مزهر جبر الساعدي - محكمة.. قصة قصيرة

مهداة الى القاص والروائي الرائع والرقيق مثل نسمة ربيع في ليل آب اللهاب الصديق صالح جبار خلفاوي


عدنا بعد الظهر، أمضينا هناك بضعة ايام، أنا وجهاد والأستاذة وشتاين. في قرية العزيزة إلى الجنوب من ناحية المشرح، قرب الحدود ألأيرانية، على مقربة منها حقل نفط، واقعة إلى الشرق من العمارة. بحثنا مع الناس هناك عن جثة ببيانو، حبيب شتاين، الطيار الامريكي من أًصل تشيلي. لاحقاً ما كان بيننا والناس هناك، أكتبه في قصة أخرى. أما الآن فقط حط الليل وغادرني الجميع، الأستاذة مع جهاد الى منزلهما وشتاين الى فندق عشتار، ذهبت فجيعه.

وهي تطبع قبلة حزينة على خدي، وضعت في يدي ملف قالت : ـ فيه قصص كتبتها امي، أرجو أن تتكرم بترجمتها ونشرها. في الصمت، داخل شقتي، أمام النافذه المشرفة من بعيد على المقبرة الكبيرة، تحت عمود النور يجلس الحارس، أعرفه، انه أخا سعيد. أخذت أشاهد فلم غريب، أنا احد شخصياته المحورية، وبما تتسائلون عنه :ـ واقع أم وهم أم خيال، أقول :ـ أكيد انه واقع بطريقة من الطرق، فيه أستعدت ما مر عليَ، بدقة رغم مضي أكثر من عقدين، جرى بطريقة من الصعوبة أسترجاع مجرباته، لكن هي ذاكرتي، المتفردة تؤلمني بإستمرار. تدفق أمامي، بث الحسرة في أعماقي عندما رأيتني أنادي ماء. أنبش بإظافري في التربة تحتي، لم اعثر على الماء، أشتد عطشي.

تأتيني من الخارج أصوات مبهمة، رطانة غريبة عن ما مضى، عيوني تبحث عنهم، للوهلة الأولى لم اجد أي منهم، فجاءة أجد جهاد يزحف خارج الملجأ. أستمر بمتابعته، كان وحده. تنبهني عيوني، أنهم هناك، فوق. ثم يعميها الصهد فتضيع في الهواء الحار. تشد عيوني أعصاب البصر فيها وبإمتعاض تؤشر الى المكان، فيه دم ولحم وعظام. عجز ذهني عن التواصل مع عيوني أذ شبت نار في أعماق بدني. أرتهنت للسعير الذي غلبني، أنطلقت من السماء الى الارض فوقي، حزم من لهيب أحمر. حاولت ان اخرج لأطفاء النار محاولتي هذه جعلتني من غير أرادة مني، أن أخرج مني، لأغور في عمق التراب. إنه ندي، ثمة بلل جرى على صدري وكتفي وظهري. غطست في جوف الارض أسفل مني. لم أهرب من النار والتي تحولت من غير سابق أعلام إلى دوي وإنفجار هائل، هزني مع الارض حولي. دخلت الرمال نحوي من فم الشق العميق على شكل دوامات، تطوف حولي. جمعت رزم الاوراق والمخطوطات ووضعتها في الحقييبة الجلديه الكبيرة وأغلقتها. في هذه اللحظه حطت أمامي كائنات تتلاحق في تقدمها جهتي، من الجهات الاربع. عند ذلك اشتغلت مسامعي من غير تتسلم أوامر مخي :ـ

ــ سيبه، يبه سيبه، إنه ميت، أنظر الدم يشخب من الكتف والصدر.

ثم سقطت على جبهتي ظربه عنيفة اغضبتني وحفزتني ان اتبين موقعي وأفحص قدراتي في الدفاع عني في حالة مهاجمتي. غير أن الكائنات السود كما تبدت لي، خرجت قبل أرتجاج الارض تحتي قبل فترة لا يمكنني أن اعرف مدتها. مع ذلك توجست الخطر منهم، ربما يعودوا، ففتشت عن مخرج يساعدني في تغيير مكاني ليتسنى لي الدفاع بجدوى عني، لم أر غير منفذ ضيق جداً، على بعد بوصة مني، الى يميني، يسع ليد واحدة. واصلت الارض تموجها العنيف كأن شياطين تحملها على قرونها، مما حيد عيوني عن واجباتها في رؤية الموجودات. بت ثابتاً لا اتحرك، لا أعرف أين تقع قدمي عندما أتقدم خطوة.

لا بد لي أن اتخلص من هذا النفق ألمظلم، علي َّ أن استعين بحواسي الاخرى بعد أن خانتني عيوني بسبب الظلام الدامس. كيف :ـ بحثت في زوايا عقلي ونقبت في ذاكرتي، في خزينها المحتفظة به عن هذا المكان ومعالمه ومثاباته وأتفاقه ودروبه. دفعت كف يدي الى يميني، غارت عميقاً في الفتحة الضيقة، ايادي قوية، شعرت بقوتها تحت عجيزتي، رفعتني الى الاعلى حتى صار رأسي في الحلق الترابي. ضاق تنفسي، كدت اختنق، لولا أن يدين أحسست بهما تحفر في التراب على الجانبين من رأسي ثم رفعتني بقوة الى الاعلى، سقطت خارج الظلام.

عادت عيوني الى واجباتها في الرؤية فقد غمرت المكان أنوار وهاجه، أثارت أستغرابي وحيرتي فلا وجود للشمس فوقي ولا للقمر. مما جعلني اتوجس من الدرب العريض المنفتح أمامي بإنواره المتلألئة. لم تستمر حيرتي فقد سمعت النخلة المتلألئة بالأضواء المنبعثة منها، تناديني تقدم ولا تخف، ابداً لا تخف، أنا هنا بإنتظارك. احسست بالأمان بين نثار التراب، وللغرابة ذهب عني ضمأي. شممت رائحة الارض، منعشة وممتعة جداً. مما زاد لهفتي في الجري إليها ومعانقتها، أستاذتي النخلة، تلبيه لندائها. لكن كيف وأين الطريق، لم أنتظر طويلاً في حيرتي، ثمة من مسكني من كتفي وسحبني، عيوني عاونتني على معرفتها، أستاذتي هي من مسكتني وسحبتني إليها. قالت :ـ تعال معي لندخل قاعة المحكمة ؟..

اثناء المسير الى القاعة قالت تؤنبني

ــ إنك كسول، رسالتك عن حمورابي لم تنتهي منها الى الان

ــ أخذوني الى الحرب الجديدة / عام 1991، أفهموني شهرين وترجع.

من درب الى درب آخر، نسير معاً بصمت.

في الزوايا البعيدة والجهات الاربع هناك انفجارات وأصوات رصاص، يئز في الفضائات المفتوحة على المباني الكائنة هنا قبل الآف السنين، تصادى فيها مثل عواء ذئاب يبث في الروح الألم. دخلنا من بوابة كبيرة جداً تسع لدخول جحافل من الفرسان والخروج منها في آن واحد. هذه قاعة المحكمة قالت الأستاذة. قاعة مهيبة وفخمة وأسطورية، وقفت مشدوهاً، قاعة معلقة في الهواء، لا هي في الأرض ولا هي في السماء، لا هي هنا ولا هي هناك، لا هي في الزمن الآن ولا هي في الزمن السحيق جداً، هي كائنة بعد سنين. صرت على يقين من ذلك بعد حين، عندما سمعت الاسئلة والاجوبة رغم أن القضاة والأدعاء العام يرتدون ألبسة، أعرفها من دراستي للآثار في بابل وآشور وسومر.

محكمة :ـ

ــ ما هذا.. سألتها

ــ محكمة المستقبل، بثياب التاريخ، ربما بعد عقود أو قرن كامل ربما.

القاضي حاور الملعون.. عن الحرب والنار والجوع والالم الحزن

وعن الأسباب والموجبات، في أشعال الحرائق. صمت ثم أخذت الريح تنبح في الباب والجدران. القاضي دفع بالصمت الى أجنحة الريح، عادت الريح تئنُ في الجدران مثل النواح الآدمي الذي بث في فضاء القاعه صراخ القاضي : وقعوا في النار… سعد وضمير وجهاد ومن ثم وبنتيجة ما صار نزلت النخلة الى الهاويه. وجدتني أتعجب من وجود الأستاذه هناك على مقربة من الطاوله المستديره للمحكمة. لذلك لم اتابع سير المحكمة أنشغلت بالبحث عن الأستاذة. غير إني تركت امر البحث عندما جالت عيوني عليهم، القاضي والأدعاء العام والمحامين. ذهلت وكانت بي رغبة طاغيه للصراخ عندما رأيته، العسكري الامريكي واقف أمام الطاوله تعرفت عليه من ظهوره المستمر على شاشة التلفاز قبل الحرب والأِشد غرابه إني هناك الى جانب جهاد وسعيد، تلمست رأسي وصدري وكتفي لأتأكد مني.إن ما رأيت كاد أن يطيح بعقلي وأفقد صوابي مع أنه رغم كل شئ أفرحني، واقفه خلفهم، على مقربه منهم، على منصة عالية بحيث ظهرت أقدامها قريبة من رؤوس الجناة،الملعون والعسكري الامريكي بنياشينه المدمره والتي ظهرت لي كأنها قرون ثور يحملها على صدره ورجل يلف رٍاسه بغتره بيضاء ثبتها بعقال وبلحيه تنسدل الى نصف صدره، بعد سنوات من على شاشة التلفاز، تعرفت عليه من خلال الحزام الناسف، إعتقلوه قبل التفجير، يشبه هذا الوجه الآن الظاهر أمامي، حد التطابق. أنقذني مما أنا فيه، القاضي عندما قال :ـ


الأدانه…………………………………………..

خانني مسمعي عندما لامست جسدي الأيادي التي رفعتني قبل مدة، أقتربت افواههم مني، أربعة توزعوا حولي، رفعوني، أثنان من أرجلي والآخران من كتفيّ. وجدتني أشعر بقرب موتي فقد هبط نبض قلبي. حزنت لقرب رحيلي عنها من غير أن اعتذر لها عما سببته لها من مشاق. وفي غمرت ألمي قلت لي :ـ هي، اين هي، هي ضاعت مني غارت في نفق مظلم في لب الأرض. على غير عادتها فهي كانت منذُ أن كانت مرتفعة القامه.

أنسكب فوقي، على وجهي ماء، ماء بارد. خانتني عيوني مرة اخرى،لم ار ما حولي. فقط مسمعي لم يغدر بي، جلب إلى رأسي أصوات كثيرة، لم أعرف أي منها. ضعوه هنا بهدوء، مغمى عليه، ماجد كف عن سكب الماء، أنتبه الى كتفه وصدره، جروح عميقه فيهما، أنظر الى بياض العظم في الكتف، أجلبوا نقاله بسرعه، إنه ينزف، الدماء تسيل على صدره. هناك جرحى آخرين على سفح تلة التراب، قرب عجلة الصواريخ المحطمه، انتبهوا قد ينفجر أحد الصواريخ الغير المدمرة، كلا جميعها محطمه، أختلطت مع اشلاء الجنود، لم نتبين هوياتهم أنظر هناك، قرص هوية، سعيد عبد الحسين محمد. لنخرج به من مطار البتيرة الى مستشفى العمارة العسكري، كلا لنذهب به الى مستشفى الزهراوي الجراحي فالمستشفى العسكري لا أحد فيه. هبط نبض قلبي اكثر. عرفت انهم من المدنيين، من القريه القريبه من المطار.

الآن انقطع تيار الكهرباء، انطفئت الأضوية. لم يبقَ من القصة حتى تكتمل إلا معلومتان، الأولى هي إني بعد أن غادرت وطني، جائتني الأخبار، أن، جهاد رجع من الأسر يمشي على عكازتين. وسعيد، أبوه وأخوه قاموا بدفنه،لملموا بعض الأشلاء التي جلبها الناس هناك، إلى مركز تسليم الشهداء والذي بعثها اليهم مع قرص الهويه خاصته. بين ظلام الشقة وعبر النافذه، أنظر الى المقبرة، لم ينقطع عنها تيار الكهرباء، رأيت َ أخا سعيد يمشي تحت أعمدة النور. ثم رجعت الى منضدة الكتابه بإنتظار النور…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى