ياسين طه حافظ - وأنا أكتب تنظر لي الوزغة

بين أناسٍ لا اعرفهم . كل يتحدث عنها :
كيف تَسلّق للضوءِ ،
كيف رأى في مدن التهريب براءتَها ،
كيف اصطدمت جبهتُه في لحم البقرة
ورأى أحشاءَ مدينتِهِ ...

كل قالْ:
لستُ الاول لست الثاني لست العاشرْ
خدَعَتْنا الواحدَ بعد الآخرْ .
ابقَ مكانكَ حتى تقف العرباتُ لنمضي
فقد اختلطت أيامُكَ بالطرقات.
لا تسأل. انت تعيش مخازنَ ، اسواقاً ، جدراناً
وشبابيكْ
صبراً حتى تقف العربات .

وأنا فوق الكرسي ، تمرّ العجلات على السطحْ ،
اسمعها ترتجّ الجدرانْ .
قال طبيبٌ: "غيّر هذا الكرسيَّ ، وخذ
هذي الحبات البيضَ تقيك الصدمة.."
أخطأتُ بحبّات أخرى !

ماذا تنفعني اللهفة للوجه يذكرّني
بجمالٍ لا يفنى
ماذا ينفعني وأنا أتعثّر في خِرقٍ صوفية
أتوقّى البردَ ومنتظراً يبتسم المعنى ؟

تعِبَتْ هذي الشجرة
من شدّ الريح تطأطؤها للارض.
كل الاغصان الخضرْ
تخسر ، وهي تريد الشمسَ ، كرامتَها .
صار حديثي وحدي ، ما احتجتُ الى أحدِ ،
زمنٌ للتدريب على الوحشةَ .
زمن اتذكرُّ كم ابعدتُ حجاراً وأكفّاً قاتلةً
كي اعبر اسيجةً ، حتى اشتعل الاخضر
وعبرتُ ، عبرتْ جثث للدفن .
صوت من رأسي مثل السكين :
" انظر تلك الغجرية
بارعةً تَحْتَكَ مثل بغيٍّ
وتقوم بحزنٍ مثل ضحيّة .. "
هذي مدن للغزوِ .
لغزاةٍ مكتنزينَ لحوماً وحقائبْ.
مدن صُنِعَتْ لتكون مباغي .
خذ سجّادَتَكَ . القِبْلةُ للحائطْ .
ماذا تنفعك السفن اللا تُرضَى في العصر بضاعتُها ؟
شيءٌ واحد .
سيقوله عنها فقراءُ الجمعة ،
ويقوله محترفو نقشِ قصورِ السادةِ ،
بستانيو الامراءْ :
"يا لنظافتها ! يا للّمعانْ
يأتي من مخلوقٍ رثٍّ يجثم في قاعْ .. "
حسناً اني راضٍ أرجعُ من غير هدايا
فأنا سافرتُ بغير متاعْ .

لو تتركني مخلوقات الطين
أبحث في أكوام القش ،
عمّا يفرح ذاك المحنيَّ كسيراً فوق سياجْ
يضحك منه صيارفةٌ عَجلِونَ وضباط بنياشين.
هو هذا الإدمان على اللاشيءِ ،
أعودُ كأي جهولٍ ثانيةً عاشرةً. أترصّدُهُ
وأراهُ وافقدهُ .
يا معنى العالم ياروح قصيدي
ما زلتُ ، كما من قبل ، على مذبحة الكون
أحمل قرباني ونشيدي.
هذا الغصن المكسورْ
يرسم فوق الماءِ القصةَ كاملةً :
يومَ تسلقّتْ الأكتافَ المرتجفة
أشتِمُ أبراجَ القلعة...،
الاكتاف ارتحلت. والقلعة؟
تسخرُ مني أنيابُ نيونٍ وبنادقْ
وأنا في القبو الاول ، اقضي السهرةَ وحدي
أقرأ تاريخَ تنانينْ ..
ما زلت احسّ رطوبةَ تلك الارض على خاصرتي .
هل تدري "القشلةُ" اني مسجونٌ
امتاراً عنها ؟ و "بريد" العالم اني مقطوعْ ؟
مصلوب فوق الارض يسوعْ .
وكما من قبلُ أقيءُ مشاهد ناسٍ يعترفون
وخيوطٌ حمَر تجري نقطاً نقطاً هي و الكلمات.
مشكلتي اني ازعجت المرضى والمطرودينْ
من فِرَق الموسيقى وتكايا المعتكفين .
" لا ، لن أكذبَ ! كُفَّ الجَلدْ ،
هذا ما أعرفه ، اعترفُ الآنْ :
كلّفني اللهْ ،
اكتب في الكون شعاراتْ ! "

هو هذا الشرك الصعبْ :
هل يتركني الجالس في الشرفة أُربِكُ هدْأتَهُ
أم يُرديني ؟
الحكمةُ جائرةٌ . والغرفة مغلقةٌ منذ سنينِ
موسيقى الحزن البشري
راكدة فوق الروحْ
قلمي لا يدري ما يكتبهُ ، الغرفةُ مغلقةٌ منذ سنينِ
التاريخ المجذومْ
يحتلُّ فراشيْ
ويمدّ يديهِ الى طبقي .
هل تنجدني "نوزادٌ ؟ واراها ثانيةً
تمشي في الفردوس، كما هي في ذاكرتي ،
تُنسيني
حَبَّ الامازونةِ ، مصاصةِ أجساد الرهبانْ
ورعاة الريفْ ،
والآتين حديثاً للميدانْ ؟

أُمسك مصطبةً ، وكما نوحْ
أجلسُ أو أطفو ، لا فرقْ
فكلا الضفتين تُضيّعُني ، لا اعرف
في الاثنين مكاني
العالم حولي لَزِجٌ
والعجلات تدوّرُني وتدوِّر اقطاباً معَها، العجلاتْ!
ماذا أفهم من هذي الفوضى ،
من أشكال الطين المشتبكات وهذي الضوضاءْ ؟
هل أحدٌ يمنحني سقفاً ،
يغلق هذا البابَ المفتوحَ الى الله لكي ارتاحْ ؟
أُغمض عينيَّ بصمتٍ أتذكرُّ أوجهَ مَنْ أحببتْ .
أُجلِسهُم في الليل جواري او فوق سريري
أو مثل الله ، أُكلّفُهم بكِتابة أشعاري .

هم أولاءْ
يُقْصون الموتَ وهم اولاءْ
يُنسون المتوحِّدَ ما يُفزِعهُ
لكني لا آمَنُ ان يحتال عليهم
ويمدُّ يديهِ السوداوينِ إليْ
يخنقني ويعودْ
لظلام البستان .
قلمي بيدي ، نظراتي واجمةٌ
والكفن الابيضُ يرصدُ وجهي .
هو هذا الكون الأحدب يعبث في جسدي ،
يثلِمُهُ ، ويعطّل مكبِسَهُ ... ،
لو أنه نومٌ و غياب ،
لو أنه غصن يسقط في غابْ ... ،
لو أنه ... ، إلا هذا الموت الهمجي !

أتعبني المختلفانِ ، جمال الدنيا ورداءتُها ،
روحيَ و التاريخ
خطأ أُولد بين مصارف عابسةٍ وبنادقْ
لكني الآن أعيش باطرافٍ اربعةٍ مهترئة
أدخل كل مساءٍ طيات زقاقٍ ناسُهُ
كلُّهُمُ سيموتون واخرج كل صباحٍ من
طيّات زقاقٍ ناسُهُ كلُّهُمُ سيموتونْ يموتونْ.
يا روحي ، يا هذا الشاعر يجلسُ وحدَه ،
هل أكملتَ الزحفَ على الاسطِرِ،
فوق قناطرَ زائفةٍ ؟
هل احسنت صياغتَها ؟
هل أمّنت حراستَها من عطَبٍ ؟
... هل تسمع قَرْضاً ؟
فأراً أو ماكنةً ... ،
تلَفٌ تلَفٌ تلَفٌ تلَفٌ تلَفٌ...

دعني اجرع هذي الكأس المسمومة كي لا تعبرْ،
ننظرُ للشمس ونُطْفَأُ نحن مخاليق الزمن المرّ
وتراني آخرَ هذا العمرْ :
مثلَ السحلاة لعقتُ الحائطَ
ألتذُّ بملح خسارتي
وأُقضّي عمري أزحف فوق جدارِ
أُخرِجُ للناس لساني
أوهمُهم أني ملتذُّ بفرائس أحزاني .
لو تغسلني أضواءُ الفجرْ
فأعود طرياً وجديداً ، لا صوتٌ جرّحني
ما لوّثني خطْمُ دخانِ.



* الوَزَغة
ينظر لي منتظراً أن يحتلّ مكاني !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى