كارنيك جورج - سميحة . . !

ما إن ألقى نظرة على غلاف المجلة التي تناولها من يدي حتى تغيّر لونه ! ولبث وقتًا غير قصير يتأمل الغلاف الذي طُبِع عليه صورة فتاة شقراء جميلة. ثم سمعته يهمهم مأخوذًا ـ كأنها هي ...ففهمتُ من كلامه أنه يشبّهها بفتاة يعرفها، فقلتُ متسائلاً :

- من هي؟
- سميحة ! إنها هي تمامًا، الشعر الأصفر المائل إلى الإحمرار، الوجه المشرق المستدير ... أقسم إنها تشبه هذه الفتاة شيهًا عجيبًا.
- .. ربما كانت هي !!
فنظر إليّ كأنه تألم من سخريتي، ولم يجب. فأثار صمتُه فضولي فاندفعتُ إليه أسأله :
ومن تكون سميحة؟ وما أمرك معها؟ ألا تتفضّل وتحدّثني عنها؟
فأجاب بعد أن تأمل الصورة مرة أخرى :
- سأكلّمكَ عنها .. ولك أن تكتب قصتها إذا شئت، ولكن .. أرجو أن تعطيني هذه الصورة.
وفي الحال أخذتُ المجلة ونزعت عنها الغلاف، فليس احَبّ إلى نفسي من إبدال غلاف مجلة بفكرة قصة. وقبل أن أقدّمه له قال " حبذا لو أتممت جميلك، أنت لا تدري كم ثمينة هذه الصورة عندي، سأشتري لها إطارًا يليق بها. والآن إرفع تلك الصورة عن الحائط، وألصق مكانها صورة سميحة .." فامتثلتُ لأمره، ولم تمضِ دقائق حتى كانت الصورة مثبتة عل الحائط المواجه له.. ورأيته يطيل النظر إليها، حتى كأنه يغرق في التأملات، فقلتً أذكّره بوعده:
- متى تفي بوعدك يا سيدي؟
فانتبه إلى قولي، واضعًا سيجارته بين شفتيه، ثم قال:
- أوه .. أجل، الآن سأحدّثك عنها.
وتناول السيجارة من فمه، ونفخ الدخان بقوة، ثم عاد يقول:
- لو أنك فتحت تلك النافذة، ونظرتَ منها، لواجهتك نافذة أخرى تقابلها في المسكن المواجه لها...تلك كانت نافذتها..! نافذتها التي كثيرًا ما سمحت لأنظاري بالولوج خلال الغرفة، وتأمّل المخلوقة الفاتنة سميحة، الفتاة التي احببتها، وباتت هي الأمل الوحيد الذي أسعى إلى تحقيقه برغبة لا تقاوَم !
وسكت صاحبي هُنَيهة، وهو يرمق الصورة بعينين بدا لي فيهما شيء لامع.. ثم استأنف يقول:
- لا حاجة إلى أن أطيل فأصف لك كيف أحببتها وكيف عشقتها، وكيف صممتُ على أن اتزوّجها، فإن ذلك يؤلمني أكثر مما يبهجك ويؤنسك، فكن شفوقًا ولا تلحّ في معرفة كل كبيرة وصغيرة حدثت بيننا. يكفيك أن تعلم أنها لم تكن تعبأ بي ! وأني لم أجرؤ على مفاتحتها بحبي ! لأسباب كثيرة، أهمها خجلي الشديد من الوقوف أمامها ومواجهة نظراتها..ثم تلقّي كلمتها..! فكنتُ أهفو إلى اليوم الذي أستطيع فيه أن أفاتح أمي برغبتي في الزواج من سميحة، أي بعد أن أحصل على شهادتي المدرسية، واتعيّن في وظيفة تناسبني..! ولم أكن أعلم أن القدر كان يُضمر لي شيئًا آخر..! لم أكن أتصوّر أني سأصاب بهذا الداء الوبيل ..السرطان.. بعدما حدث ذلك.. فقد انهارت جميع آمالي، وصرتُ أقرب إلى الموت مني إلى الحياة ! أنت تعلم ما حدث بعد ذلك، وتعلم أن الداء أبى أن يتركني أحيا كما يحيا أبناء آدم وبناته. فنشبت بينه وبين الأطباء معركة عنيفة، إنتهت بفوز الأطباء.. وكانت الخسارة مني ! هي ساقي اليمنى، فقد بُترت من فوق الركبة، وأصبحتُ منذ ذلك الوقت كما تراني الآن... رجُلاً لا نفعَ فيه، يختلف عن بقية الرجال إختلافًا لا يتصوّر فظاعتَه أحدٌ غيرُه!
يقولون إن المحب أناني، وإن الحب نوع من أنواع الأنانية، لكن الواقع غير هذا. فالحب الصحيح لا يقبل إلا التضحيات، وإلا الإبتعاد عن كل ما يتصل بالأنانية ! فأنا كنتُ على استعداد لأن أضحّي بكل ما لديّ في سبيل سميحة، ولكني لم أجرؤ أن أفكر ـ بعد الحادث ـ في تزوّجها. وإن كان أصحابي وأهلي يحاولون إقناعي يضرورة الزواج، كي لا أبقى وحيدًا علجزًا بعد موت والديّ اللذين كانا في أواخر عمريهما.
.. لفد بقيتُ على رأيي حتى الصفعة الثانية التي صفعني بها القدر !! ....فاتني أن أقول لك إن سميحة شبّت فاتنة الطلعة، معجبة بجمالها، ، فقد ملأها إطراء أهلها وذويها غرورًا وتيهًا. والمرأة المغرورة، سريعة الوقوع في الشراك ! يكفي الرجل أن يهمس في أذنيها بضع كلمات، معدّدًا بها مزاياها، مطريًا بها جمالها .. حتى تنفذ كلماته إلى صميم قلبها.. فتتجه إلى ذلك الرجل مفتونةً به ! وهذا ما وقع لسميحة! لكن الرجل الذي همس في أذنها كان له قلب ذئب ونفس إبن آوى، فما إن وجدها طوعَ يديه، وما إن رآها تمنحه ثقتها الكاملة، حتى افترسها..! بل إفترسَ أسمى ما فيها، وتركها بين أيدي الحياة مطعونة في الصميم..!
لم يلبث أمرها أن فُضح.. وكان أبوها من المحافظين الذين لا يتسامحون في مثل هذه القضايا أبدًا. فهو عندما أدرك حقيقة ما حدث لسميحة، صُدم صدمة قوية، ومع ذلك فقد أستفاق ذات ليلة.. ولم ينم إلا بعد أن غسل ذلك العار.. بالدم ! دون أن يدري أنه بذلك قطع آخِرَ أمل لي في الحياة ! واليوم وقد مرت سنوات على هذا الحادث، مات خلالها والدايَ، فبقيتُ وحيدًا عاجزًا، أعيش على إيجار الأملاك التي تركها لي والدي، ما زلتُ أتساءل : تُرى لو عملتُ برأي أهلي وأصحابي، وتزوّجتُ سميحة بعد فقدان ساقي.. أكُنتُ أُسعِدُها ..حقًا ؟!!



جريدة (الخميلة) البحرينية
العدد 5
صادر في 1 تشرين أول 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى