كاهنة عباس - سينفونية الغائب..

سينفونية الغياب :
هذه هي حروف سينفونيتي وحركاتها :
وقع الأقدام ، خطوة خطوة ، متعثرة ، رشيقة ،خفيفة ، متتالية .
نبرات الأصوات : عالية ، منخفضة ، منقبضة، غليظة رقيقة أو ضعيفة ،تخبرنا أن الصوت هو مكمن الروح ، بل ونفخ منها.
تفاصيل الحركات : متسارعة ، بطيئة ، منسجمة ، متعثرة ، غائبة ، حاضرة ، راقصة ، منكسرة ، شامخة ، متخفية ، ظاهرة وبارزة.
النظرات : لامعة ، منطفئة ، سارحة ، باكية ، ضاحكة ، عاشقة ، فاتنة ، حالمة ، مسافرة ، عارفة ، نافذة .
جر خفيف على الأرض ، يترك على بساطها أثر طفيف ، حركة تدل على شموخ صاحبها ،ونظرة لامعة كالنجم ساطعة في ذلك الفضاء ، فالغائب يعود ليرد للمكان أنسه القديم وللفؤاد ما فقده منذ الأبد .
سينفونية الغياب:
أن يعود الزمان إلى ما كان عليه من ذي قبل ، أن يمنحني المسافة كل المسافة، كي أدرك ما حل بي حينها، فأؤلف وقع خطى الغائب العائدة وأعيد لصوته رنته الرقيقة المنقبضة و لنظراته بريقها دون السهو عن إضافة فاصل الصمت ، ولا عن ذكر ملامح المكان أو عن وصف الروائح التي كانت تسكنه آنذاك وفق تقلبات الفصول.
أحتاج إلى باقة من الريح ،إلى أن أضع أصابعي على أوتار حزني أو فرحي ، أن آمرها : "بأن بوحي بما كان دائما يسكنني."
لا أدري ، ما الذي انبعث من حركاتي تلك فجأة، أهو الوجد أم الفقد ، أم كلاهما ؟ ولا كيف امتلأ الفراغ بكل ذلك الحضور ولا كيف أصبحت ألتاع ولا ألتاع و أنتظر ولا أنتظر ، فحلول الغائب لا يكون إلا بدلالة أو إشارة أو ذكرى متجددة ، أدير جوقتي والزمن بين يدي يسيل كالماء متخذا ألف لون ولون دون أن يسترد صفاءه الأصلي ، أرفع عصاي لأجمع مشية الغائب بنظراته وصوته ثم أشير إلى حروفها أن تنسجم وأن تكتب الصورة كما كانت منذ زمن انقضى ولن يعود أبدا.
وراء جوقتي ، لا أحد يراني أو يسمع ألحاني أو يدرك عناء ما أحياه ماضيا وحاضرا .
فللعالم وجه آخر يخفي كثيرا من التباس ، مألوف وغريب ، حديث وقديم ، جاف ورومانسي ،تتوسطه رغبتي في أن يعاد ما كان وأنا أعلم أن ذلك لن يتحقق أبدا .
ألحن سينفونية الغياب لتنبعث تلك الأجواء ، حتى يكون لتلك الشرفة نفس القبلة وللشمس نفس الألوان والإشراق ولقلبي تلك الفرحة وللغائب تلك الوقفة والوجهة والإهاب وللمشهد تلك الصورة.
فكيف بدد الحنين كل تلك الصور، أ لانه لن يستعيد أصل الصورة ،لم تنهمر حروف معزوفتي مثل الدموع ،حزنا على ما فات؟
من كان يتوقع آنذاك ،أن ما عشته سيتحول إلى فقد وحنين ؟ من كان يعتقد ،أن اللحظة الماضية كانت بكل هذا السحر وهذه الروعة ، من قال أنني كنت حينها في قمة السعادة ، من قال أنني سأحن إلى حضور الغائب حال رحيله؟
فلم هذا الشعور بالانكسار والخيبة ؟
من الذي أوهمني أن ماضيّ كان أجمل بحروفه القديمة وأوزانه القديمة وأفكاره القديمة ومعرفته القديمة وأوهامه القديمة ، لم تتكرر مأساتي فتتخذ ألف لحن وصورة وتعبير ، أ لا يكون العالم بكل صوره وأفكاره ، إرثا لمن سبقونا ،هل انسحب الماضي ليمنح للحاضر مكانا ووجودا في كياني؟
أرفع عصاي وأنا أوجه جوقتي ليصبح لحنها أكثر قوة وحماسا فيقول:
حرروا العالم من إرثه القديم، ولغته القديمة، ويقينه القديم ، حرروا العالم من كتب المتصوفة والفلاسفة والشعراء والأدباء بتراكيبها ومفرداتها ودلالاتها ، تلك التي مازلنا نبذل الجهد والوقت لتأويلها لأنها وصلت إلينا بالعلم لا بالتجربة.
حرروا العالم من شعره القديم وما يصف من مشاعر وصورا وما يتغنى به من موازين ، حرروه من غلافه القديم وألوانه البالية.
إنني أرى الغائب يتكاثر ويتعدد ويتخذ ألف وجه ووجه : وجه الأم والأب والقريب والأخ والصديق والحبيب .
فالغائبين هم من علمونا وحكمونا وفكروا مكاننا وتركوا لنا ما تركوا ، وهم أيضا من أحبونا و من هجرونا ومن كتبوا حكاياتنا ، لذلك مازالوا يسكنون أحلامنا وأوهامنا ويحدثوننا عما كان ، ومازال العالم شاهد على مرورهم من هنا ومازالت الذكريات تعيدونا إليهم حتى بعد النسيان .
فللغياب جذور بعضها ظاهر و محكيّ بعضها خفيّ ومكتوم .
ترى، لولا الغياب ، كيف سيبدو لنا وجه العالم ، قريب منا ،أم بعيد عنا وغريب ؟
أ ما من غياب يسكن الطبيعة ، بأشجارها وغاباتها وبحارها وسائر كائناتها ، أما أنها لا تعيش إلا حاضرها ، بمعنى أن لا ذاكرة تتحدث عنها؟
أضع عصاي وتتشتت حروفي ، وتتوقف جوقتي عن العزف .
كذلك تنتهي سينفونيتي .

كاهنة عباس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى