ياسر جمعة - تلك القصيدة..

... والقصائدُ يا صديقتي لا تأتيْني، بل أنا من يذهبُ إليها: أبحثُ عنها في الطُّرقاتِ المُظلمةِ، تلك المُوْحِشة والخَطِرَة، وما إنْ ألمحَها مِنْ حيثُ تُراقِبُني وهي تتخَفَّى في الأشياء، تُراوغُني، أحتالُ عليها، وفي النِّهايةِ تُقبل.
أمس، ودونَ أنْ أبرحَ مكاني، فاجأتْنِي القصيدةُ بنفسِها، كانت تحكي عن رجلٍ شُغِفَ بحكايات الآخرين، منذ الصِّغر، فعاشَ فيها.. بها، ونسيَ أن يعيشَ، ولو لبعضِ الوقت، في نفسِهِ.
وكانت تحكيْ عن مَوْتَى يعودونَ إلى الحياةِ متَسلِّلِين عبرَ الحكاياتِ الصَّغيرةِ، التي تلوكُها الشِّفاهُ الحزينةُ، لعلَّهُم يتخفَّفُون مِنْ مرارةِ الصَّمتِ والوحدةِ، وعبرَ أحلامِ الأطفالِ، يتَسلَّلُون ليشتركوا مع الأحياء في مُلاعبةِ الخوفِ الجاثمِ، دونَ أنْ يُلاحظَ موتَهُم أحدٌ.
وكانَ في القصيدةِ امرأةٌ.. امرأةٌ تُشبهكِ كثيرًا ياصديقتي، حتى في قُدرتِها على أنْ تكونَ أمَّاً وهي العاشقةُ، وأنْ تكونَ العاشقةُ وهي الصديقةُ، وأن تكونَ ذاتَها في كلِّ ما يَصدرُ عنْها، لقد كانتِ الوحيدةُ فيما بينَهم من يستطيعُ فعلَ ذلك، لذا كانتْ تُردِّدُ فيما يُشبه الهذيان: بنيَّاتٍ حسنةٍ، وبآيادٍ رحيمةٍ.. نقتلُ بعضَنَا دائمًا.
كانتْ قصيدةٌ كبيرةٌ يا صديقتي، كبيرةٌ وحقيقيَّةٌ وشَرِسَة، مثلَ قاطعِ طريق، يتغذَّى هو وصغارُه على سلاحِهِ، فلمْ أستطعْ أنْ أُدَوِّنَها، وجئتكِ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى