أمامة مُصطفى اللواتيَّة - الجائزة.. قصة قصيرة

“سيكون هناك اختبار”.. ردَّد الصوت ذلك طويلاً، حتى وأنا بين الحياة والموت أسمعه يقولها بحَزْم، وهكذا كان يُردِّد طوال الاختبارات التي كنتُ أتجاوزها كلَّ يوم. ومع كلِّ اختبار، أكتشفُ أنَّه لم يكن هو الاختبار المقصود.. كانت الصحراء مُنهكة مُمتدة، لا نهاية لها، ورغم اللثام الذي يُغطِّي وجهي، فإنَّ الشمس الحارقة كادت تسلخني.. اشتدَّ بي العطش والجوع في النهار الثالث، بدأت رؤاي تتوارى خلف سخونة الذكريات، أخذت أحداثَ الماراثون تتكرَّر، والصحراء تبدو كحلقات مفرغة لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.

كان طيرًا جميلاً.. كان يقفُ هناك بكلِّ هدوء وكأنه ينتظر مجيئي، كيف يُمكن لهذا الطير أن يُجازف بخوض هذه الصحراء القاسية التي تضربها العواصف الرملية العنيفة نهارًا، وتسكنها البرودة القارسة ليلا؟ رغم كل سباقات الماراثون السابقة التي قطعتها، والميداليات التي فُزت بها، إلا أنَّ الصبرَ لم يكن من الصفات الطاغية على تكويني. ليته كان دليلي حين هبَّت تلك العاصفة الشديدة لساعات طويلة، ولم أشأ حينها أن أُهدر وقتَ السِّباق في الانتظار. وحين أكملتُ مسيري، وجدتُ نفسي تائها في الصحراء الكبرى. لم أتردَّد كثيرا قبل أن أشرب من هذه القنينة؛ فقد نفدَ مائي منذ وقتٍ طويل، ولم يكُن أمامي سبيلٌ سوى أن أجمع بولي في هذه القنينة؛ لعلَّني أبقى حيًّا حتى اليوم التالي.

تتبعتُ الطائرَ وقد بدأتُ أشعر بجوع مُضنٍ، كان عليَّ أن أتبعه فحسب -هكذا كان يقول حَدَسي- فحتى لو أشرفت على الهلاك لن آكل لحم حيوان. تراءى لي من بعيد ما بدا أنَّه ضريحٌ في قلب الصحراء! أسرعتُ نحوه، ثم زحفت داخل الضريح وأنا أُلقم أنفاسي الغبار من تحت اللثام، لم أصدِّق ما أرى. خفافيش في الضريح؟ بدا شكلها جنائزيًّا في هذا الضريح الوحيد، قبضتُ بصعوبة على اثنين منهم، التقطت أحد الأحجار التي تساقطت من الضريح، كانت جوانبها حادة وكان هذا كافيا حتى أقطع رؤوس الخفاشين، جمعتُ دماءهما في القنينة التي فرغت الآن من بولي القليل، ارتشفتُ بعض الدماء وأنا أشعر بالانهيار لإزهاقي روح هذين الخفاشيْن الآمنيْن. هل يحقُّ لي أنْ أتركَ جسدهما الطري وأشرب من دمائهما؟ هل يجيز الرب ذلك؟

بقيتُ مُستلقيا هناك لعدَّة ساعات، وحين استيقظتُ شعرتُ بضعفٍ في بصري، أُدرك أنَّ ما سيتبع ذلك سيكون الأسوأ حين أبدأ بالهذيان وسماع الأصوات الوهمية. تلوتُ في قلبي صلاةً أخيرة، وعزمت على أن أضع حدًّا لموتي البطيء. قطعتُ معصمي بنفس الحجر الذي تلوَّث بدم الخفاشين، زحفتُ جيدًا داخل الضريح، فلو قضيت نحبي بين الرمال ستدفنني العواصف ولن يعثروا على جثتي. استلقيتُ باستسلام استعدادا للموت، لكنَّني أفقتُ بعد عدة ساعات لأجد الجرح الذي صنعتهُ في معصمي قد تخثر من شدة جفاف جسمي، ولم تبارحني دماء الحياة. خرجتُ من الضريح في أول الصباح، وجدتُ الطائر يتبعني، ثم يبتعد عني، ثم يعود ليتبعني.

تبًّا.. ألا يعلم الرب أنِّي نباتي؟ وأنَّ الدين الذي أمرني أن أتبعه، يقول إنَّ الرب حرَّم لحم الحيوانات المسالمة؟ لماذا إذا يضع الرب أمامي ما هو محرَّم باستمرار؟ لماذا في كل مرة يجب أن أخضع لاختبار الحياة وأنا أُوشك على الهلاك؟ وهنا فقط تأوَّهتُ وردَّدتُ ذاهلا: اختبار؟ اختبار؟

أهذا هو اختباري الموعود؟ أنْ أُصارع الموت بلذائذ الحياة؟ نعم، فما قيمة اتباع تعاليم الرب وأنت تنعم بالحياة؛ فذاك ليس باختبار حقًّا. فلابد من المعاناة، لابد من العذاب على طريق الخلاص. قلتُ بسخرية مريرة: يا ربِّي، ضع أمامي تفاحة واحدة، حتى لو كانت فاسدة.. فقط ضعها بجوار الطير الشهي، واعلم أنِّي لن أقرب سوى التفاح.. لكنِّي سمعتُ من أعماقي صوتا يقول: الموت أفضل من التفاح الفاسد!

واصلتُ ترديد صلواتي حتى انقطع صوتي وصار الهمس أنيني، تابعتُ سيري بعد أن اتخذتُ عصى أتوكَّأ عليها وأحمي بها نفسي من الضواري والزواحف.. حاولتُ البحثَ عن آثار الماشية والإبل لأتبعها، فأجد الماء والنجدة، ولكنِّي كنتُ في صحراء مُوحشة لا صلة لها بالعالم الذي ينتهي بانتهاء هذه الصحراء اللاهبة. بدأتُ أشعر بتنمُّل أطرافي، أخذتْ حرارتي بالارتفاع، بدأت بوادر الهذيان شيئا فشيئا؛ جفَّ فمي حتى أصبح كالخشبة اليابسة. سقطتُ على الأرض مُنهكا حين لمحتُ ذلك العجل. هل بدأت بالهلوسة ورؤية الصور الكامنة في عقلي الباطني؟ لا أدري، ولكن بدا لي أنَّ العجل ساهمٌ عن وجودي.. تُرى، هل وضعه الرب في اختبار هو الآخر؟ هل اختباره أن ينجح إنسيٌّ في ذبحه ونهشه وتمزيقه إلى لُقم؟! ألا يعلم العجل أنِّي لم أذُق طعم الحيوانات منذ سنوات رغم اشتهائي لها؟ أليست هي تلك المخلوقات الضعيفة التي لا يُمكن أن نستغل ضعفها لنشبع بطوننا؟! إنها معركة غير متكافئة تماما. ماذا عن الحيوانات الضارية؟ أتستحقُّ أن نأكلها بعد معركة شرسة مُتكافئة؟ ولكن أليست هـذه المخلوقات الضارية تُصارع من أجل وجودها وبقائها، وقد ألهمها الرب هـذه القساوة والضراوة، ولولا ذلك لأكلها بنو البشر أسوة بالحيوانات الوديعة؟ كيف يسعني أن أفكِّر وأُمعن في التفكير وأنا بهذا السوء من الجوع والإنهاك وفقدان الأمل والإيمان؟

فقدتُ أثرَ العجل وكأنه كان خيالاً ومضى، لم أعد قادراً على الوقوف، بدأتُ بالزحف.. لابد أن أتابع الحركة، وإلا طمرتني رمال هذه الصحراء، وقد تأكلني السباع إذا بقيتُ مُنكفئا على وجهي.. سيتفسَّخ جلدي علي أي حال، ولن يبقى مني غير العظام.

ظَهَر ذلك الظَّبي فجأة، كان يتقافز بكل خِفَّة ورشاقة، ثم بدأ بالاقتراب مني حين لاحظ سكوني الشديد، كان ظبيًّا جميلا، جميلا بكل مسارات جسده، كانت عيناه مسالمتين، صافيتين، جميلتين إنسانيتين على نحو لا يُمكن أن تكونا لحيوان. كان جسده شهيًّا، كان اللحم يلمع تحت رابعة النهار، كان اللحم على عظمه ممشُوقا واضحا مليئا بالرغبة في الهروب نحو الأفق. كان لظهوره مفعول الوجد على قلبي! أيكون هذا اختبارٌ آخر أم جائزة؟ وكيف يمكن للرب أن يبعث لي جائزةً لا يُمكن أن أنتفع بها، كيف للربِّ أن يضعني في اختبار عصيٍّ كهذا، أن أموت من الجوع، أو أن أخالف ديني الذي أمرني ألا أعبثَ بالمخلوقات الأخرى. لِمَ لا يدعني أنا والصحراء وحدي لأموت، دون أن أخسر إيماني؟ ألا يعلم الرب أنِّي إنسانٌ ضعيف؟ ألستُ ابن آدم الذي كانتْ الجنة بكل نعمها تحت يديه وأبى إلا أن يأكل من تلك الشجرة؟ تلك التفاحة…!

التفاحة؟

ألهذا لم يبعث لي الرب تفاحة؟ يا إلهي بتّ أهلوس.. وهذا الظبي ما زال هنا.. كيف يمكن لأي إنسان أن يلتهم حيوانا بهذا الجمال، كيف يُمكن له أن ينظر في عينيه ويقتله ليشوي أطرافه بالغة الجمال ويشبع بها بطنا لا يمكن أن يشبع أبدا؟ ربَّاه هذا الظبي ليس بحيوان قط، بل في عينيه ما ينبئني بأنه يشعر ويدرك ويحلم تماما كأي إنسان.. هل يُمكن أن يكون الرب فضله عليَّ وأرسلني إليه لأكون طعامه الذي سيُنجِّيه هو الآخر من الهلاك في هذه الصحراء؟ لماذا لا يكون هو جائزتي بعد أن أُنهكت جوعا وعطشا وتجاوزتُ كل المغريات التي وضعها الرب أمامي طيلة الطريق، لماذا لا يكون هذا الظبي -بالغ الجمال والكمال- جائزتي في نهاية الأمر وقد اجتزت كلَّ الموبقات؟

أصبحتُ أنا والظبي كعازفي كمان في هذه الصحراء الشاسعة، نعزفُ في تناغم، وتلوح وجوهنا الرياح الساخنة. استلقى الظبي بكلِّ هُدوء على الأرض الحارقة، كنتُ منساقا إلى حُضن هذا الظبي والتربيت عليه، وكانت هناك شهوة أخرى تتصاعد بداخلي، وتظهره لي كخلاصٍ من الجوع والموت في هذه الوحدة القاتلة. بقِيْنا نعزفُ في هذه الصحراء لساعات لا أدري كم طالت، هو بهدوئه وبقائه تحت نظري، وأنا أصارع باقي أنفاس الحياة، مرَّت ظلالٌ أمام عيني تبعتها غشاوة سوداء، وطرقتْ حواسي موسيقى لم أسمع مثلها من قبل، زحفتُ نحو الظبي وأنا أكاد أتنفَّس الرمل الذي غطَّاني وتناثر على عيني.. لا بد أن تُطعمني من جسدك أيُّها الظبي، عذرا وبؤسا لما أنا عليه، ولكن أتوسَّل إليك أن تطعمني من جسدك الشهي.. مددتُ يدي، مددتهما أكثر، أمسكتُ بساقيه، ثم حرَّرت إحدى يدي وأمسكت بعنقه، كنت أبلل شفتي من نبعٍ جفت مياهه تماما، كدتُ أتأكد من صلابة أسناني وقدرتها على التقطيع وهي التي لم تنهش اللحم يوما.. تحرَّر عنق الظبي من قبضتي، كان جسده يبتعد ويبتعد، ولكني كنت أشم رائحة الشواء، قِطع اللحم في فمي طرية ساخنة، أقضمها فتسيل منها عصارةٌ شهية تذوبُ في فمي بلذة طاغية، ما ألذ هذه الجائزة المحرمَّة!

* بعض الأحداث مستوحاة من قصة واقعية…!


* منشور بموقع شرق/غرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى