يوسف إدريس - جمهورية فرحات..

ما كدت أدلف إلى القسم ومعي الحرس حتى أحسست بانقباض مفاجىء . لم تكن تلك أول مرة أدخله ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى القسم فيها في الليل ، ولهذا شعرت حين تخطيت الباب أني أدلف إلى خندق سفلي لا يمت إلى الحاضر ولا حتى إلى الماضي القريب ... جدران يكسوها حتى منتصفها سواد على هيئة طلاء وكآبة تكسو نصفها الثاني .. وبقع بيضاء مبعثرة هنا وهناك لا تخفف السواد بقدر ما تظهر بشاعته . وأرض لزجة لا تدري إن كانت من الأسفلت أو من الطين ورائحة ... رائحة لا تستطيع أن تحدد كنهها وإنما لا بد أن تحس معها بغثيان ، وضوء باهت يأتي من مصابيح بالغة القدم عشش عليها الذباب وباض ... مصابيح معظم ضوئها محكوم عليها بالسجن المؤبد داخلها والقليل الذي يتسلل منها هرابا لا يبدد الظلام بقدر ما يحتمي به ويتستر وإن وقع على الأشياء والناس فإنما ليظهر كل ما بها من حزن وقبح وبشاعة .

وأحسست حين احتوائي هذا كله وأصبحت جزءا لا يتجزأ منه والناس من حولي على سيماهم جد خطير يمشون كالمنومين ، وصناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي المقهى إلى صادرها بوليس البلدية وهي مكومة في ركن وأصحابها متناثرون حول الجدران والأركان متهالكين على الأرض ورؤوسهم مائلة على حجورهم . والعساكر يبدون في أرديتهم السوداء كعفاريت منتصف الليل .

أحسست حين احتوائي هذا كله أنني لا بد أنا الآخر قد ارتكب جريمة ونسيت ومنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع ولم أكن أستطيع مغادرة المكان فقد كان على أن أحجز في القسم ليلة لأرسل إلى النيابة في صباح الغد .. واحتاروا أين يضعونني فالحجز كان ممتازا والحجر الأخرى التي يوضع السياسون فيها عادة تعج بالمراقبات وصاحبات الحرفة ، ولم يبدوا لي في النهاية خيرا من حجرة الضابط التوبتجي . وهناك تركت ومعي حارس ..

كانت الحجرة على سعتها تضيق من فيها ، وكان أبرز الموجودين جميعا الضباط النوبتجي ، وحين رأيته جالسا إلى مكتبة كالحكمدار وعلى يمينه فوهات أكثر من خمسين بندقية مغمدة في فضاء الحجرة . وخلفه اللوحة الخشبية المثبتة في الجدارن والمثقلة بألوان وأشكال من السلاسل والقيود والدورع والبلط والخوذات ، وعلى يساره الخزانة الحديدية القديمة .. حين رأيته هكذا تخيلت أن لا حدود لرهبته وفوته ، وأنه يستطيع ببساطة أن يفضم دراعي أو يضع أصبعه في عيني ، مع أني كنت متأكدا أن لا شأن لي به ولا شأن له بي ...

ووجدتني أترك كل ما في نفسي وكل ما يشغلني وأنضم إلى جيش العيون المنصبة عليه من الناس المزدحمين أمامه ، والذين لا يفصله عنهم إلا سور خشبي منخفض ...

وبدا لي أول الأمر وكأنه ليس بكائن حي ... وإنما جسده فقد صنع من طلاء الجدران الأسود . ورأسه خوذة من الخوذات المعلقة وراءه . وعيناه فتحات بنادق ولسانه لا بد كرياج ...

ولكني حين هدأت قليلا واعتدت على المكان ، وتأملت كيف وضع " الكاب " فوق رأسه في وقار مخيف وزرر معطفه الضابطي - على غير العادة - إلى آخر زرار فيه ، وشد جلد وجهه في تزمت صارم فاختفى كل ما فيه من تجاعيد وأصبح أملس كجدل الطبلة المشدود ، وأضفى على نظرات عينيه بريقا تحس معه أنه لا ينظر بهما إلى الناس بقد ما ينقر ويلسع وحمل صوته ما لا يطيق وهو يشخط ويهدر بكلمات غير مفهومة كأصوات الرصاص .

حين تأملت كل هذا بدا لي حينئذ كأحد الجنرالات الطليان الأسرى الذين كنا نراهم أثناء الحرب ... وحدث أن جاء شاويش أو بيتشاويش لا أذكر ووقف أمامه ونادى عليه :

- يا فرحات ...

عجيب كيف ينادي بلا تكليف هكذا ، ولكن عجبي زال حين قال مرة أخرى .

- يا فرحات ... ياسي فرحات ...

ولم يرد الضباط النوبتجي إلا بعد أن قال له الرجل ... يا حضرة الصول ....

وكنت قد اقتربت حتى استندت مع غيري المستندين على السور الخشبي وسمعت لهجته التي فيها آثار باهتة من ريف الصعيد ونم صوته العالي عن الفضاء الواسع الذي ترعرع فيه ، وعن مسلتزمات الوظيفة من شخط ونظر وقد عملت عملها طوال تلك السنين فأتلفت صوته وأضافت إليه حشرجة كالتي تلحق براديو القهوة البلدي من كثرة رفع صوته . وذهب الجنرال من خاطري تماما ووضحت أمام عيني ملامحه التي كان يلفها ضباب الرهبة والسلطة ، ورأيتها صعيدية خالصة بأنفه الكبير كأنف رمسيس وجبهته الحادة العالية كجبهة منقرع ، وشيخوخته التي تنم عن تاريخ حافل في خدمة البوليس إذ لا بد قضى أجيالا حتى يصل إلى رتبة الصول ، وقد دخل الخدمة . " نقرأ " ككل الأنفار ، ورأيت جسده العجوز على حقيقته مستقيما في أجزاء منبعجا في بعضها الآخر ، وقد فرضت عليه البدلة العسكرية والحذاء الثقيل و " القايش " ... فرضت على جسده شكلها فرضا كما يفرض قالب المكوى على الطربوش شكله وأبعاده . وكان من الواضح أنه يحب هذا المركز حين تسند إليه مهمة الضابط النوبتجي ، ويحب أن يعامله الناس كضابط بحق وحقيق وهو الذي - بلا شك - قد قضى ثلاثة أرباع عمره يحلم بهذا وينتظر اليوم الذي يحمل فيه كتفه " النجمة " .. وكان باديا أن كتفه لن تحمل شيئا من هذا القبيل ، فهو ,إن كان يقوم أحيانا بدور الضابط النوبتجي إلا أن الإحالة إلى المعاش كانت تبدو وشيكة ، ونجمة الفجر أقرب إليه من نجمة الملازم الثاني ... وحين تركته وأدرت بصري في الحجرة ورأيت المكاتب الخاوية التي تركها أصحابها ، ودولاب الدوسيهات ، والمروحة القديمة الموضعة فوق الخزانة والتي كان يبدو أنها لم تستعمل منذ عشر سنين على الأقل ، وقد صنع التراب من نفسه عناكب فوقها ، والمصباح الكهربائي الذي له " برنيطه " من الصاج ، والذي يتدلى من السقف حتى يوازي رأس فرحات المائل على ما أمامه من أوراق ، والناس المزدحمين حول الحاجز الخشبي والذين يكونون خليطا - إن تنافر في أشياء - فإنه يتفق في نظرات القلق والحزن الغاضب والوجوه المنقبضة الجامدة . كان معظمهم متهمين عائدين من تحقيق النيابة وتضمهم سلسلة حديدية طويلة ، تبينت بعد حين أنهم لا يقيمون وزنا للسلاحليط أو السلسلة أو الصول فرحات نفسه .. فشخطته تقابل بزمجرة وأحيانا برد لا يقل عنها قسوة ، حتى انفجر أحدهم مرة لأن فيشه وتشبيهه لم يكن بعد قد جاء من تحقيق الشخصية ، وكان عليه لهذا أن يمكث في الحجز بلا إفراج حتى يجئ انفجر ولعن الدنيا والحظ والفقر والذين كانوا السبب . ولولا الملامة للعن الضابط النوبتجي هو الآخر . ولمحت الضابط الذي في فرحات يعاني الحرج الشديد ، وهو يسمعهم يدرون ، ولكثرتهم وشراستهم وضربهم الدنيا صرمة لا يستطيع - كالضباط الحقيقيين في نظرة - إخماد ضجتهم . ولما انتهى منهم ومضوا وعسكري في أول صفهم وعسكري في آخره ، والسلسلة ترن وتصلصل وهم لا يزالون يسبون ويلعنون ، تنهد فرحات تنهد الذي وضع أصبعه في الشق .

حين تركته وأدرت بصري لكل هذا وعدت إليه وجدت حينئذ يبدو عجوزا جدا ... عجوزا إلى الدرجة التي تحس معها أنه عهدة من عهد الحكومة عثرت

عليه ذات يوم أثناء " كبسة " على بلدنه فصادرته وختمته بالطربوش الأحمر والبدلة الميري . وظل في مخازنها حرزا من الأحراز يبلى ويصبح كهنة ولا تبلى ما عليه من أختام .

وقال وهو يجوس بعينيه خلال الموجودين :

- أف ... أقسم بالله الأشغال الشاقة أرحم من دي شغله .

وتوقفت عيناه على وفيها دعوة واضحة . وكنت أنا الآخر لي ساعات وأنا صامت فوجدت نفسي أقول :

- ايه ... الشغل كثير وإلا ايه ؟

وكمن كان ينتظر الفرج من زمن رأيته ينفجر :

- يو هوه يا أستاذ ... هو ده شغل ؟ دا سرك ... دا موريستان ... الناس اجننت ... يعملوا ايه ؟ .. حيخس عليهم حاجة ؟ كله على دماغنا والنبي أنا أشتغل في الحديد ميت سنة ولا أقعد هنا ساعة .. والأكاده أن كله كلام فارغ .. كله كدب ... تبالى وحياتك .

اللي معور نفسه ... واللي ضاع منه شاكوش .. واللي كان نايم قال وراحت طاقيته .. ونروح بعيد ليه ؟

مش دي واقفة من الصبح ؟ مالك يا بت ؟ أبقي مش الصول فرحات إن ما قالت أنهم ضربوها وأخذ سيغنها ... مالك يا بت ؟ فيه ايه ؟

وكانت " البت " امرأة واقفة ضمن الواقفين ترتدي ثوبا كان أسود ثم أحاله ساحر الحاجة إلى رمادي . وتتعصب بمنديل كالح لا يخفي إلا القليل من شعرها البني الأكرت القصير وقد تلوث نهاياته وتنافرت . وكان وجهها غامقا أسمر . وفي عينيها كحل أفسدته الدموع ...

وردت تقول في ذلة :

- أم سكينة والبت عيوشة وبنت أختها نبوية والود ...

- مالهم ؟ مالهم ؟

- اتلموا على وضربوني في بطني .. آه يانا ...

وفي ومضة خاطفة كانت في حالة بكاء تام . وأضافت والدموع والشهقات تختلط في حلقها ...

- وأم سكينة .. عضتني .. هنا .. في كتفي ... وزغدتني في بطني ... والبت عيوشة قلعتني الحلق .

وقهقه الصول وخشخش صوته وقال :

شايف يا أستاذ شايف ؟ مش قلتلك ؟

كله وحياتك كدب ... نصب واحتيال .. بقي بذمتك دي حيلتها البلى الأزرق ؟ حلق أيه يابت اللي خدوه ؟ حلق حوش ؟

- حلق ذهب يا بيه وغويشتين ..

والتفت الصول إلى وقال بلهجة ذكرتني بنجيب الريحاني :

- تفتكر والنبي مين المجني عليه في الحكاية ده ؟

- مين ؟ ...

- أنا ! ...

- أنا !...

- أنا يا فندم .. ما هو الكدب العلني ده يبقي سرقه بالإكراه .. ومحضرها المصيبة من صورتين . والمصيبة الكبرى أن أنا اللي حاكتب الصورتين ... واستدار إلى المرأة ولسعها بنظرة كاوية فيها أثار من لمعة الضحك وأمسك القلم وفتح دفتر المحاضر الكبير وكأنه يفتح بوابة المتولي وقال :

- هه .. الهي وأنت جاهي ربنا يا خدكم ويخدني معاكم خليني استريح ..

ولما انتهى من كتابة مقدمة المحضر سألها :

- اسمك ايه يا بت ؟

ولم ينتظر أن تجيب أو يحفل بإجابتها . وواجهني مستأنفا كلامه وأنا أحس أنه يحدث نفسه أكثر مما يحدثني :

- وأنا والنبي المجني عليه .. ومش في الواقعة دي بس ... في ألف واقعة .. في دشليون .. يمكن ما تصدقش .. اتفضل أدي دفتر الأحوال .. اصطبحنا بهتك عرض في الطريق العام و 592 اللي بعدها نشل حافظة نقود قال فيا قال 147 جنيه و 83 صاغ وورقتين ، ويمكن لجل الحلفان خمسة تعريفة كمان . واللي بعدها قال سرقة نحاس .. قابلين في البلاغ أن النحاس وزنه 50 رطل ومتهمين الخدامة ... حتة بت قد كده متطلعتشي كلها على بعضها عشرة أرطال .. وغيره وغيره .. من الصبح وأنا وأنا أيدي ما وقفت من الكتابة .. وكله ملاليم وكلام فارغ وكدب ... يا شيخ فضل .

والتفت إلى المرأة يسألها :

- ما تنطقي يا بت .. اسمك ايه ؟

وقبل أن تجيب ضحك وقال كمن تذكر نكته :

- واللا الجثة اللي لقيوها في الخرابة مالهاش صاحب ... قصدى صاحبها مجهول ... ليوا السر الإلهي طلع منه كده لوحده ومن غير ما حد يكلمه ... قوللي ؟ ... اشمعنى نفي الخرابة دي يموت فيها ؟ ... يعني ضاقت الدنيا في وشة ... ماكنتشي يتمشي لحد شبرا مثلا ؟ الله يرحمه مات ... وأتعذب أنا ليه ؟

نهايته .. كتب عليكم الهم والغم كما كتب على الذين من قبلكم .. وأدار رأسه إلى المرأة :

- يا وليه اسمك ايه ؟ ...

- خديجة ...

- خديجة ايه . انطقي ...

- خديجة محمد ...

- يا وليه تحركي ... محمد ايه ...

- وقبل أن تجيب أرقد قلمه ... وأسند كوعيه إلى الصفحة ووضع رأسه بين يديه وقال من تحت حافة " الكاب " . والمصباح الذي أمامه يهتز كالبندول فيتحرك ظل رأسه على الحائط الذي خلفه .. يتحرك رائحا غاديا كقرد كبير :

- أنا المجني عليه والنبي .. هي حكاية محضر ؟ هو أنا عجزت من شوية ؟ ثلاثين سنة خدمة وحياتك ويوميا بهذا الشكل ... جبتها من المنزلة لعنيبة ومن العريش لمرسي مطروح .. وشفت اللي أدبح عشان عود قصب . واللي حرق جرن علشان كوز دره .. الناس أجننت .. هو الواحد شاب من شوية ؟ ...

وأنهي كلامه فجأة وانقض على يد كانت تمتد إلى المكتب وخبط عليها بعنف وعصبية قائلا :

- قلتلك ميت مرة شوفلك نشافة تانية ... هو ما فيش في القسم كله إلا دي ؟ ...

أعوذ بالله احنا في سوق النور ؟

قال هذا وانظر حتى اختفى صاحب اليد مهيض الجناح والتفت إلى بوجهه الجاد المشدود الملامح :

- والواحد يبقي حارق دمه ... وأولاد الـ " ..." ولا هاممهم وعمالين يهزروا .

وكان يشير بعينيه وهو يتكلم إلى حجرة التليفون حيث اجتمع بعض العساكر حول زميل لهم بدين مترهل وله كرش كبير ، وكان بعضهم بكتفه والآخرون يحاولون جذب بنطلونه وإنزاله ، والرجل يلهث ويناضل بكل ما يسمح به شحمه من قوة ... ويركن عيني لمحت الصول فرحات يبتسم ويضحك ويقهقه ، ثم ينسى كل شيء ويمد رقبته يتابع المعركة . وظهر عليه أسف حقيقي حين انتهت المعركة بانتصار صاحب الكرش وتخلصه ممن حوله . ورفع حينئذ صوته قائلا بلهجة صعيدية خالصة :

- آه يا نسوان ... ما قادرنشي على أبو كرش كليته " شغت " ؟ !

وما كاد يتم كلامه حتى فتح باب جانبي وظهر المعاون في الفناء وأصبح القسم فجأة أصم وأبكم وهبطت الصرامة تجمد كل شيء وقال الصول للمرأة في حزم :

بتقولي اسمك خديجة محمد ايه ؟ ....

وتركته يحقق وشغلتني عنه داورية الليل وقد بدأت تتجمع في الفناء وحين تجمعت بدا منظرها عجيبا ... صفان من الظلام التام ليس فيه إلا بريق الزراير النحاسية الصفراء وفوق الظلام نار من الطرابيش الحمراء الممدودة تسند البنادق بلا حماس ... وتسمع في الظلام همهمات وضحكات تموت سريعا كالشهب . وقد يشذ عن الأيدي الممدودة كوع ويلكز جاره .

وفتش عليها المعاون وأنفه - كالديك الرومي - في السماء وعينه على زرار لا يبرق أو حذاء نفض عنه بعض سواده . وراح وجاء ثم دخل حجرته . والظاهر أنه تعشى فقد خرج وهو ما زال يمضغ وعلى شفتيه لمعة وفتش مرة أخرى وهو يجفف يديه بعد أن اغتسل .

واندكت الأرض بالأحذية وكعوب البنادق مرات وعواقب بعض وكدر آخرون ....

ثم ...جنبان سلاح و .. كتفان سلاح .. و ...داورية ... معتادان مارش ...

وخرجت داورية الليل تئز وتتمايل وفي آخرها العسكري البدين يحاول عبثا أن يوفق بين جسده غير المنتظم وخطواته المنتظمة ...

وأصبح فناء القسم بعد خروجها خاويا كعربة قطار الليل حين يقترب من آخر محطة . وعدت إلى الصول فرحات فوجدته لا يزال يحقق مع المرأة ويسألها :

- اتلموا عليكي فين؟ ...

- جوه السيما ...

- وايه اللي دخلك السيما يابت ؟ ....

- محمود ....

- محمود مين ؟ ...

- محمود !! ...

وهنا بدت على الصول فرحات صعيديته وسألها وجبهته معقودة دون أن يكتب في المحضر :

- محمود دا ايه يابت ؟ ...

- ابن خالتي ....

ووضع القلم من يده وهو يقول :

- آخ يا بلد كابوريا يا ولاد الـ ....

وأخرج من جيبه علبة صفيح قديمة من التي تباع فيها السجاير الغالية ولمحت فيها سيجارتين سادة وواحدة بفله وعلبة كبريت وأشعل السادة وغمغم بأشياء مبهمة تمس الآباء والأجداد وانجاب الأبهام حين قال لنفسه .

- سيما ... هه ... قال سيما قال ؟ ... وتدخلوا السما تنيلوا ايه ؟ ... هو انتو بتوع سيما ؟ ..

وانفلت من حديثه لنفسه يسأل المرأة وقد ثنى

ظهره إلى الوراء ووضع ساقا فوق ساق

- وتدخلي بعينه ناحيتي ولعله كان يود أن يشهدني على إجابتها فقلت له :

ايه هو المحضر لسه ؟ ...

- آه ... لسه ... هو هيخلص ؟ ... حاضر .. أنا عارف إني عطلتك .. دقيقة واحدة وأفضالك ..

والظاهر أنه حسبني شاكيا أو مبلغا .. ربما هذا .. وربما وجدني أصلح مستمعا يفضفض لي بما عنده في ليلة من لياليه الطويلة فآثر أن يؤجل انصرافي .. وكتب شيئا وهو يبتسم ويقول لي :

- وادي انت بتتسلى ... مش بذمتك أحسن ما لسيما ؟ ..

وتنهد وسأل المرأة ...

- هبه .. وطليقك سلط عليكي ليه ؟ تروحي السيما تنيلوا ايه ؟ ... ما تتكلمي يابت طليقك سلط عليكي ليه ؟ ..

- أصلي واخده عليه حكم نفقه ...

وكتب كلمة أو اثنين والتفت إلى بنظرة فيها استنكار :

- روايات ؟ سيما ؟ روايات ايه اللي بيعملوها دي ؟ يبلوها ويشربوا ميتها أحسن !

- ليه مبتعجبكش ؟ ...

- تعجبني ؟ تعجبني ازاي ؟ الفيلم لازم يملأ مخ الواحد ... إنما ايه المسخرة والرقص اللي لا تجيب ولا تودى ...

وأمسك القلم ووضع سنه على الدفتر وبدلا من أن يكتب قال لي بفتور :

- أنا مثلا لما قرفت من الروايات عملت مرة فيلم ...

ولم تجعلني قلة حماسته أصغي إليه تماما . ولكن كلامه وقع في أذني غريبا فقلت :

- علمت ايه ؟ ..

- علمت فيلم .. رواية .

- عملت ازاي ؟ مثلت فيه وإلا ايه ؟ !

لا .. فيلم ألفته مخصوص عشان السينمات .. وكدت استخف بالأمر كله وأضحك فقد اعتقد أنه لا بد شاهد حادثة أو جناية من جنايات التي تحفل بها حياته ويريد بسلامة نيته أن يجعلها فيلما . فقلت وأنا أكتم ضحكتي :

- فيلم ايه بقي ؟

فقال ببساطة ودون أن يتنحنح أو يعتدل أو يضع القلم ، أو حتى يلقي بالاً إلى المرأة والناس الذين عند الحاجز :

- كان واحد هندي جه يزور مصر .. راجل غني قوي ... من الجماعة اللي عندهم فلوس قد الفقر اللي عندنا ... الراجل جه .... وقعد في لوكاندة فخمة قوي زي ما تقول لوكاندة مينا هاوس واللا شبت ... وكان فيه جدع إلبان زي حالاتنا كده ...

وانبهت حواسي كلها فجأة ...

وملت على السور كثيرا حتى لا تفوتني كلمة من كلماته ..

وأقبلت امرأة تستغيث في شبه صراخ ، وكانت بيضاء حلوة وحواجبها مخططة بعناية فائقة ... وزمجر فيها الصول فرحات :

- مالك يا وليه ؟ .. مالك ؟ القيامة قامت ؟ ...

- الحق يا خويا .. الحق .. الواد موت أمه م الضرب !

- واد مين يا وليه ؟

- الواد ابن جارتنا ..

- واحنا مالنا ؟

- يوه مش أنت يا خويا النبي حارسك البوليس ؟

- وهو يصح أن البوليس يدخل بين الواد وأمه ؟

- يه ... ولما يموتها الدلعدي يا خويا ؟ !

- تبقي تفرج .. نبقي في الحالة دي نروح نمسكه ...

ويئست منه المرأة فانتحت ركنا قصيا بالعسكري الذي كان يحرسني وراحت تهمس له بالقصة وتهمس له أكثر بحواجبها . ثم غادرت القسم والعسكري ساهم وكأنما أعجبته همسات الحواجب .

وعاد إلى الصول فرحات وقال :

- أما مصايب صحيح . واد قال ! ... بس ... الجدع الإلبان ده كان خالى شغل .. يعني زي ما بيقولوا موظف في كوبانية الشمس .. يعبي الشمس طول النهار في قزايز ويسرح بيها في الليل ... هيء هيء .. آمال ! ... آه .. فتك في الكلام .. الراجل الهندي ده مرة طالع م اللوكاندة فوقع منه فص ألماظ يسوى النهاردة بالميت سبعين تمانين ألف جنيه شافه الجدع المصري قام واخدة ومديه للغني الهندي ..

- فص ايه يا راجل يا بكاش ؟

والتفتنا سويا ، وكان الذي قال هذا شاويش طويل معه دوسيه ما لبث أن سأل فرحات :

- عملت ايه في المتوفي المجهول الاسم ؟

- وهب فيه فرحات :

- حاعمل ايه يعني ؟ أمشي في الشارع أقول ياللي ضايع له ميت ؟ ...

- أنا رحت المستشفى وشفته ...

- تشرفنا ...

- شوف يا سيدي عنيه عسيلية وشعره شايب وعلى صدغه الأيمن ..

- وبتقول لي الكلام ده ليه ؟ ... هو أنا بعتك تخطبه ؟ ... روح شوف شغلك أحسن .. عسلية ايه يابو طويلة يا هاتف ؟

ثم التفت إلى قائلا : الراجل الهندي جه يدي للمصري فلوس إلا رأسه وألف سيف ما يأخد ولا مليم ، يهديك يرضيك ما فيش فايدة فكبر قوي في عين الهندي واكيف منه تمام .. راحت الأيام وجت الأيام وروح الغني بلده وهو محتار يجازي المصري ده إزاي ، فلقي أن أحسن طريقة أنه يشتري باسمه ورقة لوترية .. تعرف البريمو كانت تكسب كام ؟ وإلا استنى أما نشرب شاي ...

وصفق كثيرا حتى جاء صبي البوفيه ، وطلب الشاي واختلف معه طويلا على الطلبات التي تناولها في يومه .. الصبي يقول ثلاثة وهو يقول اثنين . ولم ينته الخلاف حتى باحضار الشاي .

وسمعنا باب المعان وهو يفتح والمعاون يخرج ويقف في الفناء ويتمطى ، وعاد فرحات يسأل المرأة :

- هيه ايه الحكاية ؟

- لما خدت عليه الحكم .. لف على عايزني أتنازل .. مارضيتش فبعتلي أمه وأخته وبنت خا ...

- هوس ... كفاية لحد هنا ... واتلموا عليكي في السيما ؟

- ايوه وفضلوا يضربو فيه لما كانوا حيسقطوني ...

- ايه ؟

- أصل أنا حامل في ست أشهر ...

وترك الصول فرحات المحضر وقد استولى عليه حب الاستطلاع وأعجبته القصة وسألها :

- يخرب بيتك ... حامل من مين يابت ؟

- منه يا بيه ... من طليقي ...

- امتى ؟

- قبل ما يطلقني ...

- وجوزك ده طلقك ليه وأنت حامل ؟

- عشان وقع على اليمين ...

- يمين ايه ؟ وطلقك امتى ؟

- ليلة أول رمضان اللى فات ... كسرت قلة أمه وأنا قايمة أنحسر فحلف طلاق بالتلاثة ليكسر قصادها دراعي !...

- وكسر دراعك ؟ ...

- لا ... طلقني ...

- أنا قلبي كان حاسس والنبي ... بقي قلة أمه هي السبب ؟

بقي عشان قلة أمه اكسرت في رمضان اللي فات ، يتحرق دمي النهادره طول اليوم ..قلة تمنها ساغ يا عالم أروح أنا ضحيتها ؟

- اسمعي يا بت ! هل لديك أقول أخرى ؟ عايزة تقولي حاجة ثانية ؟

- أيوه يابيه ... عيوشة هي اللي مقلعاني الحلق .. وأمها هي ...

- أف .. يا بت أقوال أخرى غير اللي قلتيها ؟

- هو أنا لسه قلت حاجة ...

ولم أتمالك نفسي فضحكت . وتحول غضب الصول هو الآخر إلى قهقهة عالية وانتهى من المحضر . وتنهد وتثاءب وهز رأسه .

وخرجت المرأة ومعها خطاب الكشف عليها ولدهشتي خرج معها كل الناس الواقفين .

- هيه ... كانت البريمو تكسب كام ؟ ...

- انت لسه فاكر ؟ ... تكسب مليون جنيه ... ما هي كانت غالية كمان !

واشترى ميت ورقة عشان يضمن المكسب ، وجه السحب واحدة منهم كسبت البريمو ... مليون من غير الضريبة . وفكرشي الراجل أنه يطمع عليها ولا حد دري ؟ أبدا .. عمل ايه ؟ راح شاري غليون بضاعة كبير قوي ... ووسقه حرير هندي من اللي على أصله ... واشي عاج ... واشتي ريش ... نعام ... واشي جوخ وكشمير ومايوليا محترمة ... وراح باعت المركب بالطقم بتاعها باللي عليها على اسكندرية ، وراح باعت عقد البيع والبوليصة خالصة كل حاجة لصاحبنا على

مصر .. يعني ما عليه إلا يستلم .

وهب ... وصلت المركب اسكندرية .. حاجة باسم الله ماشاء الله .. وبتاعه مين يا جماعة ؟ ... بتاعت فلان ... بالاختصار الراجل باع البضاعة اللي عليها واشترى بيها مركب تانية ، وخلى مركب رايحة بلاده بره شاحنة ومركب جاية شاحنة ، وإذا كان حتة الطرد قد كده الواحد بيخلص عليه في السكة الحديد بكذا ... شوف بقي مركب زي دي تكسب قد ايه في السفرية ...

واندفع في هذه اللحظة إلى الداخل رجل قصير نحيل يرتدي جلبابا كله زيت وبقع ورأسه عار .. ويرتدي قبقابأ له صوت مزعج ، اندفع كالسهم داخلا وهو يقول وعلى وجهه ألم عظيم :

- يا فندي ... يا فندي ...

وضايق دخوله الصول فرحات ، وكأن أحدهم قد صوب إلى أرنبه أنفه لكمة فاستدار إلى الرجل وأرعد فيه :

- مالك ؟

- ماليش يا فندي ... واد ابن حرام حدف طوبة كسرت لوح القزاز بتاع بترينة الدكان ... لوح القزاز اللي معرفشي أجيبه النهادره .. بنور بلجيكي من الأصلي اللي قبل الحرب .. تلاتة متر في تلاتة متر في تلاتة ... روح الله يخرب بيتك يا بعيد زي ما خربت بيتي ...

دكان ايه ؟ ...

- بقالة المودة والإخاء في الشارع العمومي ..

- عارفها .. إلى عالناصية قدام الجاراج ؟ ...

أيوه .. إلهي يعمر بيتك .. ربنا مايوريك ...

البترينة نهين اللي أكسرت .. اللي عالشارع وإلا التانية اللي ع الحارة

- الكبيرة يا فندم اللي ع الحارة ...

فقال الصول وهو ينفض يده من الأمر

ويستعد لمتابعة الرواية :

- تبقي مش تبعنا .. تبع بولاق ...

- إزاي يابيه والبيت تبعكو...

- الناحية اللي ع الحارة تبع بولاق ...

- يا فندي أعمل معروف ...

- قلتلك مش تبعنا .. روح قسم بولاق ...

- ياف ...

- روح .. جك ريح خماسي ..

واندفع الرجل يقبقب خارجا كالسهم وانتظر فرحات حتى اختفت دقات القبقاب ثم رجع محاولا أن يستعيد الجو الذي عكره القال .. وثنى ظهره إلى الوراء كثيرا ومال الكرسي لاتثنائه .. وخلع الكاب وأمسك به في يده يدبره أحيانا وأحيانا يهف به وقال :

- الراجل كان طهقان من مراكب الخواجات ، ففي ظرف سنة بنا اداله واتسع قوي .. وحبه يحبه راح شاريلك مراكب اسكندرية كلها ... وما أصبحشي فيه مركب انجليزي ...

ولاحظت أن ملامح الصول فرحات قد تاخت وانزاح عنها كل ما فيها من صرامة واشمئزاز واتخذت طابعا عجوزا راضيا . وعيناه هامتا في مساء الحجرة كفراشتين حالمتين ، وصوته خلا من كل تشويش وحفل بنشوة طارئة حلوة كانت تخرج الكلمات من فمه لذيذة وكأنه محلاوة بعس النحل ، فلا تملك إلا أن تحبها وتحب رعشتها الممتلئة بالرنين وهي تنساب في تؤده من خلال السكون الحزين الذي خيم حتى أصبح القسم كسرادق المأتم في آخر الليل ، حين لا تسمع فيه إلا فحيح الكلوبات .. وهمسات المعزين :

- وأصبح للراجل مراكب لا تحصى ولا تعد ... أصغر ما فيهم تيجي قد القسم دهه عشرة خمساتشر مرة . يسكتشي على كده ؟ أبدا ... الفلوس مالحستشي عقله فراح شاري بالإيراد بتاع المراكب مصنع نسيج كبير قوي ... وشغل النسيج نص مليون عامل ... بعد شهر واحد مصنع النسيج عمل مصنع قزاز .. والقزاز عمل مطاحن .. ومضارب رز ... وبعد كله اشي محالج واشي سكر .. واشي جاز .. واشي ورق .. واشي مكن ... واشي صلب ... المهم إنه جه يوم عليه امتلك فيه مصانع مصر كلها ...

وما عجبوش الحال الملخبط ده فراح لأئم المصانع وبناها على حتة تطلع ألف فدان لا... ألف ايه ؟ ... هي الألف تنفع .. ييجي عشرة آلاف فدان .. خمستلاف منهم مصانع والخمستلاف التانية سكن فيها العمال .. مش سكن كلشنكان ... لا ... سكن .. بيت .. بجنينة ببلكونة وحاوي مما جميعه حتى فيه عشش الفراخ والأرانب ... ومش بس كده كان ما يخدش من عرق العامل حاجة ... اشتغل بخمسة يأخد خمسة .. بعشرة بعشرة .. ما هو لا مؤاخذة في دي الكلمة العامل لما يأخد إلى يقضيه يشتغل ويتفرعن في الشغل ... واحنا شعب وارث الفرعنة أبا عن جد ... فبدل ما يطلع متر يطلع مترين ... وبدل جزمة جوز جزم ... مهو كده هات وخد ... اديني حقي وخد حقك .. أنت راخر العالم أصبح حاجة تانية ... هدوم نضيفة أربعة وعشرين قراط . عفريته مكوبة يروح بيها الشغل وبيجي بعد الضهر يلبس بدلة الأيافة والطربوش النسر والجزمة الأجلسية . وقهاوي ايه وجناين ايه وكازينات ايه وأبهة ايه ... والناس بقوا حلوين وفرحانين ومبسطوطين ... ولا قرف ولا بالاوي .. طول النهار ضحك وفرفشة والليل يروحوا السيمات .. والسيمات دي مهمة قوي ... كل شارع سيما وبالأمر لازم كل كبير وصغير يخشى ... والأفلام . أفلام تمام ... وبوليس مفيش بوليس ... العسكري بدل ما يتطلع 8 ساعات في الدوراية له كش قزاز في قزازة في وسط الشارع ... وكتب صغير واللي عازي حاجة بجيله ...

استنى بقي لحسن الواغش بعيد عنك جه .. أما نشوف إيراد النهاردة حيبقي كام ... وحقيقة كنت أسمع الضجة القليلة التي أنا المنساق هذه المرة وراء ما يقوله فرحات وما ذهلت له تماما ...

والتفت ناحية الباب فوجدته قد ازدحم بأربعة مخبرين أو خمسة طوال عراض أيضا ويرتدون اللبد ، وقد أمسك كل منهم في كل يد من يديه قبضة أطفال مشردين ، ومتسولين عجائز وكل منهم يجر ما في يديه جرا وقد ربط جلباب الطفل في جلباب الآخر ... وكان المخبرون يبدون كالعمالقة الطوال ، والأطفال يبدون بجوارهم قصار وصغارا ، كالكتاكيت المذعورة ، وعبروا الفناء ووصل ركبهم إلى السور الخشبي ، وكذلك وصلت ضجتهم فأنهي الصول فرحات كل الأصوات بقوله :

- بس .. اخرس أنت وهوه ... وقفهم طابور يابو طه قدامي .. بطل كلام عمى في عينك ...

وذهب باقي المخبرين واصطف الطابور في سكون .. ورجع الصول فرحات إلى الوراء كثيرا وهو لا يزال في نشوته فقلت :

- وبعدين :

- ولا قبلين ... حالا مكن من المانيا جه ... والمهندسين والعمال اشتغلت ... وارجو زراعينلك الصحراء كلها ...شوف بقي الرملة دي كلها لما تزرع ؟ .. الاكس يمشي فيها سبع تيام ما يحصلش آخرها .. وأهم من ده وده إن ما فيش قولة حاجة اسمها توابيت محاريث ... سواقي .. كلام فارغ ده ... كله مكن ... الري يمكن والدراس يمكن والسباه يمكن ...

وحتى كان فيه مكن يجمع القطن ويحش البرسيم والفلاح اللي عليه العمل .. مفيش قولة جلايبة طاقية ... بشت ... أبصر ايه معرف ايه ... أبدا كله يدل ... بنطلونات كاكي لحد الركبة ويرانيط بيضة نظيفة وجزم بنعل دوبل ما يدوبش أبدا . والفلاحين يسرحوا طابور يشتغلوا لغاية الضهر بس وبعدين يرجعوا طابور .. والنسوان كذلك ... بس دول في غيط ودول في غيط .. والبيوت كلها حجر ... ولمض جاز تبطل خالص كله كهرباء والسحب على صاحب الأرض ... وكل صف بيوت له ميز باكلوا فيه ويرجعوا لبيوتهم يقيلوا ، وبعدين العصر طابور على المدرسة يقروا ويكتبوا ويعرفوا اللي لهم من اللي عليهم . بس يا سيدي ما طولشي عليك الراحل من كتر الفلوس عنده زهد فيها كانت أرخص من التراب ... وحاكم الفلوس لما تبقي بالشكل ده الواحد لازم يقرف منها . اللي ياكل كل يوم بيقرف منه ... في يوم من الأيام أعلن في الراديون .. أيوه .. مهو نست أقولك إنه عمل محطة إذاعة وعمل ليها في كل بيت من البيوت وصلة .. أعلن في المكرفون أنه متنازل عن جميع .

وكان الصول فرحات ينظر إلى ويقول كلماته الأخيرة وكأنه يفكر في مشكلة أخرى ...

وقال للعسكري فجأة :

- أنت واقف بتعمل ايه يا جدع ؟ ! أنت ما وراكشي شغل ؟ ...

وقال العسكري في صوت متقطع :

- أصل ... إلا .. الأفندي .. أنا مستلمه ...

- مستلمه ؟ ليه ؟

حرس عليه ...

واستدار إلى الصول فرحات وألقى على نظرة ما رأيتها منه قبل الآن واستمر يحدجني طويلا . ولا ريب أنه لم يجدني أصلح كي أكون قائلا أو سارقا أو خاطف طفل ولست أدري ما كان يعنيه حين قال في بطء وشك كثير :

- آه الأفندي ده هو أنت منهم ؟

فقلت وأنا أبتسم :

- من مين ؟ .. المهم ... الراجل أعلن ايه في الإذاعة ؟ ...

واستمر ينظر إلى ثم قال بصوت تائه :

- آه ... والله مانا فاكر .. يا شيخ فضك ... أهو كلام .. أنت بتصدق ؟

ثم شد جلد وجهه حتى عاد كالطبلة الصارمة وجذب " الكاب " حتى بلغ موضعه التقليدي من جبهته تماما . وهوى على " المتسول " العجوز الواقف في أول الصف بنظرة صاعقة من عينيه وانطلقت جعجته المعهودة :

- ما تنطق يا بجم ... اسمك ايه ؟ !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى