هدى توفيق - بارقات قصصية

بارقة رقم (1)
ضريح العوانس
كانت تداوم على الذهاب كلما ملأها الحنق ، والضيق بالموعد المؤجل ، والنصيب المتعند أن تحظى بنصفها الآخر لتلك الحياة القصيرة، فتذهب للبحث عنه فى ضريح العوانس بإلقاء ورقة مكتوب عليها : ( ياسيدي عتريس هاتلي عريس ). والكثيرات أيضا يترددن على ضريح أبو السعود ( بمنطقة مصر القديمة ). محافظة القاهرة بزعم الشفاء من الأمراض والبحث عن عريس ، اللاتي يمارسن طقوس غريبة أثناء زيارة الضريح ، وهن يستجدين قدوم العريس، تدور الفتاة حول الضريح ثلاث مرات قبل إلقاء الورقة أمام الضريح ، وفى كل مرة تكاد تصرخ من داخلها :( ياسيدى عتريس هاتلي عريس ... ياسيدي عتريس هاتلي عريس ... ياسيدي عتريس هاتلي عريس).

بارقة رقم (2)
بحري – قبلي
كان يطلق عليها نادية بحري ، قبلي ، عمرها خمسة وعشرون عاما ، تدمن بودرة الهيروين ، أحبت رفيقها فى ملجأ الأيتام ، وأنجبت منه طفلاً بزواج عرفي. تعمل عاهرة لتقتات رزقًا لطفلها وادمان البودرة ،بعد أن أُخذ زوجها فى قضية تعاطي وترويج المخدرات ، مشهود عنها بين السائقين ومجتمع عملها أنها خفيفة الحركة ، تذهب إلى أي مكان بحري ، قبلي بسعر واحد بشرط توفير وسيلة الانتقال للمكان الذى ستمارس فيه الرذيلة ، لها ولطفلها ، وفى إحدى الحفلات الجنسية الجماعية بينها وبين ثلاثة رجال ، يُقال أنها ألقت بطفلها من بالكونة الطابق الرابع حتى لايأخذوه منها ، هكذا قالت وادعت فى المحكمة. توقع ذو أصحاب القلوب الرحيمة الشفقة بحالها و تخفيف الحكم عليها ، لكن الحكم كان صادمًا للجميع وهو الإعدام ، بينما الرجال الثلاثة غرامة مالية ، وحكم بالسجن مع وقف التنفيذ .

بارقة رقم (3)
الاسم
كنت محتارة فى اختيار اسم مولودي الجديد ، حتى قامت أمي وأحضرت ثلاث شمعات للمولود ، كل واحدة باسم أفضله أنا وزوجى ، لكن أيضا احترنا فى اختيار أيهم : ياسين/ عمر/ محمد . ثم أخبرتني أمي أن الشمعة التي تطفئ الأول يستقر الاسم عليها ، فجأة دموع صامتة مدرارة ملأتها ، وقد تذكرت أن الشمعة ذات الاسم الأول قد انطفأت إلى الأبد ، فقد مات ياسين من عدة سنوات في خناقة مع أحد البلطجية في حي امبابة (محافظة الجيزة ). وأنها بعد تلك الحادثة المأساوية ، عادت إلى مسقط رأسها فى المنصورة حتى تدفنه وتظل بجانبه إلى أن تلتقي به ، وترقد بجانبه وتخبره بحكاية الشمعات الثلاث . فقد فاتها أن تحكيها له وهو على قيد الحياة .

بارقة رقم (4)
المشاعر
كان مدير أعماله يقظًا جدًا لأستاذه الفنان الكبير، وهو يحذره إذا شاهد أي قطة بائسة أن يخبره فورًا ، لأنه مشغول ذهنيًا بموعد الصالون الفني ، الذى يعقده شهريًا فى أحد النوادى المشهورة للغناء ، واستقبال المواهب الجديدة ]فى منطقة مصر الجديدة [. في محافظة القاهرة ، و يحكي بمأساوية عن أفعال أستاذه الرقيق المشاعر ، الطيب القلب ، الرحيم بالقطط : " فى إحدى المرات ونحن كعادتنا ذاهبين إلى حفلة ، رأى قطتان بلدي ، نزل على الفور من السيارة وظل بجانبهما ، ثم أخذهما إلى طبيبه البيطري ، ومنه إلى منزله فى منطقة ] الريحاب [. لديه حوالي اثنان وثمانون قطة بلدي ، وواحدة شيرازي فقط مهداة له من أحد أصدقائه فى العراق . وتذكر فجأة ميعاد الحفل ، وقد قمت بإلغائه قبل أن يتذكر لأني أعرفه سينشغل تماما بالقطتان المسكينتان ، وينسى كل شئ ، ثم أمرني أن أضيفهما فى جروب القطط الخاص به على الفيس بوك ، ليتعارفا على أصدقاء وصديقات جدد ، ويتم زفافهما قريبا إن شاء الله.

بارقة رقم (5)
ألف باء
كانت أمي دوما تيأس من عدم قدرتها على الكتابة فى الخطابات التى نرسلها لأخي المقيم فى السعودية مع أسرته ، وتزعق أمي ، والدموع تترقرق فى عينيها البراقتان بالتوقد والحنان وتقل بحزن : " ياسلام ياولاد ماأحلى العلام ، لو كنت أعرف أكتب قد دي الكتب " ، وهى تشير بسبابتها لصفوف الكتب لأبنائها الثلاثة الذين لازالوا فى المراحل التعليمية المختلفة ، وتصر قبل أن نغلق الخطاب أن تنهيه بخطها (أ ـ ب). ثم تشرح لأخي معناها فى التسجيل الصوتي المرسل مع الخطاب قائلة بدموع تترقرق : سامحني يا ابن بطني .. يا حبيب قلبي أني جاهلة ، لكن لازم تعرف إن أ ـ ب ياحبيبى : هي كل حاجة حلوة عايزه أقولها ليك ياضناي . ياحتة من روحي ، وكل حاجة حلوة تنولها بالبركة ، والرضا ، والسعد. طول عمرك ياضناي .

بارقة رقم (6)
الاكتئاب
كانت تأخذ حبوب الاكتئاب الغالية الثمن ، حتى أخبرت الطبيب بضيق : " مهدأ قوي ، لكنه بيهمد جسدي تمامًا ، ويشعرني بالنعاس طوال اليوم ، وأنا أحتاج للوقت لرعاية زوجى وطفلاي ، لو سمحت اكتب لي نوع آخر " كتب لها على نوع آخر تأخذ منه واحدة بعد الافطار وقبل النوم ، ثم تقول بسخرية : "الاكتئاب أصبح مرض العصر ... زمان كان يقولوا عليه مجنون أو مجنونة من يحكي أن عنده اكتئاب ... الآن أمر عادي كأنه انفلونزا ، وتسترسل : " جائتني هذه الحالة بالضبط بعد موت أبي ، طوال الوقت أبكي ، ومخنوقه ، ومتضايقه .. إلى الآن أكثر من سبعة أشهر. لا أستطيع أن أنسى مشهد موته. أشعر به فى المنزل ، وسكرات الموت التي عايشتها معه لحظة بلحظة ، ظل يشخر من السابعة صباحًا إلى الخامسة مساءً ، وكان يحرك شفتاه ، كأنه يتحدث مع الملائكة ، ما أصعبها تلك السكرات ، وفجأة اهتز المنزل ، وشعرت بزلزال حقيقي ، فأدركت أنه مات ، وقمت ببكاء صامت موجع إلى حجرته . كان شخيره قد زال تماما وكان مستلقيا بوجه ناصع مضئ ، ملقي ذراعاه بجانبه ، ثم ضمهما على صدره ، وأغلق عيناه كأنه يودعني ويودع الحياة برضا تام ، يقولون أنه كان يخاطب قلبه ، وعاد إليه أي بيت الراحة الأبدية ، تلك المشاهد عن سكرات الموت التي عشتها لساعات مع أبي تأتيني فى اليقظة ، والحلم ، وأرتعب ، وأنا أسمع صوته ، وأشعر بحركته فى الشقة كاملًا ... تعبت للغاية إلى حد الاكتئاب.



الكاتبة المصرية / هدى توفيق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى