه في الموضوع..


المعجم:
ـ إيمسوان: شاطئ جميل بين مدينتي الصويرة وآكدير.. يقع في منحدر، يبعد عن الطريق الرئيسية بحوالي عشرين كيلومترا..


مراكش 28 فبراير 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى