كاظم جماسي - الأمر يستحق العناء

لا يدري أحد، حتى هو نفسه، متى أمسى موظفاً في سلك الخدمة المدنية، كما هو الشأن مع لحظة أن يولد المرء، بلا أية إرادة للأختيار..، كان كل ما يفعله هو الترقب طوال مدة خدمته، صعود الدرجة تلو الدرجة، بصبر نافد، في سلم الوظيفة، لعله يفضي به الى أريكة (الطمأنينة) الأخيرة..

أذا ما أزف موعد إستلام مرتبه الشهري، كان يصاب بحمى فرح نزفية، بدءاً من الليلة السابقة للموعد حتى لحظة أن يقبض على تلك الأوراق السحرية، يعدها متمهلاً، يشمها، يقبلها بشغف، ثم يدسها بهدوء في محفظته، ليركنها أخيراً داخل جيب لصق قلبه.

كل مطلع شهر، يعيش يوماً كهذا اليوم، يخرج في الصباح الباكر جذلاً على غير عادته، لا تسع الأرض بهجته، يموسق خطاه في شوارع المدينة، على أنغام متصاعدة من قيثارة روحه، يتطاول كيانه حد الأعتقاد بسطوة كلية القدرة على امتلاك كل شيء..، يزجي النهار حتى مقدم الليل، بغيرما هدى، متجولاً في كل جادة وعطفة من مدينته، مدينته التي عرفته، في أيامه الماضيات كائنا متحفظا، مستريبا، يمشي، على الدوام، جوار الحيطان..، فيما اليوم، هاهو فارد الصدر، مقداما، يتطلع بكبرياء الى واجهات المخازن والمطاعم، أو يدخل أحدى دور السينما، يأكل سندويشاً، أو يحتسي قنينة ببسي، ثم يشتري علبة سجائر ويحدث أن يتخلى للباعة، مرة أو اكثر عما تبقى من "مبالغ" الشراء..

هذا اليوم، كان قدر قرر سلفاً، الأكتفاء بالتجوال والفرجة فقط، من دون أن يمس المحفظة التي لن يحظى من محتوياتها، طوال الثلاثين يوما القابلات، سوى بنصفها، فالنصف الاخر سيذهب، هبة خالصة، كما كان يقضي الأمر الاداري الملزم للجميع، بالأسهام بدفع تكاليف أجراء عملية فتح إنسداد في أمعاء مديرهم الغليظة...

بنصف الهمة بدأ تسكعه، وبلامبالاة قرأ كل ماوقعت عيناه عليه من إعلانات لمحال وشركات ومطاعم ودور سينما، غير أن قدميه قادته، أثناء مسيره، دونما أية مقاومة، الى واجهة أحد المطاعم، إذ أمتلأت خياشيمه برائحة شواء جبارة، ألصق أنفه بزجاج الواجهة، وراح يرمق بنهم موائد الرواد العامرة بلذائذ الطعام..

ويحدث نفسه بنبرة ناقمة:- هذا إنتهاك آخر مضافا لحقوق الأنسان، أليس الإكل العلني إهانة لمشاعر الآخرين؟! ثم لم لايعي البعض ماللصوم من فوائد جمة؟!.

في لحظة أختل توازن جسده، أذ تدحرجت تحت باطن قدمه زجاجة بيبسي فارغة، فخر ساقطاً على وجهه، ومن فورها طفرت المحفظة من جيبه، ساقطة هى الأخرى، ولكن في فوهة مكشوفة لبالوعة مياه ثقيلة..، صرخ هلعاً:- محفظتي.. محفظتي..

ما قبل اللحظة، كان الشارع يعج بمواطنيه، أما الان فقد امسى قفزاً قاحلاً، ادار وجهه المدمى نحو كل الجهات، فلم يكن من منجد أو مغيث..، أطرق لحظة..، شاهد المحفظة تطفو هناك، فوق سطح المياه القذرة، وجد بعد حين، أن لا مناص من الهبوط أليها.. دلى ساقيه فجفلت أطرافه، حين راحت برودة الماء الثقيل صاعدة تتسرب خلل مسامات جلده، بينما كان بدنه يهبط رويداً رويدا، أعترته قشعريرة وكاد يتقيأ، حتى أمست فروة رأسه تحت فوهة البالوعة، ومستوى المياه كان قد بلغ أسفل بطنه.

كان صمتاً كريهاً يرين في الأسفل فيما عدا أصوات تشبه النواح تأتيه من قاع سحيق، وراح ضوء شحيح يغلف مساحة يسيرة من سطح المياه. قال لنفسه والنتانة تزكم أنفه:- (إنه قدري الأعوج الذي لا فكاك لي من الرضوخ لمشيئته). كانت المحفظة تتأرجح هناك على مرمى ذراع، مد يده يلتقطها، ولكن حدث- لسوء الحظ - أن تياراً هيناً تحرك دافعاً بالمحفظة الى أمام، تقدم ليلغي المسافة، غير أن المحفظة أبتعدت مجدداً، حاول أن يسرع في اللحاق بها، لكن التيار صار أسرع منه في دفعها، جرب القفز عليها ليمسك بها بيديه كلتيهما، ولكنه لم يجن سوى أوحال لطخت جبهته، وسوائل ثخينة راحت تسيل ببطء خلل طيات شعره، صرخ بغيظ:- اللعنة... فردد المكان أصداء ساخرة:- عِنَه .. عِنّه .. عِنّه ..، وكلما تقدم أكثر مضى جسده هابطاً أكثر، تبتلع المياه منه أجزاء جديدة، فيما المحفظة تنأى - دائماً- عن الإمساك بها..، يتوقف فتقف، يمشي فتركض.. تساءل متهكما:- هل أنا في مضمار للخيل، حيث باقة العلف ثابتة البعد دائما عن فم الحصان..

بعد زمن من اللهاث المتواصل، أخذ ضوء ما ينتشر بنحو متدرج، فوق سطح المياه، نظر الى أعلى فرأى بالوعة مكشوفة أخرى، وفاجأه صراخ أحدهم هلعاً:- محفظتي.. محفطتي.. ما لبث أن لمح محفظة أخرى جوار محفظته، وكان شخص آخر قد أستوى واقفاً بجواره، سأل الوافد، بعد تبادل نظرات هلعة، جاره:-

كم من الزمن، وأنت هنا؟

لا أدري.

أهي مهمة يسيرة؟

لا أدري.

كم من الزمن، لبلوغ النهاية؟

لا أدري.

وفيما مضى الاثنان يخوضان، كانت أقدامهما تتعثر، خطوة إثر أخرى، بكتل أسفنجية رخوة..، راحت تتكاثر كما الفطر عند القاع مكونة طبقة رجراجة متصلة، أما المياه فقد ظل مستواها يرتفع حتى بلغ ذقنيهما، قال الأول:

من أجل أمعاء مديرنا العزيز.. نسبح.

الأمر يستحق العناء.. نعم.. نسبح.

وأنهمك الأثنان يجالدان سباحة في مياه يثقل قوامها بإستمرار، الأول بجهد متضائل، أما الثاني لما يزل عند مفتتح (الماراثون)، فيما المحفظتان كانتا دائبتي الهروب..

كانت هناك، بعد زمن أيضاً، بالوعة مكشوفة ثالثة، وكان هناك ثالث، هلعاً، يصرخ:-

محفظتي.. محفظتي..



كاظم جماسي/ بغداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى