محمد بنميلود - إجلس لتكتب.. (قصة قصيرة)

مشاهدة المرفق 750
ليس عندي ما أكتبه، رغم ذلك يجب أن أكتب، إن لم أكتب سأمرض، الشّبحة الّتي تسكنني تأمرني بالكتابة وإلاّ تنغّص عليّ حياتي، وتجفّف بي البيت.
حين أمتنع عن الكتابة لا أضمن حتّى أن أعبر شارعا فارغا دون أن تدهسني شاحنة. ذات مرّة امتنعت عن الكتابة وصُمْتُ عنها، فدهسني الأوتُوبِيسْ، كان مليئا بالرّكّاب وليس فارغا، والرّكاب كلّهم كانوا ثِخَاناً وليس نحيفين مثلي لا يحرّكون إبرة الميزان، بل يكسرونها. سطَّحَنِي الأوتوبيس مع الشّارع كعجينة الكعك، متُّ بشكل كامل! جاءت الشّبحة لتقول لي شامتة: والآن؟ هل ستكتب أم لا؟؟ أجبتها بسرعة: سأكتب.. سأكتب.. غرست كعب حذائها الحادّ في عيني، أدارته كمفكّ براغي وقالت: هذه المرّة سأسامحك لنرى هل تكذب أم لا، لكن، المرّة القادمة تدبّر أمرك لوحدك تحت عجلات الأوتوبيسات. اغتنمتُ الفرصة حين وضعَت كعب حذائها العالي في عيني، فنظرت بالعين الأخرى بين فخذيها البضّين لأرى بِّيكِينِيهَا المُشَبَّك. شعرَت بذلك فسحبت ساقها بسرعة، كفرس، وقالت لي بعد أن حرّكت يدها في الهواء كالعرّافة، قالبة عيونها، ومردّدة طلسما ما: قم أيّها المعتوه لتكتب لي قصصا مضحكة، إن لم تكن مضحكة سأرميها على وجهك، وآمرك بكتابة غيرها حتّى أضحك وأتسلّى.
لم أعد ميّتا بعد أن قرأت عليّ الطّلسم الغامض فنهضت لأنفض الغبار عن سروالي. كان قد تحلّق حولي عشرات من الفضوليّين، وركّاب الأوتوبيس كلّهم، والشّرطة، وسائق سيّارة إسعاف ذو شنب كثّ، وممرّضان نحيفان يبدو كأنّهما مريضان. حين رأوني أنهض من موتي كأنّي كنت فقط أمزح، فرّوا جميعا وأغلبهم جُنّ وتاه في الطّرقات ليضرب النّاس وزجاج المحلاّت بالحجارة الصّغيرة وحتّى الكبيرة إن وجدها.
قلت للشّبحة: هيّا نرجع إلى البيت لنكتب. أمسكتني من ذراعي مبتسمة كأنّها زوجتي، ذهبنا بخطى بطيئة متناغمة كأنّنا نتجوّل بسعادة في شهر العسل ونتسامر، وهي تقرقع كعب حذائها على الطّوار الطّويل. مررنا بجانب مقهى، رآني الجالسون على الكراسي كأنّي أحدّث نفسي أو أكلّم زوجة وهميّة وأمسكها من ذراعها العارية النّاعمة، فضحكوا وضربوا كفّا على كفّ، بعضهم سمعته يقول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.. لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.. لقد جنّ الرّجل!
في البيت، قبل أن أهيّئ قهوة لنفسي كي أعدّل بها مزاجي، كان عليّ أن أجلس أوّلا أمام مكتبي لأكتب لها شيئا حتّى ترضى عنّي، بينما خلعت هي ثيابها ودخلت إلى الحمّام لتأخذ دوشا باردا، وهي تغنّي أغنية أشباح وتسألني من داخل الدّوش هل صوتها جميل؟ أقول لها: نعم.. نعم.. جميل.. جميل جدا.. طبعا جميل.. فتقهقه قهقهات تتحرّك لها المصابيح في السّقف دون أن يحرّكها أحد، ويصطفق باب المطبخ لوحده، وتصعد السّتائر حتّى السّقف وتنزل دون أن تكون هناك عاصفة!
حتّى نادتني أن أحكّ لها ظهرها. امتثلت لأمرها صاغرا فقصدتُ الحمّام حافيا، لم أجدها هناك بل وجدت فقط صوتها يأخذ حمّاما! فحككت ظهر صوتها بالكيس، ممرّرا يدي فقط في الهواء كمن يمسح زجاجا شفّافا إلى درجة أنّه غير مرئيّ، قالت لي: بُسني في فمي. سعلتُ سعالا مصطنعا، قلت لها: وأين هو فمك لأبوسك فيه؟؟! أجابتني وكان صوتها يأتي مغمغما من بالوعة الحمّام: بسني من هنا.. من هنا.. ألا ترى؟؟ هل أنت أعمى؟! أجبتها بتأدّب: حاضر، لكن من هنا أين؟؟! قالت: من البالوعة!! بسني من البالوعة. قلت لها وأنا لازلت أحكّ ظهر الهواء باللّيف: دعيني أبوسك فقط في ظهرك، وبست الهواء لأشرح لها. قالت غاضبة: هل ستبوس البالوعة أم لا؟؟؟ قلت في نفسي: أمري لله، ورفعت صوتي قليلا لأقول لها: حاضر حاضر، قبل أن تغضب أكثر، فابتسمَت بصوت. انحنيت كمن كان واقفا في الصّلاة والآن سجد مباشرة دون أن يركع، وقبّلت البالوعة. سمعتها تقول: قبّلني أكثر فأنا أحبّك.. قبّلني أكثر فأنا أحبّك.. جلستُ كمن يقوم من السّجدة ليتحّي، وقلت لها بتفلسف ووجهي يقطر منه الماء عبر ذقني: في الحبّ الحقيقيّ.. قبلة واحدة.. بين العاشقِين.. تكفي.. وقد قبّلتك. قاطعتني بدلع حازم: بل في الحبّ الحقيقيّ لا يشبع العاشقان من القبل، هاتي قبلا أخرى ساخنة حتّى أقول لك كفى. فانحنيت على البالوعة أقبّلها قبلا طويلة في فمها وفي خدّها وأنفها، حتّى دفعتني فجأة بقدمها لأسقط على ظهري فوق الزّليج الأبيض الصّغير، وأتبلّل بالكامل كالجّفّاف، وقالت بغضب: عد لتكتب لي قصّة، فأنت لا تجيد التّقبيل.
هرولت إلى المكتب حافيا لأكتب والماء يقطر من شعري وكمّي على الورقة، لأكتب لها قصّة، وليس في دماغي قصّة لأكتبها.
الّذين يعرفونني كلّهم يقولون عنّي إنّي أحمق! لأنّهم لا يرون الشّبحة ولا يسمعون صوتها. حتّى الطّبيب قال بصرامة إنّه عليّ شرب الدّواء كلّ حين، بعد الفطور وبعد الغداء وبعد العشاء!
إن ذهبت لأشتري الدّواء وأشربه في مواعيده، فكأنّي أؤكّد لنفسي وأقيم الحجّة عليها أنّي حقّا أحمق!!
الآن لم يعد عندي أصدقاء، آخر مرة زارني فيها صديق كانت مشكلة كبيرة، لأنّ الشّبحة جاءت وجلست قبالتنا على الْفُوتُويْ، طلبت منّي أن أقدّمها له على أساس أنّها زوجتي. قدّمتها له، فضحك حتّى ظهرت لهاة حلقه، وقال: هل تمزح؟؟ قلت له: ماذا تقصد بأنّي أمزح؟؟ قال: وأين هي هذه السّيدة المصونة الّتي تقول عنها إنّها زوجتك؟؟ أجبته مغتاظا: هي أمامك يا أخي، أمامك، ألا ترى؟؟ ضع نظّاراتك لترى إذن. أجابني بقلق وقد جدّت ملامحه وهو يحرّك يديه أمام عينيه في اتّجاهين متعاكسين كماسحتي زجاج سيّارة: لا يوجد أحد فوق الفوتوي يا أخي، لا يوجد أحد، على الإطلاق، لا أحد، إنّه فارغ! أقسمت له أنّها جالسة على الفوتوي، وبالإمارة ترتدي قميص نوم أحمر، وتضع رجلا على رجل، ولون صباغةِ أظافرِ رجليها هو أيضا أحمر بلونِ القميصِ وأحمرِ الشّفاه! تحّرك في مكانه يمينا وشمالا قبل أن أكمل متقلقلا كقربة، ثمّ وقف، وقال بصوت متقطّع: أستأذنك يا صديقي لأذهب، لقد ت أ خّ ر ت. ذهب بخطى سريعة دون أن يلتفت، صفقت الباب خلفه بقوّة، وأنا أقول في نفسي: فليذهب إلى الجحيم، لا أريد أصدقاء من هذا النّوع في بيتي، بسببهم قد أضطّر فعلا إلى شرب ذلك الدّواء وليس لسبب آخر.
حين عدت إلى الدّاخل وجدت الشّبحة مهتاجة تمشي داخل الغرفة جيئة وذهابا كنمرة في قفص. قلت لها ما بك عزيزتي؟: صرخت في وجهي: ما بي؟؟ وتسأل؟؟ كأنّك يعني لا تعرف ما بي؟؟ تظنّني غبيّة إذن؟؟ وأكثر من ذلك تستعرُّ من تعريف أصدقائك بي؟؟ قلت لها متداركا: إلعني الشّيطان ودعيني أشرح لك. صرخَت بصوت الرّعد: ألعنُ الشّيطان؟؟؟ إذن سأريك الآن كيف سألعن الشّيطان، خُذْ؛ وبدأت بتحريك المصابيح بعنف وإشعالها وإطفائها، وصفق الأبواب والنّوافذ بقوّة، وقذفي بالثّياب والأحذية والأواني، وصوتها يقول في كل زاوية من زوايا البيت بأصداء مضاعفة: إجلسسس لتكتببب.. إجلسسس لتكتببب.. إجلسسس لتكتببب..
وأنا أحمي وجهي بيدي وأقول مستعطفا: سأكتب.. سأكتب.. سأكتب..
فهدأَت قليلا، وذهبت إلى المطبخ لتفتح الثّلاّجة وتشرب كأسا من الخلّ المُرَكّز تبرِّد بها حلقها وأعصابها، فهي لا تشرب إلاّ الخلّ، لذلك كلّ شهر أشتري كرتونة مليئة بقناني الخلّ أصفّفها لها في رفّ الثّلاّجة الأبرد.
الآن جلستُ لأكتب لها قصّة، وليس في رأسي أيّ فكرة، ولا أيّ نصف فكرة، ولا حتّى ما يعادل قملة، وهي تكمل دوشها وتغنّي، وأنا أرتعش والماء يقطر من شعري ومن كمّي فوق الورقة حتّى يبلّلها فأغيّرها بورقة أخرى دون أن أجد فكرة قصّة مضحكة أكتبها لها لتتسلّى بها وتضحك بعد خروجها من الحمّام بالرّوب الورديّ، وهي تشرب عصير الخلّ المثلّج، فوق الفوتوي واضعة رجلها عارية فوق الطاولة، وتطلب منّي كالعادة بغنج أن أمسّد لها ظهرها بعد أن تضطجع على بطنها فوق الزّربية، وأنا سأقول لها كالعادة: وأين هو ظهرك لأمسّده؟؟!
فتقول لي كالعادة: مسّد الزّربية وكفى ثرثرة.


.
  • Like
التفاعلات: ابويبس أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى