محمد عبدالوكيل - جدة فتحي

لم تكن جدتي واحدة من أولئك العجائز اللواتي تمتلئ بهن طرقات القرية.. العجائز المتخصصات بالحديث عن زوجات أبنائهن أو أزواج بناتهن ،أو بعولتهن الذين صاروا كبارا في السن فلا يقدرون على ممارسة الجنس إلا إذا استخدم أحدهم كبسولة “فياجرا”.. أشياء كثيرة تعافها جدتي، كالأحاديث الداخلية السرية عن الأسر وذلك مثل الخوض في سير البنات حديثات العهد بالدورة الشهرية أو النسوة اللواتي بلغن سن اليأس.

كلا ليست جدتي من ذلك النوع إطلاقاً.. نعم هي من قرية (المشاريح)، لكنها تعرف أشياء كثيرة على الرغم من أنها لم تخرج من القرية سوى مرتين: إلى مدينة تعز لبضعة أسابيع، إلا أنها طوال فترة حياتها كانت تعرف كيف تكون سيدة بيت مميزة. فإذا سأل أحدنا عنها نسوة القرية، أجبنه: ـ صغيرات نسبياً وكبيرات ـ أنها الوحيدة من المتزوجات القديمات التي لم يتزوج عليها رجلها وهذا التفرد ليس عادياً، لأنه وببساطة لم تنل هذا الشرف واحدة منهن على الرغم من أن جدي كان قادراً على الزواج من أي امرأة مهما علا نسبها فأطيانه الكثيرة وشعابه الممتدة “وجرابه” المهملات في القرى المجاورة تعينه على مثل ذلك، لكنه لم يفعلها لسبب تعرفه جدتي.

والآخرون مهما اجتهدوا فإن اجتهاداتهم ما هي إلا ملامسة بعيدة للواقع فمثلاً يستطيعون هم أيضاً إغضابها.. الأكثر من ذلك أنها تغضب لأتفه الأسباب، لكنها بوعي وإدراك ودهاء لم تكن تعمد إلى إغضاب جدي وأن حدث وهاج وماج فإنها تعرف جيداً من أي الأصابع يمكن جره ليهدأ، من شعاراتها عدم توريط الزوج في إشكال يعرضه للإحراج أمام المحيطين، تؤمن بأن الزوج لا بد أن يكون مرفوع الرأس، وهي أي الزوجة وحدها من يستطيع عمل ذلك، ومن الأقوال المأثورة عنها:”الزوجة الأصيلة، هي التي ترفع من شأن زوجها بين الرجال والزوجة قليلة الأصل هي التي تقلل من قدره بين الناس..”.

لم تكن مديحا تلك الأوصاف التي كانت جدتي تطلقها في وجه جدي:

– “الله يحفظك يا حج، الله.. الله والهدوء.. الله والوقار والجمال.. أمانه إنك أحسن واحد يا حاج.. و أذكى واحد ولو لا وجودك لكثرت المشاكل في القرية.. أنت .. أنت … أنت….”

من يسمع تدليل جدتي يعتقد أن جدي سيتحول إلى بالونة تحلق في الهواء الطلق.

لكن العكس هو ما حدث فقد تحول جدي إلى رجل وديع هادئ، واثقاً من أقواله وأفعاله..

تحدث جدي مرة واصفاً جدتي الحكيمة :” لم تغضبني سوى مرة واحدة عندما كان ابننا رضوان يريد السفر إلى الخارج للدراسة ورفضت أنا ذلك معتقداً أن كل من يسافر إلى الخارج للدراسة يعود وقد ترك الإسلام، والواقع غير ذلك لأن رضوان سافر بالفعل واستفاد كثيراً من دراسته، فقد عاد وهو يصلي ويقرأ القرآن، ولم يحدث، ما ذهب إليه خيالي.. فعرفت أن زوجتي حكيمة كما هي دائماً، وندمت لأني غضبت عليها، وأن ذلك الغضب كاد يؤدى إلى طلاقها” اعتمدت طريقة جدتي في تعاملها مع جدي على ذلك البيت الشعري القائل:( ألا ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب ) كانت قد سمعته من أبيها “عبدالرب الصوفي” الذي كان يردد دائماً أقوال رابعة العدوية وأشعارها . كانت تعرف جيداً أن ذلك البيت الشعري قيل في الله ولكنها تحرص على تطبيقه في تعاملها مع جدي.

في هذه الأيام تقضي جدتي نهارها في كنس الدار بغرفه وشبابيكه وتذهب إلى توضيبه أحياناً وفي أحايين كثيرة تكاد تكون يومية تصعد إلى السقف، وهناك تجلس فوق تلك الكرسي الأسمنتي المعلقة في الزاوية المطلة على الدور الكثيرة المليئة بالضجيج، والمدرجات الخضراء التي يداعبها النسيم صيفاً، واليابسة الصامتة شتاءً.. كانت يومها ترتدي ثوباً أخضرا تتداخل فيه الألوان بصعوبة ولكن ما يميزها تلك “الصُفّة”* المحناة، التي تتدلى فوق جبينها، ثم ذلك الكحل الذي تضاعفه فوق جفونها حزمة الريحان الذي يحاذي خدها الأيسر ويلامسه. الملفت هو نضارتها المؤطرة بعاج لبني يثير حفيظة الشابات، فتقول إحداهن لصويحباتها . كلما شاهدنها تصعد السقف: “طلعت عزيزة جلال”..وصار ذلك الإيماء مصطلحاً يشير إلى جدتي بين (الشابات) .

وأما إذا جاءت واحدة من صديقاتها إلى سقف الدار وجلست تحادثها فإنها تنزع النظارة من عينيها وتضعها على رأسها لترى صاحبتها بوضوح لكن البنات يستأنفن تعليقهن:

– ( شوفي.. شوفي ليلى علوي..”.

تعلقي بجدتي منذ الطفولة المبكرة جعلني أزورها كل ثلاثة أشهر تقريباً وطالما شاهدني الناس هنا مارا معها في الطرقات أو عائدين من الحقل أو ذاهبين إلى الدكان لهذا يسمونها “جدة فتحي”.

ذات يوم وفيما أنا أنظر إلى قمريات الدار, النصف اسطوانية- التي يختلف طابع بناءها عن قمريات صنعاء النصف دائرية- أطلت جدتي من كرسيها الركنية فقال لي أحد الأصدقاء “أنتم تدلعون جدتكم كثيراً..”.. رددت عليه:

– هل تعرف من الذي يدلع جدتي..

– لا ..ثم أردف “أقصد والدك – طبعاً ..

– “لا يا صديقي…”

– عمك هلال

– لا

– عمك رضوان

– لا

– عمك جواد

– لا

– لقد تعبت

– ما دام وقد تعبت فسوف أقول لك: إنها عمتي نادية يا صديقي..”

– كيف

– أليست عمتي نادية متزوجة بعمي شوقي، وعمي شوقي -إن كنت لا تعلم- مقاول غني جداً..أنه من أعيان مدينة تعز تقريباً..

– إلى هذه الدرجة يا فتحي.

– نعم وأكثر مما تتصور.

– عندما توفى جدي شعرت عمتي نادية بالحزن الشديد، فانشطر حزنها حزنين:

الأول: لأنها فقدت والدها. والثاني: لأن والدتها تأثرت جداً بذلك الموت، كان المرض قد بدا يسرق عافيتها، تنبهت عمتي لذلك. راحت تساهم في تخفيف مواجعها الكثيرة، والواقع أني ما زلت أتذكر شيئاً من ذلك الحوار الذي دار بينهما حدث ذلك بعد موت جدي بعدة أيام.. في إحدى الليالي التي كان صرير الحشرات فيها يملأ الآفاق المظلمة دخلت عمتي نادية إلى سقف الدار من خلال باب صعدت إليه بعد أن تجاوزت سبع درجات ابتداء من صالة الطابق الثالث.

أول ما اصطدمت به هو الأصوات الدقيقة للثعالب الجبلية التي تجيء من هياج موغلة في الوحشة.. أصوات عجائبية مجهولة يتداخل فيها الأداء بين فحيح الثعابين والعقارب والسحالي والصراصير الليلية.. كائنات أخرى متناهية في الصغر تذيل تناغيمها الإيقاعية الموحشة بالأصوات الكبيرة الواضحة، إضافة إلى شخير أبناء عمتي الذي يأتي من الطابق الثالث عابراً الدرجات..

تركت جدتي – أيضاً- فانوسها جوار باب السقف من الداخل، فسرب ضوءاً تقاعس فانوس عمتي من إرساله إلى أرضية السقف الإسمنتية..

قالت جدتي بعد أن أنهت مجموعة من التسابيح كللتها بالشهادتين.

سبحان الله الدنيا.كلها تسبحن … وأردفت : أيش يا نادية ما فيش نوم..”

كانت عمتي نادية تجلس فوق الكرسي المعلق.

لا ـ وأنت لماذا لم تنامين..؟

– أفكر فيك.

– قولي الحمد لله على كل حال.

– طيب يا أمي أنت ما بتقدريش على العيش داخل هذا الدار وحدك..

– مش مشكلة سوف أتعود.. ربك كريم يا بنتي.

– لكنني قررت.

– خير إن شاء الله أيش قررتي؟.

– آخذك معي.

– إلى أين ؟.

– إلى مدينة.. تعز.

– لا ..لا يا بنتي.. لا أستطيع الخروج من هنا إلا إلى القبر..

أدخل حديث عمتي نادية جدتي في دوامة من الحزن المترامي.. وفي ليلة لا يثقبها ضوء، أخذ صوتها الهامس يتمدد؛ كأنه بكاء مبحوح وهي تزيد في الكلام:

– لا .. لا .. الموت أعز لي من المدينة..

– ولكن يا أمي من سيأتي لك بالماء من( السقاية)، ويدخله إلى المطبخ في الدور الثالث، ومن سيأتي بالحطب، ومن سيبحث عن البقرة التي تذهب بعيدا، ومن سيأتي لك بالطحين من الطاحون ، ومن ومن ومن..

– شوفي يا بنتي أنا أقدر أعمل حاجات كثيرة من اللي ذكرتيها، وربك بايساعدني.. الله كريم ..وأنت تعرفي إن أختك (رجاء) وبناتها ما يقصرنش..

– رجاء بيتها بعيدة ومش في كل وقت جنبك..

– ربك بايسهل .. ذلحين باتجي الكهرباء وبانشوف الدنيا تمام.

***

دخلت الكهرباء في اليوم التالي القرية، وبعد ثلاثة أيام تم ربطها إلى دار جدتي، فقد كانت الأعمدة الكهربائية مستقيمة جوار كل بيت منذ عدة أشهر ولم يتأخر سوى إشعال فتيل الإضاءة..

اليوم هو الواحد والعشرون من مايو 2005م.. دور القرية تعوم في بحر من الإضاءة، عمتي نادية ذهبت تحدث السائق الذي يجيء ويذهب إلى تعز.. مدّت إلية بقائمة من الطلبات مرفقة بمبلغ مالي يزيد عن عشرة آلاف ريال كان من ضمن الطلبات سماعة هاتف منزلية فقد أشفقت على جدتي من الطلوع والنزول في درجات الدار، فالسماعة ستعمل على تخفيف الزيارات غير المجدية ومن خلال السماعة بدأت تدخل من تشاء وتعتذر لمن تشاء، لأن السماعة ملحقة بزر فتح للباب.. عملت عمتي على تسوير الدار وأمرت العمال بتشذيب الأشجار المجاورة حتى لا تختفي في أحراشها الأفاعي والديدان والبعوض، وفي ثالث أيام نشاطها أرسلت إلى المدينة بطلب شراء “دينمو” ومواسير وأسلاك كهربائية ومناشب وأكياس بلاستيكية من أجل توصيل الماء من الساقية المجاورة للدار إلى المطبخ والحمام الذي أصبح يزينه “السيفون” والرشاش، والبلاط المدروز على شكل فسيفساء إيرانية.

عندما عادت عمتي إلى تعز لم تمر عدة أسابيع حتى أرسلت تلفزيون ملون (28 ) بوصة تقترب تشكيلة شاشته المسطحه من شاشات العرض السينمائي حتى أن صديقات جدتي عندما كن يتواعدن على الذهاب إليها تقول الواحدة منهن للأخريات:

– ( يالله نذهب السينما…)

بعد أسابيع أخرى أرسلت عمتي “موبايل” نوكيا يطلقون علية في محال الأجهزة الإلكترونية بتعز(موديل): (الجريئ المطور) مشفوع بشريحة وكروت تعبئة.

شعرت جدتي بأنها صارت تمتلك ثروة جديدة .. أنيقة ورشيقة ومطورة ولم يعد ينقصها سوى الكمبيوتر المحمول لتدخل عصر التكنولوجيا الحديث.. كانت جدتي كلما رفعت الموبايل، لترد على اتصال عمتي تتمشي في سقف الدار مثلما يفعل المراهقون دون أن تدري بأن البنات في الخارج يسمينها الآن “حنان ترك”.

بالأمس فقط وصلت-أنا- القرية.. استمعت إلى صوت جدتي من خلال سماعة الهاتف المثبتة على حافة الباب الخارجي للسور الذي تعلوه قطع زجاجية حادة تتلألأ ألوانه في الليل بفعل تسرب إضاءة خفيفة من نافذة الدار. سمعت’ جدتي من سماعة الهاتف وهي تقول:

أهلا وسهلا بالعين الكحلاء والحاجب الأعلى).

فتحت جدتي الباب بتحريك سبابتها على نحو لم تكن تتخيله أو تحلم به؛ لأنه لم يكن لديها أي تصور عن ذلك.

عمتي هي التي أرسلتني إلى هنا لأكون جوار( العجوز)… نهضت باكراً فأنا أعرف ماذا تريد عجوزي..؟..ذهبت إلى السوق .. غبت عن القرية لمدة ساعتين اشتريت دجاجة وجعلتها تقأقئ لتسمعها جدتي فتبتهج. اشتريت العديد من حاجيات البيت كالزيت والتونة وعلب الطماطم ومجموع الخضار والفاكهة ولم انس القات (المثاني)، الذي كنت أعرف أن جدتي تحبه حد التقديس؛ فلا زلت أتذكر حديثها الذي نبهتني إليه قبل سنتين عندما جئت القرية، وذهبت في نومة طويلة استمرت يومين متتابعين .. كنت مجروحاً من غدر الأصدقاء، الذين لا يقدرون حزني وألمي ووجعي فجئتها لاجئاً لأنها الوحيدة التي تعرف متى أكون كئيباً ومتى أكون مسرورا عندما أفقت من النوم يومها وجدت جدتي فاقدة لأعصابها تهيج وتميد ولم أفهم إلا آخر عباراتها:

شوف يا ابني ما رجال إلا بمداعته وقاته..”

جعلتني عبارتها الأخيرة أعدل من نظرتي للقات، فقد مثل حديثها ذاك القشة التي قصمت ظهر برودي تجاه القات وتعاطي التمباك المتلفع بالجمر.

في ذلك اليوم اشتريت كمية كبيرة من القات لإرضاء جدتي. بدأت التخزين معها مبكرا، ثم تقاطرن صديقاتها واحدة بعد الأخرى ، وكلما دخلت واحدة، مددت يدي القابضة على حزمة من القات -المرصوص بعناية داخل منشفة مبلولة بالماء- وأعطيتها، وهكذا الثانية والثالثة والرابعة والخامسة وكنت كلما مددت يدي أنظر إلى جدتي فأرى وجهها الممتلئ بالفخر وهي تجيء وتذهب .. تنظف النرجيلة وتشعل الفحم وتبلّ التمباك، وتوسع ثقوب (البوري) في المطبخ، ثم تنفخه حتى تزيل ما علق في الفتحات الصغيرة وإذا انطفأت الجمر ذهبت لإحضار المزيد.. كانت منشرحة إلى درجة أنها أصبحت خفيفة جداً بل تتحرك فيما يشبه الرقص.. كنا نتحرك داخل بحر من الدخان، وشاشة التلفزيون الملونة تغيم أمامنا ولا شيء يعلو أكثر من رنين الهاتف وجدتي المنتشية ترد بفخر واعتزاز لقد نست كل الأيام التي كنا نحتلق فيها أنا وأبناء عمومتي مطالبين إياها بحكاية جديدة..



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفة: إخراج جزء من الشعر إلى الجبين

* أديب مبدع من اليمن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى