وساط جيلالي

كنا وحيدين ذلك الصباح في ذلك البار الصغير المنزوي في أحد الأركان - إذا ما استثنينا البارمان والنادلة والشيخ الذي يجلس في الظل أمام زجاجة بيرة - في البداية كان هادئا، أنيقا في بذلته السوداء، يضع أمامه أوراقا كثيرة، أحيانا يمعن في القراءة، ثم يمعن في الكتابة، ثم يتوقف لحظة ويبدو أنه يغكر في أمر...
أهَيئ الدرس ، أُفَكّرُ التفاصيل ، أرسم المراحل ، وفي الطريق إلى الإعدادية أعيد ترتيب كل شيء في ذهني ٠ ها أنا واقف أمام حجرة الدّراسة والتلاميذ يدخلون ، وهم يأبون إلا أن يُصافحوني واحداً واحداً ، وأنا أخجل من أن لا أمد يدي لهم ، وأصافحهم بدوري واحداً واحداً حتّى آخر الأربعين ٠ وما إن يعُمّ الصّمت...
كنت أُطِلُّ من الشرفة وكانت تقف بجانبي ، أمامنا الشاطئ برماله الصفراء وأمواج البحر الصّاخبة ، قالت لي أو لعلها كانت تحدِّث نفسها : ـ سأرمي بنفسي من الشرفة ٠ لم أحمل كلامها محمل جِدٍّ فقد كانت ثملة، وقلت في نفسي : لو اِختلطت دِماؤها بحبَّات الرَّمل لبدت هذه الأخيرة مثل الكريات الحمراء في الصُّورة...
لو كنت أديبا أو كاتبا يُحْسِنُ رواية الأحداث ، لَسَجّلْتُ حكاية الحاج عمر كما رواها لي و لأذعتها في كتاب للناس. حكى لي أنه قرّر الترشح في الانتخابات البرلمانية السابقة نِكايةً في أحد أبناء عمومته الذي كان ينوي الترشح بدوره ، لكن كان لا بد له من تزكية أحد الأحزاب ليكون وكيل لائحة ، وهكذا إذن بدأ...
حميد و جده يقطنان بالبيت الصّغير الذي يقع في آخر الحي ، يتكون من غرفتين ، غرفة الجد و غرفة الحفيد ، و المطبخ الذي لم يَعُدْ يُستعمل، والمرحاض الضيق أمامَهُ برميل الماء و السطل الصّغير ٠ الجد متقاعد تجاوز السبعين ، لكنه لا يزال قويا و نشيطاً ، يرفو الملابس العتيقة ، و يُصلح الأحذية المهترئة، و...
تُرى كيف حدث الأمر؟ فقيهنا العبدي، القصير القامة، ذو الملامح المُرْعبَة، القاسي، يُنادي على حسن من بيننا جميعاً، يأمره بأن يضع لوحه في الركن، ثُمّ يصب من البَّراد الذي أمامه كأس شاي، ويناوله له، ويُشير إليه أن يجلس بجانبه فوق المصطبة نحن نقرأ في ألواحنا بأصوات عالية و أجسادنا تتمايل ، و حسن...
بمستشفى المجانين وقع المجنون الملقب بالعصفور بحب الممرضة الشابة اللعوب التي كانت تمر عليهم لتعطيهم الدواء ، كانت جميلة بيضاء ، و كانت شفتاها مكتنزتين و تضع عليهما أحمر الشفاه ، فأصبح يطاردها من مكان لمكان و يتوسل لها أن تمنحه قبلة٠ لكي تتخلص منه قالت له : ـ لكي أمنحك قبلة ، يجب أن تعطيني مائة...
كان الأستاذ قد اِنتهى من شرح الفقرة الأولى التي تدور حول الأسباب غير المُباشرة للحرب العالمية الثانية، واستدار نحو السّبُّورة لكي يكتب مُلخص هذه الفقرة، وبِمُجرّْد ما استدار أمسك مصطفى بقلمه، وعلى الورقة التي أمامه بدأ هو كذلك بالكتابة، وكان قد فكّر طيلة جزء من الليل فيما سيكتبه، لذلك اِنساب...
لا تنفك عمتي يزة تنذب حظها، تقول إن عينا شريرة تلاحقها، فمستأجرو بيتها، الذين تتابعوا على كرائه منذ وفاة زوجها، بعد أن أخلته وسكنت بالغرفة الصغيرة على السطح، لم (يَصْدَقْ) فيهم ولا واحد. تقول لي: ـ أول من اكترى مني البيت كان أستاذ لغة فرنسية، أنيق وصامت لا يكلم أحدا، ولا يأتي عنده أحد، لكن ما إن...
كان عبد العزيز، وكنا نسميه تحببا “تَعِيزَّا”، مِلْحَ جماعتنا، ومُنقذنا من الملل، وصانع فرجتنا. وحين أتذكر اليوم، بعد كل هذه السنين الطويلة، كثيرا من الوقائع العجيبة، أجد أن تَعيزّا كان في الغالب هو مُبدِعها، وبطلها، وضحيتها ! أذكر، من بين كثير مما أذكر، أننا قرأنا في حصة القرآن الكريم قصة...
مات صديقي الشرطي بعد أن تقاعد بسنتين، كان رجل أمن ولم يتزوج طيلة حياته، كنت أزوره في بيته بين الفينة والأخرى، أحب أن أجالسه لطيبوبته وروحه المرحة السّاخرة، يقول لي ضاحكا وهو في المطبخ يعد الشاي وأنا جالس في غرفة الاستقبال الصغيرة: ـ هل تعلم أنني لم ألق القبض على أحد طيلة ممارستي لمهنتي؟ ويضيف ...

هذا الملف

نصوص
41
آخر تحديث
أعلى