محمد علام - سيّد الجدران.. قصة قصيرة

لقد انتهيت من تثبيت كل المسامير اللازمة، لحمل كافة الصور التي ستأتي بهم أسما اليوم، إن اليوم لا يعبر عني، بقدر ما يعبر عن فرحي أمام نفسي بقدرتي على الحصول على شقة مستقلة لأول مرة في حياتي. هذه الحدران ستمتلئ بالصور التي تخصني وحدي.. آه أنا وأسما.. المهم أن الأثاث سيوضع هنا بعد قليل، وسأصبح سيد هذه الجدران.

سيد الجدران.. أستطيع أن أسمع صدى الصوت، كم هذا مبهج.. أعتقد أنني لو عشت عمري كله دون انعم بهذه اللحظة فأنا أستطيع أن أرقص وأصرخ آآآآآآه وأن أسير عاريا تماما كما أريد.. أنا لا أصدق نفسي أستطيع أن أصرخ آآآآآآه، أستطيع أن أشتم أيها البشر الملاعين، إلى الجحيم أيها الكوكب الأزرق الأبله.. ياااه لم أتوفر على هذه الحرية منذ زمن. كان ينبغي أن أسعى لهذه الخطوة منذ زمن، صحيح أن أمي توسلتني كثيرا كي لا أتركها وحيدة بعد زواجي، لكني أعتقد أنها ستكون حرة وستشعر بالسعادة مثلي الآن.

أشعر باللهاث من كثرة القفز والصراخ، في عمري لم أتوفر على هذا، هل أكرر هذا ثانية؟ شعور جميل.. أليس كذلك؟ ألوان الجدران لا تعجبني، لم يكن ينبغي أن أسمح لأسما أن تختار اللون الأصفر الباهت هذا، إنه بائس للغاية، لقد تأخرت كثيرا في المجيء إلى هنا، لم يكن ينبغي أن أعتمد على الفتاة في اختيار كل شيء، لقد خدعتني وأخفت عني المتعة التي تنتظر المرء في هذه الجدران الخالية.

ما هذا؟ هل الصوت الذي يتطرق إلى أذني حقيقي؟ آه مؤكد إنه طرق الباب، كنت أحسب عمال الأثاث سيأتون متأخرين قليلا، لم يتركوا لي حتى ساعة واحدة أنعم فيها بوحدتي الجميلة.

أفتح الباب بعد أن استعدت وقاري، لكن الباب لم يكن خلفه أسما ولا البواب ولا عمال الأثاث. دخلت سيدة فجأة دون أن تنطق حرفا، أزاحتني جانبا ومرقت إلى الصالة مباشرة وأخذت تمرر عينيها عبر الغرف الخالية، حينها أحسست برائحة "" الطلاء التي مازالت تنبعث من الجدران، ورأيتها تقف أمام أحد جدران الغرفة الداخلية وتعقد كفيها أمام صدرها وقد وأزاحت الوشاح الأسود إلى رقبتها. اقتربت منها لأسمع ما تهمهم به، لكنها بمجرد ما شعرت بي، أعادت الوشاح إلى شعرها، واستعادت وقارها وهي تستدير ناحيتي قائلة: كان هناك لون أجمل من هذا بكثير. لمحت دمعة تتلألأ على وجهها، ولم أملك أن أرد عليها، فأنا أيضا أرى أن هذا الأصفر الباهت لا يليق إلا بالمستشفيات والمصالح الحكومية، ثم نظرت تجاهي وقالت: أليس كذلك؟ الحقيقة أنا لا أعرف كيف أجيبها أنني لا أعرف اللون الذي كانت عليه هذه الجدران، ربما لم يكن مفضلا بالنسبة لي، فأنا أحب الألوان القاتمة وأخص الأرجواني بالذات، وأعرف أن هذا قد لا يعجب أحدا، كررت سؤالها: أليس كذلك؟ ابتسمت وسرت معها عبر الغرف والممر المؤدي إلى شرفة في الصالة، استندت بذراعيها على سور الشرفة وقالت: لقد كانت هذه الجدران ملكي منذ إحدى عشر عامًا..

في الخارج تبهت شمس العصاري، وتخفت الزحمة من الشوارع، وتغشى البنايات والسيارات على جانبي الطريق مسحة باردة، قلت للسيدة أنها إذا أرادت أن تبقى قليلا يمكنني أن أتركها لساعة بالشقة حتى أعود. تشنج صوتها وهي تقول:
- أنا آسفة، مررت من هنا مصادفة، ولما رأيت الشبابيك مفتوحة، لم أقاوم الصعود.. لا أعرف لماذا، اعذرني..
- لا بأس، المهم أن تكوني بخير..
- شكرًا لتفهمك، كنت أحتاج أن ألقي النظرة الأخيرة على سنوات عمري الفائتة قبل الرحيل من هنا.
- ستسافرين؟
- أود لو آخذ الشوارع والجدران ولافتات المحلات التي وطأتها أنا وابن وزوجي.. لم يعد يربطني شيء بهذه البلاد سوى رفات الموتى.

أخرجَت سيجارة ووظلت تفرك رأسها حتى تناثر بعض التبغ في الهواء، قلتُ لها: كنتُ أشعر بذلك في السابق، لكنني الآن.. منذ دخلتُ هنا.. أشعر أنني شديد الارتباط بهذا المكان..
أحيانا تكون البنايات أكثر وفاء من البني آدميين، مهما طال غيابك ستجد الصخور في انتظارك دائمًا.

كسرت سيجارتها وعدلت من وضع وشاحها فوق شعرها، وودعتنا بابتسامة منكسرة، وخرجت.. أغلقتُ الباب خلفها وعدتُ إلى الشرفة وأنا أرى عربة الأثاث قد وصلت، وسمعت دبيب أرجل العمال على السلم، وجرس الباب يرن.. أطرفتُ قليلًا وأخرجت سيجارة وظللتُ أفركها، وظل تبغها يتناثر في الهواء..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى