احمد خلف - الوليمة.. قصة قصيرة

كان وجه رئيسي في العمل يوحي لي بشاربيه اللذين يشبهان جناحي طائر يحلق على انخفاض، وبعينيه الصارمتي النظرة. هذا الوجه يوحي عادة أنه امضى ليلة سيئة وانه عانى الكثير من الهموم التي مبعثها الافكار الثقيله الموحيه بعدم خلاصه منها، وكعادته كل صباح يسألني:

ـــ هل نمت ليلة أمس مثلما حدث لي، أعني دزينه من الكوابيس والاحلام التي قضّت مضجعي كما يقال عادة ؟

كان صوته وهو يخاطبني بجدية وتركيز على مخارج الحروف والكلمات، يدفعني حقيقة الى الاصغاء التام وكذلك الاجابة الموحية بالمزيد من الاحترام لرئيس عملي : ـــ نعم ياسيدي حدث معي الشيء نفسه ولكن بدرجة أقل مما حصل معك..

في ذلك اليوم الذي هبّت فيه عواصف ترابية وطبقة من غبار خفيف جعل حالة الربو التحسسي تتصاعد وتيرتها لديّ ووجدت صعوبة في التنفس واضحة، في ذلك النهار القائظ أوحى لي رئيسي في العمل اننا مدعوان لدى الرجل الكبير الذي لا كبير بعده الا الله، وتيقنت على انه كان يتكلم بأيحاء من موقف سابق مع الاخرين اصحاب الوليمة القادمة، كان رئيسي في العمل ذا صلات متعددة الوجوه والمشارب وكذلك الاشخاص، وكما هو معروف لنا وبيننا نحن العاملين معه نعرف مقدرته في الوصول الى ابرز الاشخاص والاسماء بل لديه توصلات اخرى مع نساء ذوات حظوة ومكانة اجتماعية بارزة، علاقاته لا توحي بشائنة او مثلبة مع تلك النساء المقتدرات بتأثيرهن في حياة المجتمع بل هي صلات توحي بالكثير من العمل وانجاز متطلبات مشتركة فيما بين رئيسي وبينهن، كل هذا اعرفه عنه واعرف الكثير الموحي بنزاهة تفكيره لا بل وأعماله ونواياه، لا أقول هذا تزلفا او دفعا لكم لكي تنقلوه عني له وهو يعلم أني لست بحاجة للتزلف فيما بيننا، وهو الرجل الذي أمضى في العمل ردحا طويلا من الزمن معنا، ولم يعد بحاجة الى المتزلفين وهو المتذمر الكبير من ذلك الخراب وتلك الفوضى التي المّت بالديار والاصحاب كما يردد هو على مسامعنا بين حين وآخر :

ــــ لقد تغير كل شيء يا صاحبي اشياء كثيرة ما عادت كما هي أبدا.

ـــــ آه، ما تقوله صحيح يا سيدي.

وطلب مني ان تظل دعوة الوليمة المنتظرة سرية فيما بيننا والا نسمح للآخرين التقول بخصوصها، وأيّدت كلامه الذي اتسم بالتهذيب والاحترام الكبيرين، اذ دامت علاقتي به قرابة الربع قرن من الحياة، التي تمكنّا من صياغتها على افضل ما توحي به العلاقة بين مرؤوس ورئيس، وربما يعود الفضل او جانب منه الى مقدرتي على الصبر على كل حماقات الرؤوساء الذين هم على شاكلته، قد يوحي بالمزيد من التسرع والعنجهية في احيان كثيرة لكن وبتأثير تجربته الطويلة والعريضة أيضا كان يبدو لي انه يكبت الكثير من الافكار والعديد من حالات الغضب والاشمئزاز مما يجري من حولنا، وعادة ما ينطلق لسانه بسلسلة من الانتقادات للحكومة التي لا تعلم ماذا ينبغي عليها ان تفعل، وكنت ابقى صامتا وهو يكرر بعض عبارات مبهمة لا ادري من اين اتى بها لسانه..

يوم الذهاب الى الوليمة، تبادلنا النظرات الحيرى :

ـــــ ماذا علينا ان نفعل لو وجدنا الامر خلاف طبيعتنا؟

ـــــ لنا كل الحق في مغادرة المكان، اليس كذلك؟

لوح ذراعه في الهواء وحدّق بوجهي موضحا كلامه:

ـــــ لا أظن الامر بهذه البساطة، لابد من وجود شروط يلتزم بها المدعو للحفل، أو الوليمة كما يطلق عليها الان، وسوف تفرض علينا تلك الشروط مثلما يلتزم بها غيرنا واعلم ان جوهر الامر لا يتمثل بنوع الطعام الذي سيقدم لنا فحسب بل بالقناعه التي تفرضها علينا المناسبة!!

ـــــ ترى هل يصح لنا معرفة المناسبة قبل الدخول على حفل الوليمة؟

ـــــ انا شخصيا لا اعرف، لأنهم لم يخبروني ما المناسبة لدعوتنا لحضور وليمه كهذه..

كان غروب الشمس يضفي على صاحبي وهو في بدلته الرمادية اللون حديثة الصنع وربطة العنق الزاهية الالوان الممتزجة باللون الاحمر الطاغي على طلعته البهية، يضفي رونقا خاصا به وقد تبين لي أنه حسب لكل شيء حسابه، وانهم سوف يستقبلونه بالتمام والكمال وكما هو مفترض برجل مثل رئيسي في العمل، له شأن بين الرؤساء الآخرين الذين يحذرون التصادم به لأي غرض او مصلحة تهمهم او تعنيهم ويجدونه يقف لهم بالمرصاد يربك خططهم ويعطل نواياهم من التنفيذ، وهو بامتلاء جسده امتلاءا يوحي أن صاحبه رياضي اكتفى من دنيا الرياضة بما آلت اليه قناعته الشخصية الصارمة، كانت ربطة العنق ممزوجة الالوان بخلفية حمراء والبدلة الرمادية والنظرة المتأملة للأشياء لا مفر سوف تحب تلك النظرة الموحية بالكثير من المعاني الظاهرة والخفية التي لا تحتاج الى كثير عناء ..

واضح أننا جئنا الى الحفل مبكرين وقد سبقنا عدد قليل من الوجوه التي نعرف بعضها ولا نعرف البعض الآخر، شاهدت حركة واندفاع العاملين على اقامة الوليمة وترتيب مستلزمات احيائها بالصورة اللائقة بأناس معنيين باقامة الحفلات واعداد الولائم التاريخية كما اطلق عليها رئيس ونحن نتجه لأخذ مكاننا المناسب وسط جمهرة المدعوين الذين بدأوا بالتقاطر كلما تقدمت الساعة بضعة دقائق، نجد غيرنا وقد احتل المكان الذي صمم على احتلاله ولو بالتدافع الملموس للجميع، تلك اللحظة راحت عربات نقل الاطعمة والمأكولات والمقبلات والمشهيات تتقدم المشهد قبل الأتيان بطعام الوليمة، ما يقدم الان هو عبارة عن مغريات تسبق البدء بالهجوم على جسد الوليمة، اقداح وكؤوس كرستالية خالصة النوع وزجاجات كحولية افرنجية التصدير والمنشأ، تمكن القائمون على الحفل من استيرادها مبكرا او خصيصا لهذه المناسبة التي ينظر العالم اليها بعين الحسد والأمل في الحصول على لقمة مناسبة من تلك الوليمة التي تقاطرت عليها الوجوه والالسن والافواه من كل فج عميق حتى التوى فم صاحبي جزعا مما ينظر ويشاهد كيف تهالك الأشخاص الغرباء الذين لم نرهم من قبل والاخرون الذين صدعوا رؤوسنا بالمزيد من الافكار المضحكة..

فكرت جادا التوجه اليه بالسؤال عن الذي اغضبه الان؟ لكنني خشيت من العواقب التي قد تدفعه للانفجار بين لحظة واخرى امام هذا الزخم القوي والعنيد من البشر وهم يرطنون بلغات ولهجات مختلفه، قال لي وصوته يتهدج بالكلمات وهي تتعثر على لسانه : ــــ هل تسمع؟ ثم بعد برهة اردف يسأل :

ـــــ اي لغة هذه التي يرطنون بها؟

ـــــ لا علم لي بها ياسيدي !! الا تراها من اللغات الشرقية وربما من اللغات الغربية؟

ــــ ابدا، لا هذه ولا تلك انها لغتهم وحدهم يعرفونها!

انتبهت الى أن المائدة امتدت وجيء بطعام الوليمة محمولا على الاكتاف، كان جسدا ضخما لحيوان تم طبخة على نار هادئة بحيث فقد الكثير من ملامحه البارزة مما جعله اشبه بالفيل او مجرد حيوان عظيم الهيئة ممددا على مائدة مستطيله لا يمكن السيطرة عليها، ولما اقتربنا من المائدة صعقتنا النظرة الشاكية والباكية للجسد المنبطح على المنضدة الضخمة ورائحة الشواء تتصاعد من كل جوانبه واطرافه، والغريب ان لا تفارقنا نظرته المتوسلة تدعونا للعمل على خلاصه، دون ان يعلم اننا جئنا للحصول على حصتنا من الغنيمة التي بدت واضحة امام اعيننا وجلية للاخرين الذين بدت اساريرهم منشرحة بالتمام، استدرت صوب الناحية الاخرى بحيث يصعب عليه توجيه نظرته الملتاعة المتألمة والسكاكين تقتطع من جسده وتأخذ كميات كبيرة من لحمه الطازج، الحق كانت نظرته لي دون الاخرين مبعث حزن عميق وجدت من الصعوبة التخلص من هيمنتها على روحي او نسيانها ابدا، جئته من الاعلى وتوجهت ناحية الكتفين لكي اقتطع لي جزءاً من لحمه الذي ناشته نار الشواء، وانا أرى الحشود تلتهم الاكتاف والاضلاع والاطراف معا، تلقيت دفعة قوية من احدهم افقدتني السيطرة على نفسي برهة من الزمن بعدها أفقت على وقفتي الحائرة امامه والعين الثابتة النظرة المشـــــــــــمئزة مما يحدث معه من انتهاك أسماه صاحبي بالانتهاك غير الأخلاقي للأفواه المفغورة الشدقين ومعظمها تغص بلحم الغنيمة.

التقت نظرتي الساخطة بنظرة الضحية الجزعة، حاولت الهرب منها خشية انهياري المفاجئ، ومع نفسي تمتمت : ليس في اليد حيلة يا صاحبي !! كانت المجاميع من الغرباء وحتى الذين نعرف بعـــــــــــــــــضهم تتدافع بحمية نادرة نحو المائدة للفوز بحـــــــصة الاسد، منعت نفسي من متابعة الاخرين لئلا ابدو متطــــفلا على الحضور لكن صاحبي امسك بي من ذراعي وهو يتمتم بصوت مسموع :

ــــ لقد اجهزوا على الغنيمة ولن يبقوا منها شيئا..

انتبه لصوته احد الهاجمين على الوليمة قائلا :

ـــــ أبدا سوف يظل الجميع يستلمون حصصهم حتى زمن قادم !

سألني صاحبي متجاهلا كلام الرجل الغريب، معبرا عن غضبه من تدخله وتعقيبه غير المبرر باعتماده نبرة غاضبه:

ـــ لماذا لا تتناول حصتك حتى الان؟

ـــــ لا استطيع، إن له نظرة آسرة لا يمكن التخلص من عذابها..

قال لي مؤيدا كلامي عن نظرة الضحية، بان تلك النظرة مليئة بالعتاب:

ــــ انا ايضا جندلني بنظرة عميقة المغزى، لم استطع الهرب منها !!

ــــ لن تستطيع ما دمت حيا !

كان صاحبي قد اصدر حكمه النهائي بشأني لأنه يعلم جيدا انه لم تعد لدي رغبة في العودة الى حلبة الصراع مع الاخرين، ألم يكن صراعا قاسيا؟ ومن الطريف أني لا اجيد فنون الصراع الدامي الذي شهدته امام عينيّ وانا لا اعرف ما الذي يجب عمله في حالة كهذه، الصمت ليس مجديا ولا الموت كذلك، لم تعد بي حاجة ماسة لرفقة رئيسي بالعمل بعد الان ، ينبغي لي أن اغادر المكان دون طلب استئذان من احد مهما كانت وظيفته، ولكن قبل هذا ينبغي لي ان القــــــــــي نظرة اخيرة على جسد الوليمة، خطوت نحوه خطـــــــــــوتين اثنتين، امتدت اصابع يدي تلامس بــــــــشرته المنهكه، لم استطع الى ذلك سبيلا، لأنه أعـــــــــاد علي نظرته الاولى والتي لا تخلو من عــــتاب قـــــــاس واشمئزاز عميق تجاه كل شيء يجري من حوله رغم ارادتــه المستلبة وايامه الضائعة.



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى