حسن بحراوي - الموعد.. قصة قصير

وهو في غياهب السجن اتفق مع رفاقه على موعد غريب..أن يلتقوا كيف ما كانت الأحوال بعد عشرين عاما ليلة رأس السنة في مقهى باليما وسط المدينة..
مرت فصول عديدة وعبرت مياه كثيرة تحت الجسور وغادر الجميع الأسوار وانتشروا في مناكب الأرض منهم من صادف حظا وافرا وترقى في السلالم حتى لم يعد يتعرف عليهم أحد..برلمانيون..محامون..مقاولون..ومنهم من التصق بالحضيض وقنع بحياة الكفاف..أما نصيبه هو فكان أن يظل كما كان في الأصل أي راقنا ثم مصححا في جريدة حزبه..
وجاء اليوم الموعود المتفق على اللقاء في مسائه في سطيحة مقهى باليما وانتظر صاحبنا اقتراب منتصف الليل وارتدى معطفه الذي اشتراه من سوق البراغيث واعتمر قبعته الصوفية اتقاء لبرد الشتاء
الذي جاء قاسيا ذلك العام..وهناك جلس في موقع يتيح رؤية كل داخل إلى هذا الجناح الحميمي من المقهى..طلب شايا أسود بالنعناع وراح ينتظر..ماذا تراه ينتظر؟
تلك الثلة من الرفاق القدامى الذين ذاق معهم الحلو والمر وعاش معهم المحاكمات الصاخبة والإضرابات عن الطعام والاحتفالات بالأعياد الأممية وأخيرا لحظات فرحة الإفراج بعفو أو نصف الفرحة بإتمام المدد المحكوم بها..
كان الطقس جليديا في هذه السطيحة بحيث صار الشاي الساخن مثلجا تقريبا بعد لحظات من مجيء النادل به..وتساءل لماذا اتفق الجميع على هذا المكان ولم يختاروا مثلا الصالون الأرضي الدافئ أو الحانة الهادئة الواقعة في الطابق الأول؟ ولكن لا بأس قال مع نفسه..يأتون وبعد ذلك نغيّر المكان..شعر في قرارة نفسه أن هذا الفضاء لا يليق بإحياء ذكرى عزيزة مثل هذه..ذكرى إنشاء منظمة جماهيرية شعبية تقدمية..وبناء حزب ثوري (تحت نيران للعدو)..
وفكّر أن السبب هو أن هذه السطيحة محملة برائحة التاريخ والنضال والحماس الذي عاشته شبيبة السبعينات..وبأنها تمثل شيئا رمزيا لمجموعتنا التي اتخذت بين جدرانها قرارات حاسمة وأقدمت على خطوات جبارة في عالم محفوف بالمغامرات والمخاطر..

ولكن ها هي ساعةٌ تمرّ على حلول الموعد التاريخي ولم يظهر أثر لأي واحد من الرفاق العشرة..لابدّ أنهم سيتأخرون قليلا ريثما يفرغون من التزاماتهم ويتحررون لبعض الوقت من ارتباطاتهم لكي يتاح لهم الحضور والتمتّع بهذه اللحظة الرائعة بصحبة رفاق شاركوهم طموحات الشباب وعانوا معهم من المحاكمات الظالمة وظروف الاعتقال القاسية وهلم جرا من الأشياء التي وحّدت صفوفهم وجعلت روابطهم الرفاقية تنتقل إلى مرتبة العلاقة الروحية الخالصة..لكن هذا هو مألوف الحياة الإنسانية المجبولة على التغير والانقلاب..والتي لا تكتسب معناها سوى على إيقاع التحولات والانتقالات التي تطرأ على بني البشر وتحملهم على التلون من حال إلى حال ومن وضع إلى وضع..
وعندما يتأمل الآن في ذهنه على سبيل تجزية الوقت أحوال الرفاق المنتظر وصولهم بين الحين والآخر لا يجدهم يخرجون عن صنفين اثنين:
مَن لم يراكم منهم ثروة ويكسب عقارات وضيعات أسعده الحظ فكوّن عائلة وأبناؤه اليوم في الجامعات وبناته متزوجات..أمّا هو؟..
فكّر أنه جائع وسخر من نفسه لأنه كان يمنّي نفسه طيلة المساء بعشاء فاخر في أحسن المطاعم غير أنه الآن عاجز عن تأمين وجبة شعبية رخيصة في مقهى النقابة بباب الأحد..ولكن مهلا قال له هاجس متفائل بداخله: لا تجعل اليأس يتسرّب إلى كيانك..نحن لازلنا على عتبة الساعة الثانية من السنة الجديدة ولا مبرر لفقدان الأمل سريعا في لقاء رفيق أو رفيقين ممّن ما يزالان مثله يهزهم الحنين إلى تلك الحقبة الغابرة ولكن المسكونة بالأحلام والآمال العريضة..
كانوا قد عيّنوه..في الخيال طبعا..وزيرا للثقافة ومسؤولا عن التوعية الجماهيرية في حكومة الثورة..وطلبوا منه أن يعدّ تقريرا وافيا ينسجم في روحه وشكله مع توجّهات التنظيم السياسية والإديولوجية..وهو أخذ المسألة بكامل الجدية واعتكف في زنزانته عدة أيام وليال يراجع أدبيات الفكر الاشتراكي في منابعها لكي يتولى استلهام أحسن ما فيها وأكثرها قبولا للتكيف مع ذهنية شعبه وميولاته الاجتماعية والنفسية..وتقدم الرفيق الوزير في اليوم المعلوم بتقريره التوجيهي في جلسة علنية أمام اللجان المنتخبة استمرت لعدة ساعات من النقاش والأخذ والرد حتى انتهوا إلى الصياغة الجماعية لتصور ثقافي وإديولوجي وافق عليه الجميع..برفع الأيادي وبالتصفيق معا.
طاف النادل يجمع الكؤوس والفناجين التي غادر أصحابها السطيحة ونظر إلى صاحبنا مستفسرا:
-هل ينتظر الأستاذ أحدا؟
-أجل..ولكنه ربما لن يأتي..
-يمكنك تغيير المكان وتتفضل بالذهاب إلى المقهى الأرضي أو البار لأن هذا أوان إغلاق السطيحة..
انتفض كمن لمسه تيار كهربائي ونظر إلى ساعته..كانت قد تجاوزت الثالثة صباحا..أخذ سجائره وجريدته وترك بقشيشا صغيرا للنادل ونزل الأدراج كمن يغادر كابوسا ظل يجثم عليه منذ نهاية السنة الماضية..
في الخارج بدت له بناية البرلمان شامخة ومشعة بالأضواء ودوريات الشرطة المتنقلة والراجلة تجوب الشارع والممرات..بضع أشخاص سكارى يترنحون وقد غادروا الحانات القريبة..أصوات الموسيقى الصاخبة تنبعث قوية من أعماق المراقص والكباريهات التي تملأ المكان خاصة خلف فندق باليما وما جاوره..شعر بالبرد القارس يلسع وجهه وأذنيه فلم يأبه لذلك ومضى وقد وضع يديه في جيوب معطفه والجريدة تحت إبطه..راوده خاطر في الذهاب إلى مقهى النقابة ليتناول طبقا ساخنا من قوائم الغنم بالحمص..ولكنه عدل عن الفكرة عندما تذكر أن ما تبقى لديه من نقود يكفيه بالكاد لركوب عربة النقل الجماعي إلى شقته بضاحية المدينة..ولذلك جدّ في المسير كأنما يتعقبه أحد يريد به سوء..
وفكر أثناء الطريق في أن من أساؤوا له حقا هم عصابة رفاقه الذين أخلفوا موعدهم التاريخي الذي قرروه جماعيا والتزموا به قبل عشرين سنة عندما كانوا يمضون زهرة شبابهم في المعتقل..
كانت عربة المرسديس البيضاء المتهالكة تنتظر استكمال عدد الركاب الستة المسموح لها بهم لتغادر المحطة..شخصان مخموران يبدو عليهما السكر الطافح يحتلان المقعد الأمامي وفي الخلف امرأة في سنّ معينة تلبس لباسا أبيض كأنها في حداد ومواطن عجوز في وزرة زرقاء ربما كان أحد حراس السيارات أنهى نوبته ويريد المغادرة إلى حال سبيله..نظر إليه السائق وسأله:
-هل أنت وحدك؟
وهز رأسه بالإيجاب وبقي واقفا إلى جوار السيارة وقال لهم السائق حينئذ وقد نفد صبره من الانتظار:
-هذه الرابعة صباحا هل بوسعكم أن تضيفوا درهما للنفر وتتركوننا نغادر عوض مواصلة انتظار راكب لا يريد أن يأتي؟
ونظر الركاب لبعضهم البعض كأنهم يستوضحون عمّا عرض عليهم الرجل السائق..وبدا أن سؤاله لهم كان أشبه ما يكون بالمعضلة..ولكن لحسن الحظ أن أحد الشخصين الثملين في الأمام حسم الأمر لصالحهم وتطوع لأداء الدراهم الخمسة على أمل أن تغادر بهم العربة فورا..
عندما بلغ شقته توجه مباشرة إلى المطبخ ليهيئ طعاما سريعا يخفف من غائلة جوعه..ثم دخل إلى غرفة نومه فواجهته تلك الصورة الجماعية التي التقطها صحبة رفاقه المعتقلين بين واقف ومقرفص وجالس وسط المكان الذي كانوا يطلقون عليه ساخرين الساحة الشرفية..كانوا جميعا مبتسمين أو ضاحكين وبعضهم قد أرسل لحيته وآخرون يرفعون أصابعهم راسمين علامة النصر..
نظر إلى الصورة داخل إطارها الخشبي فوق جهاز التلفزة وتأمل في وجوه الرفاق واحدا واحدا وكأنهم يراهم لأول مرة وقال مع نفسه وهو يرسل تنهيدة عميقة:
-هل هناك شخص عاقل واحد على الكرة الأرضية يعقد موعدا بهذا الجنون؟
ثم علق كأنه يخاطب شخصا غير مرئي:
-المجنون حقا هو من يأتي لمثل ذلك الموعد الفانطاستيكي وفي ظنه أنه يوجد هناك مجانين مثله سيسايرونه في بلاهته.


* عن فكرة للكاتب التركي عزيز يسنين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى