عبد القادر وساط - الطاغية و ابنة الشيخ العسقلاني

جاء في " إتحاف الخلان " :
حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني ، قال : حدثني أخي عبدالرحمان ، عن الشيخ ابن عون الرياشي ، عن سعيد بن سليمان ، قال :
شهدتُ مجلسَ الطاغية يوماً و قد اجتمع فيه الوزراء و الشعراء و الأعيان ، فالتفتَ الطاغية إلى وزير اللغة و المعاجم ، الشيخ أبي إسحاق العسقلاني ، الملقب بظل الحَجَر ، و سأله عن الاسم الذي اختاره لمولودته البكر ، فقال الشيخ الوزير:
- لقد أطلقتُ عليها اسمَ شَهْلة ، يا مولاي المستبد بالله.
قال الطاغية :
- أما أنا فلا أحب هذا الاسم ،و لا أوافقك عليه، لأنه يذكرني بمالك بن الريب ، و لا إخالك تجهل أن والدة هذا الشاعر اللص هي شهلة بنت سَنِيح بن الحُرّ.
ثم إن المستبد استدار نحو الحاضرين و خاطبهم بقوله :
- يا معشر الوزراء و الشعراء و الأكابر ، أعينوا أخاكم الشيخ و اختاروا له اسما آخرَ غيرَ شهلة، فإني لم أستسغه ، و ما أراني إلا سأضيفه إلى لائحة الأسماء الممنوعة في نجدان .
فاستأذنَ عند ذلك وزيرُ الأصمعيات و المفضليات ، الشيخ أبو أحمر الحلواني، الملقب بنطاق الجوزاء، و خاطب الطاغية بقوله :
- يا مولاي ، أرى أن يطلق الشيخ ُ الوزيرُ على مولودته اسمَ سَمادير ، و هو الاسم الذي كانت تحمله زوجة الشاعر دريد بن الصمة ، و كنيتها أم معبد ، و هي التي يخاطبها في مطلع داليته البديعة بقوله :
أرَثَّ جديدُ الحبل منْ أمّ مَعْبَدِ = بعاقبة و أخلفَتْ كلَّ موعدِ
قال الطاغية :
- أنا أيضا أحب هذه الدالية ، و أحب على الخصوص قوله في رثاء أخيه :
أعاذلَ إنّ الرزْءَ في مثل خالدٍ = و لا رزْء فيما أهلك المرءُ عنْ يَدِ
و أحب قوله :
أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى = فلم يستبينوا الرشدَ إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنتُ منهم و قد أرى = غوايتهمْ و أنني غيرُ مهتدِ
و ما أنا إلا من غَزِيّة َ إن غوتْ = غويتُ و إنْ ترشدْ غزيّة ُ أرْشَدِ
و أحب قوله :
و إنْ يكُ عبدالله خلى مكانَهُ = فما كان وقّافاً و لا طائشَ اليد
صَبا ما صبا حتى علا الشيبُ رأسَه = فلما علاه قال للباطل ابْعد
و هوّنَ وجْدي أنني لم أقلْ لهُ = كذبتَ و لم أبخلْ بما ملكتْ يدي
و لكنني لا أحب اسمَ سمادير ، الذي يعني سربَ الذباب !
إثر ذلك ، وقف وزير الطغيان ، الشيخ خالد العريفي الجرمي ، الملقب بحية الوادي ، و قال :
- ليأذن لي مولانا الطاغية باقتراح اسمِ كأس. و هو الاسم الذي كانت تحمله ابنة الشاعر الكَلْحبة العُرَني . و قد ذكرها هذا الشاعر في قصيدته العينية المفضلية ، حين طلب منها أن تلجم فرسه فقال :
فقلتُ لكأس ألجميها فإنما = نزلنا الكثيبَ من زرودَ لنَفْزَعا
قال الشيخ سعيد بن سليمان :
و هكذا ذكرَ الحاضرون أسماء كثيرة ، فمنهم من اقترح اسم إدام ، و هي امرأة تغزل بها الشاعر بشر بن أبي خازم في ميميته المعروفة حين قال :
ألا ظعنتْ لنيَّتِها إدامُ = و كلُّ وصال غانيةٍ رمامُ
و منهم من جاء باسمِ سفانة ، و هي بنت حاتم الطائي، و منهم من تذكرَ اسم ريّا ، و هي امرأة ورد ذكرها في شعر شعراء كثيرين ، منهم ذو الإصبع العَدْواني في القصيدة التي يقول فيها :
يا منْ لقلب شديد الهمّ مَحْزونِ = أمسى تذكرَ ريّا أمّ هارونِ
و منهم من اقترح اسم صَدُوف ، التي ذكرها الشاعر سُبَيع بن الخَطيم التيمي في قصيدته الفائية ( باتت صَدُوفُ فقلبهُ مخطوفُ) . و لم يزل كل واحد من الحاضرين يدلي بدلوه إلى أن سمع طاغية ُ نجدان الشيخَ أبا زكريا الفيروزي يقترح اسمَ ريطة ، فنظر إليه نظرة منكرة و قال له :
- ويحك أيها الشيخ ، أنسيتَ أن ريطة واحدة من بنات هارون الرشيد ؟ فكيف نطلق اسمها على بنت وزيرنا هذا، مع ما نعرفه عن نسبه الوضيع ؟
ثم سكت الطاغية قليلا و عاد يخاطب الحاضرين :
- يا معشر الوزراء و الشعراء، إياكم أن تطلقوا على بناتكم و أبنائكم أسماء بنات و أبناء الملوك . و إياكم أن تنسوا أني سيرتُ إلى الكثيب وزيرَ الشمس و القمر في حكومتنا السابقة ، لا لشيء ألا لأنه تجرأ و أطلق على ابنته اسم حمدونة ، و هي واحدة من بنات هارون الرشيد . والحق أن هذا الخليفة العباسي العظيم كان يختار أسماء بناته فيحسن الاختيار ، فمن تلك الأسماء: أروى و ماردة . و من أسماء زوجات الخلفاء التي تحضرني الآن : ميسون زوجة معاوية ، و لبابة ، زوجة الخليفة الهادي ، و مؤنسة زوجة المهدي ، و قبيحة زوجة المتوكل ، و قطرالندى زوجة المعتضد، و بوران زوجة المأمون . و اعلموا أن مثل هذه الأسماء محظورة على العامة و على ذوي النسب الوضيع . فليختر كل واحد منكم لبناته و أبنائه أسماء تتناسب مع أصله و محتده ، و احذروا أن تضعوا أنفسكم في ورطة مماثلة لورطة ذلك الشقي الذي كان وزيرا للشمس و القمر فوسوسَ له الشيطان أن يطلق على ابنته اسمَ حمدونة ، فأصبح ملقى في الكثيب لا يرى ضوء الشمس و لا ينعم برؤية القمر.
ثم إن الطاغية أشار إلى كبير الوزراء، الشيخ أبي عبدالله المنجم ، الملقب بضمير الغيب و قال له :
- إذا كان الغد فذكرني كي أعين وزيرا للأسماء في حكومتنا الموقرة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى