أيمن مارديني - ضوء الباب الخلفي

– سوف أعود الى سورية في السر.
كلمات قليلة ألقيت بها في وجه حبيبتي صباحاً، ونحن نتناول القهوة.
كان صباحاً، ولكنه الليل من خيم علينا سحابة كالحة، سوداء، ومتخمة بالصور والفيديوهات المنتشرة على الصفحات، والقنوات التلفزيونية .
كان القرار صعباً، ولم تتحمل وطأته كما ابنتي، وابني الذي لن يفهم سواد القرار.
لم يكن الاشتياق ما دفعني اليه، فأنا كنت على يقين أنني لن أرى ما أعرفه عن دمشق، وغادر معي منذ حوالي ثلاث سنوات.
وأيضاً رائحة الياسمين التي تغنى بها الشعراء، فهي قد غادرت أنوفنا قبل عقد، وأحتفظنا به عقداً في مجالس الغربة فقط.
هو، وربما الشعور بالذنب وساديته التي أصبحنا نلتذ بها كل ليلة في خلواتنا السرية والمعلنة.
ولكن هو لساني من نطق، وكان أسبق في قراري مني!
أجل …..
كان لوقع الكلمات على أذني دوي هائل، وكأنني أسمعها أول مرة، ولم أفكر بها قبلاً.
– وماذا عن أولادك، وأنا، وحياتنا، و ……
وسقطت هي في بحر البكاء، ولم يكن له شاطيء ترسو عليه عتمة صور الغد.
لم أفكر بكم، كانت أنانيتي هناك، في دمشق .
وفقط هناك.
أجل...
هكذا كان لسان حلمي ينطق.
– وماذا عنكم؟
- وترى ما حالكم ان توفيت هنا مثلاً وبجانبكم، أو في الغرفة المجاورة؟!
– أيمن …. وتذكر سفرك السنة الماضية لرحلة عمل ولمدة شهر، وشهر واحد فقط ، كان أولادك في هيستيريا، وفقدان، وشوق لم أستطع تحمله وحدي... أرجوك ...فكر ثانية... حاول... أعلم مدى اشتياقك، ولكن …..
– هو ليس الاشتياق.
– لموقف تقوم به لا يناقض ما تقوله؟
– وأيضاً ليس هذا وحده، فأنا عندما كنت أقول، كان قولي ليس الا ما أراه مناسباً، واتقنه، وان كان بسيطاً أمام الأخرين ….لا … ليس هذا فقط ما قصدته.
– أولادك ... حياتنا ... مستقبلهم؟
– أعلم أن رحلة الذهاب ليست كما العودة، لربما ينتظرني مصير كصديقي عمر، أو أيام في المعتقل كرفيقي زياد، أو حتى مجهول كوسيم والذي لا نعلم عنه شيئاً، والى الآن، و لكني أيضاً أريد أن أذهب ... لا مفر حبيبتي... البحر من ورائي أغلقت أبوابه، ودمشق تناديني كجنية الحلم. هو سحرها الذي لا يقاوم، وضعيف أنا أمامه.
– اذن لن تذهب …. وحدك ….. نحن عائلة واحدة، وطالما كنا كذلك، ومصيرنا واحد أيضاً، وقرارك مناسب، ولكن ليس لك فقط.
سنذهب جميعنا، وما ينتظرك أيضاً ينتظرنا.
الانتظار واحد دائماً، وان اختلف صوته من أحد الى آخر.
وأليست كلماتك ما أقوله أنا الآن !؟
– هيا ... احزمي الأمتعة ... هيا بنا، ولكن لا تنسي أحلامنا أن تحزميها، وهدايا الغد، وضوء شباك غرفة أولادنا، و عصافيره التي توقظهم كل صباح.
– لا ... لن أنسى الكلمات أيضاً التي طالما تفوهنا بها في مجلس أصدقائنا في غرفة الجلوس تلك، ودموع ذكرياتنا أمام شاشات التلفاز عند رؤيتنا لدمشق تتهدم، وتكاد أن تصبح بائدة.
– وماذا عن جمال أطفالي، وشقرتهم التي ورثوها عني، و كحل عيونهم الذي زرعته فيهم... ماذا لو غادرهم في تشويه اليوم واللحظة، العتم، المصير الذي تعيشه دمشق الآن؟
– هي لهم، ونحن من أتينا بها لهم، وليست حقاً لهم. هي ورث من الممكن أن يبغضوها يوماً لسبب ما، وليست اختياراً حراً منهم لهم.
– ماذا لو ………
– يكفي أيمن … يكفي، والا سأعود عن قراري.
وتضحكين، وأضحك، وتغادر نظراتك الى الجهة الأخرى تخفين فيها دمعة تسللت خلسة.
حارة، حارقة، تكوي خدي كانت دمعتك، ولا أقوى على مد كفي لأمسحها عني، ولكني أمدها لأدير رأسك تجاهي، وألعق دمعتك.
الدمعة كانت سكراً، وحلوى، وأرجوحة طفولتي أيضا.ً
– أحبك ... جداً، وتعلمين، وأخاف عليك، ولا تعلمين.
– أعلم جيداً، وأخاف على أطفالي الذين لم يغادروا رحمي الى الآن، وان بلغوا من الطفولة لعباً ولهواً بريئاً. وتعلم أنت ذلك أيضاً.
– وهل سنندم على القرار الذي اتخذناه يوماً، أو ساعة، أو تحت الشهقة الأخيرة لنا تحت تعذيب سوط الوطن، أو من هم على انعكاس صورته.
– وان كان، نحن من قررنا، ونحن من فعلنا، وهذا حقنا كبشر، وان ضعفنا كماتقول وأعلم أنه سيحدث، الا أنه أيضاً بشري جداً، ولا مانع من الندم، فهو سمة القوة أمام جبروت الواقع لنحيا.
– هيا بنا.
– هيا…..
– ولكن ماذا عن أصدقائنا هنا، علينا أن نخبرهم، ونعلمهم بما ….
– لا … دعينا نعلمهم بأنفسنا ان عدنا، أو يروا بأنفسهم فعلاً سنقوم به لغد، ربما أفضل.
– توقف … خطر لي أنه ربما ان مكثنا هنا، أن يأتي يوم، و نكون نحن من يبني الغد لدمشق، و ……
– أجل، ولكن صفحات التاريخ تقول ما من حضارة تباد لها أن تعود بيد من كان فاراً من ظلمات ليلها.
ان كنا نظن أننا نور، علينا أن نزرع ذرات ضوئنا لمن حولنا، و ننكر أدوات الأسئلة.
هيا بنا .
– هيا... بنا، ولكن …..
ويتناهى الينا صوت بكاء.
أنظر اليها، وأهمس، وأليس سامي من يبكي؟
– أجل …في نومه.
ونقوم من مجلسنا، والقهوة، وكلامنا، بعد أن تمتد يدي الى ذراعها، وأقول:
– هيا بنا.
ونغادر الغرفة، ونترك الباب خلفنا موارباً.



أيمن مارديني
2013

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى