الخمرة الجاحظ - رسالة الجاحظ إلى الحسن بن وهب في مدح النبيذ وصفة أصحابه..

[1- وصف النبيذ لا يفيه حقه]
أنا - أبقاك الله- الطالب المشغول، والقائل المعذور، فإن رأيت خطأ فلا تنكر فإنّي بصدده وبعرض منه، بل في الحال التي توجبه، والسّبب الذي يؤدّي إليه. وإن سمعت تسديدا فهو الغريب الذي لا نجده. اللهم إلّا أن يكون من بركة مكاتبتك، ويمن مطالبتك. ولأنّ ذكرك يشحذ الذّهن، ويصوّرك في الوهم، ويجلو العقل؛ وتأميلك ينفي الشّغل.
ولا يعجبني ما رأيت من قلّة إطنابك في هذا النّبيذ، وقلّة تلهّيك بهذا الشراب وأنت تجد من فضل القول وحسن الوصف ما لا يصاب عند خطيب، ولا يوجد عند بليغ. وأنت ولو مشيت الخيلاء، وحقّرت العظماء، وأرغبت الشعراء، وأعطيت الخطباء، ليكون القول منهم موصولا غير مقطوع، ومبسوطا غير مقصور، لكنت بعد مقصّرا في أمره، مفرّطا في واجب حقّه.
فلا تأديب الله قبلت، ولا قول الناصح سمعت.
قال الله تبارك وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
وقال الأوّل:
«استدم النّعمة بإظهارها، واستزد الواهب بإدامة شكره» .

[2- النبيذ دواء يشفي من الامراض]
بل كيف أنست بالجلساء، وأرسلت إلى الأطبّاء ولم يكن في قربك [منه] ما يغنيك، وفي النظر إليه ما يشفيك؟ ولم ملكت نفسك دون أن تهذي، ولم رأيت الوقار مروءة قبل أن تستخفّ ولم كان الهذيان هو الهذيان، والسّخف هو المروءة، والتّناقض هو الصّحّة وإلّا بأيّ شيء خصصت، وبأيّ معنى أتيت، ولم لم تخلع فيه العذار، ولم تخرج فيه عن كل مقدار.
وأيّ شيء أجرب جلدك وأمات حالك، وأضعف مسرّتك، وأوحش منك رفيقك، إلّا العقوبة المحضة، وإلّا الغضب والعقاب، وحرمك الثّواب إلّا التهاون في أمره، وقلّة الرّعاية لحقّه.
وكيف صارت أمراضي أمراض الأغنياء وأمراضك أمراض الفقراء إلّا لمعرفتي بفضله، واستخفافك بقدره. ألا ترى أنّي منقرس مفلوج، وأنت أجرب مبسور.
فإن تبت فما أقرب الفرج، وأسرع الإجابة. وسنفرغ لك إن شاء الله قريبا، وتفلح سريعا.
وإن أصررت وتتايعت وتماديت أتاك والله من سفلة الأدواء، وزوي عنك من علية الأمراض، ما يضعك موضعا لا ارتفاع معه، ويلزق بعقبك عارا لا زوال له. ثم تتبع أشياخك السّبّة، وتتبعهم المذمّة.

[3- النبيذ شقيقك الذي شغلت عنه]
علم الله أنّه استظرفك واستملحك، واستحسن قدّك، واسترجح عقلك، وأحسن بك ظنّا، ورآك لنفسه أهلا، ولاتّخاذه موضعا، وللأنس به مكانا، وأنت لاه عنه زار عليه متهاون به، قد اقبلت على ديوانك تشغل بملازمته وتدع ما يجب عليك من صفاته، والدّعاء إلى تعظيمه. بل هل كنت من شيعته والذابّين عن دولته، والمعروفين بالانقطاع إليه، والانبتات في حبله، إلّا أن يكون عندك التقصير لحقّه، والتّهاون بأمره اللازم، ونهي الناس عنه.
ولو خرجت إلى هذا لخرجت من جميع الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية. وأحسب أنّك لا تعظّمه ولا ترقّ له. ولو لم تتعصّب إلّا لجماله وحسنه، ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجبا، وأمرا معروفا.
فكيف مع المناسبة التي بينكما، والشّكل الذي يجمعكما. فإن كان بعضك لا يصون بعضا وأنت لا تعظّم شقيقا، فأنت والله من حفظ العشيرة أبعد، ولمعرفة الصّديق أنكر.
ولقد نعيت إليّ لبّك، وأثكلتني حفاظك، وأفسدت عندي كلّ صحيح.
وقد كان يقال: «لا يزال النّاس بخير ما تعجّبوا من العجب» . قال الشاعر:
وهلك الفتى أن لا يراح إلى النّدى ... وأن لا يرى شيئا عجيبا فيعجبا
قال بكر بن عبد الله المزنيّ: «كنا نتعجّب من دهر لا يتعجّب أهله من العجب فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن. ومن لا يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح» .
وقال بعضهم: «العجب ترك التعجّب من العجب» .
ولم أقل ذلك إلّا لأن تكون به ضنينا، وبما يجب له عارفا. ولكنّك لم توفّر حقّه ولم توف نصيبه.
فإن قلت: ومن يقضي واجب حقّه، وينتهض بجميع شكره؟ قلنا:
فهل أعذرت في الاجتهاد حتّى لا يذمّ إلّا تعجّبك، وهل استغرقت الاعتذار حتّى لا تعاب إلّا بما زاد على قوّتك. ولولا أنك عين الجواد لم نطلبه منك. ولولا ظنّك لم نحمدك عليه. ولولا معرفتك بفضله لم نعجب من تقصيرك في حقّه، ولولا أنّ الخطأ فيك أقبح، والقبيح منك أسمج، وهو فيك أبين والنّاس به أكلف، والعيون إليه أسرع- لكان كتابنا كتاب مطالبة، ولم يكن كتاب معاتبة، ولشغلنا الحلم لك عن الحلم عليك، والقول لك عن القول فيك.
وقد كنت أهابك بفضل هيبتي لك، وأجترىء عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع، وخوف المشفق، وأمن الواثق، وقناعة الراضي.
[4- الجاحظ يطلب النبيذ ويخشى أن يرد طلبه]
وبعد فمن طلب ما لا يجاد به، وسأل ما لا يوهب مثله ممّن يجود بكلّ ثمين، ويهب كلّ خطير، فواجب أن يكون من الردّ مشفقا، وبالنّجح موقنا.
وإن كان، أبقاك الله، أهلا لأن يمنع، وكنت حفظك الله أهلا أن تبذل، وجب أن تكون باذلا مانعا، وساكنا مطمئنا، إلّا أن يكون الحرب سلما سجالا، والحالات دولا.
ولهذه الخصال ما وقع الطّلب، وشاع الطمع.
فإن منعت فعذرك مبسوط عند من عرف قدره، وإن بذلت فلم تعد الذي أنت أهله عند من عرف قدرك، إلّا أنّه لا يجود بمثله إلّا غنيّ عند جميع الناس، أو عاقل فوق جميع الناس.
وكيف لا أطلب طلب الجريء المتهوّر، وأمسك إمساك الهائب الموقّر.
وليس في الأرض خلق يغتفر في وصفه المحال ولا يستحسن الهذيان سواه؟!
على أنّ من الهذيان ما يكون مفهوما، ومن المحال ما يكون مسموعا.
فمن جهل ذلك ولم يعرفه، وقصّر ولم يبلغه، فليسمع كلام اللهفان والثّكلان، والغضبان والغيران، ومرقّصة الصّبيان، والمنعظ إذا دنا منه الحلقي.
حتّى إذا استوهبك لم تهب له منه حتّى تقف وقفة، وتطرق ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفّع على مستوهبه، وتعجّب من شاربه، ثم تطيل الكتاب بالامتنان، وتسطّر فيه بتعظيم الإنعام مع ذكر مناقه، ونشر محاسنه بقدر الطاقة. وإن لم تبلغ الغاية فاعرف وزنه، واشهد بطيبه، وأرّخ ساعته، واشهر في النّاس يومه.
وما ظنّك بشيء لا تقدر أن تشرد في ذكره وتفرّط في مدحه، وتقصيرك واضح في لونه، مكتوب في طعمه، موجود في رائحته، إذ كان كلّ ممدوح يقصر عن مدحه وقدره، ويصغر في جنبه.
ولو لم يستدلّ على سعادة جدّك، وإقبال أمرك، وأنّ لك زيّ صدق في المعلوم، وحظّا في الرّزق المقسوم، وأنّك ممن تبقى نعمه، ويدوم شكره، ويفهم النّعمة ويروبّها، ويدرأ عنها ويستديمها، إلّا أنّه وقع في قسمك، وكان في نصيبك- لكان ذلك أعظم البرهان، وأوضح الدلالة.
بل لا نقول: إنّه وقع اتفاقا وغرسا نادرا، حتّى يكون التّوفيق هو الذي قصد به، والصّنع هو الذي دلّ عليه.

[5- النبيذ غنى لمالكه وفقر لفاقده]
ولو لم تملك غيره لكنت غنيّا، ولو ملكت كلّ شيء سواه لكنت فقيرا.
وكيف لا يكون كذلك وهو مستراح قلبك، ومجال عقلك، ومرتع عينك، وموضع أنسك، ومستنبط لذّتك، وينبوع سرورك، ومصباحك في الظّلام، وشعارك من جميع الأقسام.
وكيف وقد جمع أهبة الجلال، ورشاقة الخلال، ووقار البهاء، وشرف الخير، وعزّ المجاهرة ولذّة الاختلاس، وحلاوة الدّبيب.

[6- النبيذ يطرد الهم ويعيد الشباب]
وسأصف لك شرف النبيذ في نفسه، وفضيلته على غيره، ثم أصف فضل شرابك على سائر الأشربة، كما أصف فضل النّبيذ على سائر الأنبذة؛ لأنّ النبيذ إذا تمشّى في عظامك، والتبس بأجزائك، ودبّ في جنانك، منحك صدق الحسّ، وفراغ النفس، وجعلك رخيّ البال، خليّ الذّرع، قليل الشّواغل، قرير العين، واسع الصّدر، فسيح الهمم حسن الظنّ. ثم سدّ عليك أبواب التّهم، وحسّن دونك الظّنّ وخواطر الفهم، وكفاك مؤونة الحراسة، وألم الشّفقة، وخوف الحدثان، وذلّ الطمع وكدّ الطلب، وكلّ ما اعترض على السّرور وأفسد اللّذّة، وقاسم الشهوة، وأخلّ بالنعمة.
وهو الذي يردّ الشّيوخ في طبائع الشّبان، ويردّ الشّبّان في نشاط الصّبيان، وليس يخاف شاربه إلّا مجاوزة السّرور إلى الأشر، ومجاوزة الأشر إلى البطر.

[7- النبيذ يبعث على الظرف والضحك في كل وقت]
ولو لم يكن من أياديه ومننه، ومن جميل آلائه ونعمه، إلّا أنّك ما دمت تمزجه بروحك، وتزاوج بينه وبين دمك فقد أعفاك من الجد ونصبه، وحبّب إليك المزاح والفكاهة، وبغّض إليك الاستقصاء والمحاولة، وأزال عنك تعقّد الحشمة وكدّ المروءة، وصار يومه جمالا لأيّام الفكرة، وتسهيلا لمعاودة الرّويّة، لكان في ذلك ما يوجب الشّكر، ويطيب الذكر. مع أنّ جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجرم، وأقلّ الثمن.
ثم يعطيك في السّفر ما يعطيك في الحضر، وسواء عليك البساتين والجنان. ويصلح بالليل كما يصلح بالنهار، ويطيب في الصّحو كما يطيب في الدّجن، ويلذّ في الصيف كما يلذّ في الشتاء، ويجري مع كلّ حال. وكلّ شيء سواه فإنّما يصلح في بعض الأحوال.
ويدفع مضرّة الخمار، كما يجلب منفعة السّرور.
إن كنت جذلا [كان] بارّا بك، وإن كنت ذا همّ نفاه عنك.
وما الغيث في الحرث بأنفع منه في البدن، وما الرّيش السّخام بأدفأ منه للمقرور.
ويستمرأ به الغذاء ويدفع به ثقل الماء، وتعالج به الأدواء، وتحمّر به الوجنتان، ويعدل به قضاء الدّين.

[8- النبيذ يسبب السرور ويحث على الجود]
إن انفردت به ألهاك، وإن نادمت به سوّاك.
ثم هو أصنع للسّرور من زلزل، وأشدّ إطرابا من مخارق، وقدر احتياجهما إليه كقدر استغنائه عنهما؛ لأنّه أصل اللذات وهي فرعه، وأوّل السرور ونتاجه.
ولله درّ أوّل من عمله وصنعه، وسقيا لمن استنبطه وأظهره. ماذا دبّر؟
وعلى أيّ شيء دلّ؟ وبأيّ معنىّ أنعم؟ وأيّ دفين أثار؟ وأيّ كنز استخرج.
ومن استغناء النّبيذ بنفسه، وقلّة احتياجه إلى غيره، أنّ جميع ما سواه من الشراب يصلحه اللّج، ولا يطيب إلّا به.
وأوّل ما يثنى عليه به، ويذكر منه، أنّه كريم الجوهر، شريف النّفس، رفيع القدر، بعيد الهم، وكذلك طبيعته المعروفة وسجيّته الموصوفة. وأنّه يسرّ النفوس ويحبّب إليها الجود، ويزيّن لها الإحسان، ويرغّبها في التوسّع، ويورثها الغنى، وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزّا، ويعدها خيرا، ويحسّن المسارّة، ويصير به النّبت خصبا والجناب مريعا، ومأهولا معشبا.

[9- النبيذ يجمع الندماء ويرفق بالسكارى]
وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظّرفاء، ولا أشدّ تألّفا للأدباء، ولا أجلب للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين، ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم، ويطول به مجلسهم، منه.
وإنّ كلّ شراب كان حلا ورقّ، وصفا ودقّ، وطاب وعذب، وبرد ونقخ، فإنّ استطابتك لأوّل جرعة منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروها وبليّة، إلا النبيذ، فإنّ القدح الثاني أسهل من الأوّل، والثالث أيسر، والرابع ألذّ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النّوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلّبا، وأخذه بالرأس تعسّفا، حتّى يميت الحسّ بحدّته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظّته، ولا يسري في العروق لغلظه، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصّميم.
ولا والله حتّى يغازل العقل ويعارضه، ويدغدغه ويخادعه، فيسرّه ثمّ يهزّه، فإذا امتلأ سرورا وعاد ملكا محبورا، خاتله السّكر وراوغه، وداراه وماكره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السّكر، ويعتسف الداذيّ، ويفترس الزّبيب؛ ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم، وتزيين الصّمت.
وهذه صفة شرابك إلّا ما لا نحيط به، ونعوته تتبدّل إلّا ما يقبح منها الجهل به.
وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل، وتمشّيها في العظام ولونها الغريب؛ وأخذ برد الماء ورقّة الهواء، وحركة النار، وحمرة خدّك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعت، وبياض عارضيك إذا ضحكت.
[10- مديح الحسن بن وهب]
وحسبي بصفاتك عوضا من كلّ حسن، وخلفا من كلّ صالح. ولا تعجب أن كانت نهاية الهمّة وغاية المنية؛ فإنّ حسن الوجوه إذا وافق حسن القوام وشدّة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل وسعة الخلق، والمغرس الطيّب والنصاب الكريم، والظّرف الناصع، واللّسان الفخم والمخرج السّهل والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة والنّبل في الجلسة، والحركة الرّشيقة واللهجة الفصيحة، والتمهّل في المحاورة والهزّ عند المناقلة، والبديه البديع والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب، يفلّ الحزّ ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصّر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحقّ بالكمال. والحمد لله.
وإنّ التاج بهيّ وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن، والشّعر الفاخر حسن وهو من فم الأعرابيّ أحسن. فإن كان من قول المنشد وقريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وأقام النهاية.

[11- اهداء النبيذ دليل على المودة والتقدير]
وهذا الشراب حسن وهو عندك أحسن، والهديّة منه شريفة وهي منك أشرف.
وإن كنت قدّرت أنّي إنّما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه، أو لأهبه، أو لأتحسّاه في الخلا، أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء، واجترّ زيادة الخلطاء، أو لأبتذله لعيون النّدماء، أو أعرّضه لنوائب الأصدقاء فقد أسأت بي الظنّ، وذهبت من الإساءة بي في كلّ فنّ، وقصّرت به فهو أشدّ عليك، ووضعت منه فهو أضرّ بك.
وإن ظننت أنّي إنما أريده لأطرف به معشوقة، أو لأستميل به هوى ملك، أو لأغسل به أوضار الأفئدة، أو أداوي به خطايا الأشربة، أو لأجلو به الأبصار العليلة، وأصلح به الأبدان الفاسدة، أو لأتطوّع به على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، أو أديب مدقع، ليفتق لهم المعاني، وليخرج المذاهب، ولما في جانبهم من الأجر، وفي أعناقهم من الشكر، ولينفضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذّكر؛ فإنيّ أريد أن أضع من قدرها، وإن أكسر من بالها، فقد تاهت وتيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرّك بمكانه، وآنس بقربه، أو لأشفي به الظماء، أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء، أو لأن أذكرك كلّما رأيته، وأداعبك كلّما قابلته أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر. ولأنّه والفقر لا يجتمعان في دار، ولا يقيمان في ربع.
ولأتعرّف به حسن اختيارك، وأتذكّر به جودة اجتبائك. أو لأن أستدلّ به على خالص حبّك، وعلى معرفتك بفضلي، وقيامك بواجب حقّي- فقد أحسنت بي الظنّ، وذكرت من الإحسان في كلّ فن. بل هو الذي أصونه صيانة الأعراض، وأغار عليه غيرة الأزواج.
واعلم أنّك إن أكثرت لي منه خرجت إلى الفساد، وإن أقللت أقسمت على الاقتصاد.
وأنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة، فأقلّ ما أصنع إن أكثرت لي منه أن أطلب المملك، وأقلّ ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض. فإن أقللت فإنّك الولد الناصح، وإن أكثرت فإنّك الغاشّ الكاشح. والسلام.



- هامش رسالة مدح النبيذ وصفة اصحابه
(1) «ان الطالب المشغول والقائل المعذور» يلخص موضوع الرسالة. فهو يطلب من مخاطبه الحسن بن وهب النبيذ، ويصفه ويمدحه.
(2) «اني منقرس مفلوج، وانت أجرب ميسور» اشارة الى مرضي الجاحظ اللذين اصيب بهما في شيخوخته وهما النقرس والفالج. مما يدل على تاريخ وضع الرسالة المتأخر. اما مرض الحسن بن وهب فهو البواسير. وكأن الجاحظ يحاول ان يقنع الحسن بن وهب بأن النبيذ يساعد على الامراض المذكورة.
(3) لاحظ كيف يحث الجاحظ على اقتناء النبيذ ويحسنه. انه بمثابة الصديق الذي ينبغي المحافظة عليه والضن به.
- اقبلت على ديوانك تشغل بملازمته: اشارة الى عمل الحسن بن وهب كاتبا في ديوان الخليفة.
(4) لاحظ كيف يصف تردد المرء اذا سئل شيئا عزيزا عليه «وحتى اذا استوهبك لم تهب منه حتى تقف وقفة، وتطرق ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفع على مستوهبه، وتعجب من شاربه..» .
(5) النبيذ غنى لمالكه وفقر لفاقده؛ لماذا؟ لأنه «مستراح قلبك وجمال عقلك، ومرتع عينيك، وموضع انسك، ومستنبط لذتك، وينبوع سرورك، ومصباحك في الظلام، وشعارك في جميع الاقسام» . هذه ذروة البلاغة.
(6) تأثير النبيذ في النفس: يطرد الهم ويريح النفس ويعيد الشباب لمن فقده.
- الذرع: الطاقة والوسع.
(7) النبيذ يحبب الظرف والفكاهة. والجاحظ يشدد على هذه الصفة لأنه مطبوع على الظرف كلف به.
- وما الريش السخام (اللين) بادفأ منه للمقرور: إشارة الى خاصة النبيذ في اثارة الدفء في الجسم ابان البرد.
- تعالج به الادواء: ترديد للفكرة التي اشرنا إليها.
(8) اصنع للسرور من زلزل واشد اطرابا من مخارق: زلزل مغن مشهور عاش في عصر الرشيد واخذ عن ابراهيم الموصلي.
- اما مخارق: فمغن عباسي آخر معاصر لزلزل والجاحظ.
(9) النبيذ يجمع الندامى ويرفق بالسكارى؛ لاحظ جمال الوصف.
الداذي: شراب يستخرج من حب كالشعير طيب الرائحة.
(10) مديح الحسن بن وهب يحيط بجميع النواحي الجسمية والخلقية والعقلية، والنفسية والفنية عنده. ان ادبه كأدب الجاحظ يتصف «بالبديه البديع والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والايجاز يوم الايجاز، والاطناب يوم الاطناب..» . وراجع مفهوم البلاغة عند الجاحظ في رسالة البلاغة والايجاز ضمن هذا الكتاب اي رسائل الجاحظ الأدبية.
(11) لاحظ براعة الجاحظ في تبرير غايته.
- اكسير اصحاب الكيمياء: يدعى ايضا حجر الفلاسفة، وهو مادة كيمياوية اعتقد القدماء انها تحول المعادن الرخيصة الى ذهب.
- انا رجل من بني كنانة: يشير الى أصله ويعتز به. وهو لم يذكر انه مولى كما زعم البعض. مما يدل على صحة نسبه العربي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى