عفيف شليوط - الانهيار.. قصة قصيرة

دعاهم الليلة الى البيت بشكل مفاجىء ، وأصر أن يحضر جميعهم في الميعاد . لم يعتادوا على مثل هذه الدعوات المفاجئة ، انتظروا حلول المساء بفارغ الصبر لمعرفة سر هذه الدعوة غير العادية . مع حلول المساء توافد الواحد تلو الآخر ، وانتظروه في غرفة الاستقبال . أما هو فكان يجلس في غرفته طالباً عدم إزعاجه ، ولم يكن أحد يعرف ماذا يفعل وبماذا يفكر ، إلا أنهم شعروا بخطورة الموقف .

عندما إكتمل النصاب القانوني ، دخل عليهم بخطوات بطيئة باردة ، نظر إليهم واحداً واحداً وكأنه يودعهم ، ثم دعاهم إلى تناول وجبة العشاء . جلسوا وهم يراقبون تصرفاته وحركاته ، كلهم كانوا يتوقون الى معرفة سر ما يجري الآن وهنا . وكان يأكل بصمت وهو ساهم يفكر ، كان حزيناً مطأطىء الرأس ، حزنه أفقده حيويته التي إعتادوا عليها ، لكن لم يتجرأ أحد على سؤاله عن سبب الدعوة أو الحزن أو التغيير . وقف بعد أن أنهى تناول الطعام وشرع في الحديث من دون مقدمات :" لا شك أنكم تنتظرون أن أتكلم لأخبركم سبب الدعوة . إسمعوا .. أنا أمّنت لكم مستقبلاً مضموناً وحياة رغيدة ، لم تعرفوا معنى الشقاء والعمل الصعب . كنت أقرر وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحاتي من دون أن تتحملوا نتائج أخطائي . والآن يؤسفني أن أقف هذا الموقف ، بعد أن كنت دائماً الشخص القوي الذي طالما إحتجتم إليه . أقف اليوم لأخبركم بأمر خطير ، صدمة ربما لم تتوقعوها ، ولكن لا مهرب من قول الحقيقة ".

تصبب العرق من جميع الحاضرين ، وبدا عليهم الخوف من المجهول . أما هو فتابع كلامه وكأنه جهاز محوسب يزودنا بالمعلومات دون إحساس أو مشاعر .

" الآن ، أنا لست أنا ، وأنتم لستم أنتم . يجب أن يحدث تغيير جذري في حياتنا ... يجب أن تشمروا عن سواعدكم وتعملوا .. المصنع لم يعد قادراً على تأمين الحماية لنا .. المصنع .." ، وهنا تحرك الإنسان في داخله فأجهش بالبكاء . لم يصدق أحد ما يشاهد وما يسمع ، إنه يبكي ، يجهش بالبكاء ، إنه انسان مثلنا تماماً . ولكن لم يتجرأ أحد أن يسأله ماذا حصل للمصنع ، لم يتجرأ أحد أن يتكلم ، الصمت هو الذي سيطر على الموقف في تلك اللحظات . وقف فوقفوا ، دخل الى غرفته دون أن يتكلم ، أما هم فعادوا وجلسوا بصمت ، لم يتكلموا ، أخذ كل منهم يفكر بما قاله ، وكأنهم لا يدرون ما حصل ، أو بالأحرى أرادوا أن لا يعرفوا .

كان ذلك المساء بارداً . كانت الريح في الخارج تتوعد ، لم يجرؤ أحد في الداخل أن يخرج لمواجهتها .

كان الهدوء داخل غرفته مخيفاً . كانت النار في داخلهم تلتهمهم ، لكن لم يجرؤ أحدهم أن يدخل إليه للمواجهة .

وأخيراً نطق أحدهم ، وهذه المرة كانت هي .. الأم ، فقالت :" كنت أشعر دائماً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي ، كنت أنتظره ، توقعته ، إنه كان يعمل جاهداً لتأجيل قدومه ، ولكنه لم يدرك جيّداً أنه لن يمنع قدومه ".

هذا كان أول خنجر يدخل في نعشه .

في صباح اليوم التالي إنتظروه لتناول الطعام ، إلا أنه لم يخرج . نظر أحدهم الى الآخر على أمل أن يقوم أحدهم بالتطوع للدخول الى غرفته ، لكن الرؤوس كانت تنزل الى الأسفل لإخفاء العيون من نظرات العيون الأخرى .

البنت الصغرى رفضت أن تلحق بربعها ، دخلت الى غرفة الطعام ، غابت برهة من الزمن وعادت تحمل صينية وضعت عليها ما تيسر من طعام واتجهت الى باب غرفته . الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل ، وقفت أمام الباب ، نظرت إليهم ثم الى الباب ، قرعت الباب . إنتظرت ، إنتظروا ، فلم تسمع ولم يسمعوا رداً . لملمت كل ما لديها من شجاعة وفتحت الباب .. حاول الجميع أن يحبس أنفاسه لئلا يفقد سماع تنهيدة ، همسة ، أو أي صوت آخر مستحدث أو لم يسمعوه من قبل .

أغلقت الباب وغابت . إنتظروها . إنتظروها وانتظروها وانتظروها دون أن يبدي أحدهم إنتظاره لئلا يلحظ ذلك الآخرون .

نظرات تتجول في أنحاء المكان دون أن يصطدم بعضها ببعض ، ومن دون أن تقول شيئاً . يبدو أن هذه العيون أتقنت جيداً فن الهروب الأزلي .

خرجت والخوف بعينيها تتأمل الحاضرين .. ثم غابت مرة أخرى في غرفة الطعام . لم يسألها أحد عمّا يحدث في الداخل ، إنهم يستمرون في ممارسة لعبة الهروب الأزلي بواسطة أعينهم .

إنه في الداخل يتململ . أخذ يشعر بأن جسمه يتقلص . إنه يحاول أن يختفي ويجتهد في التقلص أكثر فأكثر لعله يتلاشى ، أو يصبح غير مرئي ليرتاح من النظرات التي تطارده في خياله .

جسمه أصبح بحجم كفة اليد ، إختفى رأسه ويداه ، ورجلاه تحولتا الى أرجل صغيرة ورفيعة ، وبدأت تنمو على ظهره مادة صلبة تماماً كالسلحفاة . وفجأة دخلت عليه ابنته الصغرى مرة أخرى ، فأدخل جسمه داخل قوقعته الجديدة خجلاً وربماً خوفاً ، لأنه لم يعد أباها ، بل أصبح جسماً غريباً أقرب الى السلحفاة منه الى الإنسان .

ما أن رأته على هذه الحال حتى صرخت من الرعب ، وحاولت الهرب من الغرفة ، ولكنها تذكرت أن هذا الشيء هو والدها . فاقتربت منه رويداً رويداً ، أمسكت به بإشمئزاز في البداية ، ثم بحنان .

في الخارج استقبلوا الخبر بذهول مجبول بحيرة ، فمن سيتابع المشوار ومن سيتحمل المسؤولية من بعده . والسؤال الأكبر ماذا سيجيبون السائلين عنه في العمل والمعارف والأقارب . قرروا إغلاق البيت ، إسدال الستائر ، عدم الرد على الهاتف وقطع كل اتصال مع الخارج الى أن يتوصلوا لإيجاد حل لهذه الأزمة .

هل يحتاج هذا الجسم الغريب الى غذاء ؟ جميعهم حسموا الموقف بأنه لا يحتاج . أما البنت الصغرى فقالت بثورة غاضبة :"بلى إنه يحتاج .. إنه كائن حي". دخلت إليه ، حاولت أن تطعمه لكنها لم توفق قي ذلك ، فلم تجد له فماً ولا حتى رأساً . بكت وبكت وبكت .. ثم وضعت الطعام الى جانبه وخرجت .

مرت الأيام والجسم الغريب لا يأكل ، والباب مغلق والستائر مسدلة ولا يرد أحد على الهاتف . البنت الصغرى إستمرت في الدخول الى الغرفة ، تضع الطعام ، تبكي ، وتخرج . لكن هذه المرة قررت أن تقول شيئاً ، خرجت إليهم من دون أن تغلق الباب ، نظرت إليهم واحداً واحداً ثم قالت :"إنه لا يتحرك".
الإبن الأكبر أصبح يخرج من البيت ليعمل ، ولكنه كان يجيد إغلاق الباب جيداً عند خروجه . الستائر بقيت مسدلة ، ولا أحد يرد على رنين الهاتف ، إذا كان هنالك رنين .

الأم قلقة من بقاء الجسم داخل البيت . بقاؤه يسبب المشاكل ويبقيهم مدفونين في داخل هذا البيت، ولكن كيف تتخلص منه دون أن تثير شبهات الآخرين ؟

في صباح أحد الأيام ، في الصباح الباكر ، قبل خروج الناس الى أعمالهم ، وقبل بزوغ الفجر ، خرجت الأم من الغرفة تحمل كيساً وهي تنظر حولها بحذر ، خرجت من البيت ثم عادت تعدو بفزع ، إنتظرت الى جانب النافذة المحاذية للشارع .. توقفت شاحنة قرب عربة النفايات ، خرج منها شخصان ، أمسكا بعربة النفايات ، ووضعا محتوياتها في داخل الشاحنة وانطلقت الشاحنة الى مكان آخر ، بينما تنفست الأم الصعداء .. فتحت الباب ونوافذ البيت وسمحت بالرد على الهاتف .


- إنتهت-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى