د. نادر عبدالخالق - نظارة ليست للرؤية قصة قصيرة

-1-
لم يعد يحتمل النوم مبكرا بعد أن اقتحم خياله هذا الهاجس الغريب، كيف سمح لنفسه أن يتدنى بتفكيره إلى هذا الحد ..؟
إنها الحقيقة التى لايستطيع الفكاك منها ..!!
لم يعد هناك أدنى احتمال للعودة من جديد . .!!
لقد أعد العدة وعزم الأمر .. العودة ضرورة لاكتشاف الحقائق ومعرفة الأسرار .. والبحث قيمة لايعرف أهميتها إلا من ذاق لذة المعرفة .. به تدرك الوقائع الغائبة عن الذهن .. وتتحقق الأحلام والوعود .
لم يعد للواقع الحالى تأثير كبير فى الحد من رغباته المتوالية التى تتزايد يوما بعد يوم، البحث عن الغريب والمدهش والجديد يسيطر على ذاكرته المادية والمعنوية حتى ولو كان ذلك فى الزمن البعيد ، الواقع المحيط يتضارب مع طموحاته ومع عقله ، والحياة لن تقف أبدا عند إرادته .
بالأمس أرسلت له أمه سيالا ضوئيا عبر الذهن الإليكترونى، تدعوه للسفر معها للفضاء بعيدا حيث تأمل الذات فى دائرتها الكونية وحركتها الحرة ورؤية المخلوقات البعيدة والعجيبة، والعيش لحظات مع النفس وهى خالية من أوجاعها الأرضية وهمومها النفسية ..، كانت أمه تعرف مدى ولعه بالسفر البعيد فكانت تبذل كثيرا من تفكيرها فى إبعاده عن هذه الأفكار حتى ينسى هذه التداعيات الراكدة فى عمق الذكريات ويتخلص من هواجسه .
واليوم استيقظ على رسالة ذهنية أخرى من صديقه يدعوه لخوض رحلة بعيدة ودورة زمنية جديدة يسافر فيها عدة قرون إلى الماضى ليعرف كيف كان الناس يعيشون ويستقبلون حياتهم .. إنها المتعة والجمال والوصول للحقائق الغائبة..!!
لم يعد يدرى هل يجيب دعوة أمه بالخروج من هذه الحالة التى تسيطر على خياله ويرحل إلى الفضاء الواسع ويستمتع بالخروج من حيز المكان الضيق إلى الأفاق الرحبة ويكتشف أسرار المستقبل ويقف على حقائق الكون ..؟؟
أم يستجيب لرغبة صديقه الجرىء والمغامر ويحقق حلمه وطموحه الذى يراوده منذ أمد بعيد ويسافر إلى الماضى ويكشف أسراره وغموضه وحياته ..؟؟
كان دائما يحدث نفسه بأحاديث مختلفة ..، إنه يعلم أن الحياة مليئة بالأضداد حتى فى هذا العصر الذهنى الإليكترونى .. !!
عصر رحلات الفضاء والسياحة الكونية بين الكواكب وتجاوز الغريب والبعيد..!!
لكن ما جدوى هذه الحياة إن لم تتمثل فيها ذواتنا ..، وتبدو فيها أحلامنا واقع نسعى لتحقيقه .. ولايكون الحب عملا ماديا وقتما نريد .. وإنما يصبح حقيقة تعيش فينا ولا تغادرنا مهما تبدلت أطوار حياتنا ؟ الحب هو زهرة الحياة ورحيق الوجود به يسمو المحب ويرتقي بعيدا .
يجب الفصل بين عصر الإشارة الضوئية التى تحقق كل الرغبات وبين عصر الرغبات النفسية الكادحة التى تبحث عن الاستواء والمعايشة بين كل هذه التقلبات المادية العصرية ..، يجب العودة لمراحل التفكير الأولى ..، ويجب التعلم من إنسان الحياة السابقة ..!!
لم يكن الحب عنده عملية مركبة أو سفر أو رؤية عبر أدوات التنقل الإليكترونى .. كان الحب عاطفة تملؤ القلب وتنمو فى رحاب الحبيب ..، وكانت معاناة القرب والوصال تعلو بالعاطفة ..، وكان الود طبيعة وليس تكلفا ..، الحياة فى ظل رضا المحبوب غاية ..، والفراق آلام مبرحة لايقو عليها أحد ..، فكانت قصص الحب والقرب رواية تروى وحكاية تنقل فى الأزمان الخالية .
ولا يجب البعد أبدا عن تيارات الذهن التى تنطلق منها حياتنا الأن ..، فبها نستطيع أن نحقق كل شىء .. وبدونها يصيبنا الجمود والركود ..، ليس من المعقول أن أشقى بما ينعم به الناس ..، وليس من المنطقى أن أترك كل هذه التطورات ..، وليس من المفيد أن أقف عاجزا عن تحقيق الأحلام .. كما لا يجب أن أترك عقلى نهبا للأفكار .
أنا : كما أعلم كثيرا .. أجهل أيضا كثيرا ...!!
لابد من معرفة كل شىء .. المعارف حقائق .. والحقائق أسرار .. والأسرار كنوز .. والطموح دورة حياة .. والشغف وسيلة من لا وسيلة له ..!!
ثمة اختلاف يبدو لى وثمة تفاوت بيننا وبين من سبقونا إنهم انشغلوا بذواتهم ومشاعرهم الخاصة ونحن انشغلنا بالسفر الذهنى والخروج الإليكترونى ..، حتى تهاوت ذواتنا ومشاعرنا أمام علومنا .. لكن لا بأس فإن الطموح يقتل الفراغ ويحتفظ بتوازن النفس .

-2-
إنه يحلم بالعودة لحياة الأجداد ويحلم بخوض غمار هذه الحياة الجديدة التى يحاول أن يصل فيها إلى حقائق وغرائب ونوادر لم يكن يعرفها ..، لقد قرأ وسمع عن قضايا عديدة عانى منها هؤلاء فى زمنهم ..، ورأى عدة تصورات لحياة هؤلاء .. لكنه يريد معرفة ماهو مجهول ومعرفة أطوار الحياة البشرية من قبل !!
الناس فى الزمن البعيد .. الحياة العامة .
العلوم والمخترعات.. الأشياء الخاصة .
أسباب الوجود .. دوافع البقاء .
لماذا اهتم هؤلاء بالحروب والسلاح ..؟؟
ولماذا لم يكن لديهم الدافع للخلود..؟؟
لماذا لم يقيموا حياتهم على الاستقلالية والخصوصية التى تمنحهم البقاء وتجاوز الأزمات..؟؟
كان القهر وسيلة يلجأون لها ويفنون بعضهم البعض عن طريقها ..
كانت العاطفة تحوطهم .. والغريزة النفعية تحاصرهم .
حياتهم مجموعة من الأضداد والتناقضات والأفكار المدهشة والغريبة .
لكنهم كانول يتزايدون بكثرة مطردة ويتناقلون فيما بينهم رغم الحواجز والقيود والموانع التى كانوا يضعونها لبعضهم البعض .
اندحر منهم الكثير وتلاشت معظم علومهم بسبب تعمدهم إخفاء النتائج والسطو على أفكار بعضهم البعض ..!! ومع ذلك فقد تحدوا كل شىء وواصلوا حياتهم دون أن يتلاشوا أو يتعرضوا للفناء الجماعى ..، كانت لديهم حروب من نوع خاص ومواجهات عنيفة وجها لوجه .. يموت فيها الألاف دفعة واحدة .. مع أن الحرب فى حياتنا لاتحتاج أكثر من مجموعة من الأدوات الضوئية والوسائل الإليكترونية.. وناقلات المعلومات التى لاتتجاوز حجم اليد الواحدة .. الجيش بأكمله عربة واحدة وشخصية أليكترونية مصنعة .
كانت الأمراض تفترس هؤلاء بغرابة شديدة ..، الأن يستطيع أى شخص أن يحدد موطن المرض وكيفية العلاج بسهولة ويسر ودون أن يبرح مكانه ..، وكانت الطبيعة تهاجم حياتهم ولا يستطيعون رد قسوتها وتحديد اتجاهات هجماتها .. لقد عانى هؤلاء كثيرا .. وكانوا يموتون بغرابة فجأة دون سبب .. وكان العطش يفترسهم .. والجوع يحاصرهم فى بلادهم .

-3-
حاول الخروج من غفوته لكن نظارته لاتتوقف عن الاهتزاز وإرسال الإشارات الضوئية..
كلما وضعها على وجهه أرسلت أشعتها واهتزازتها تنذر بوجود تحول جديد ..
لكنه لايعبأ بها إنه يريد ركوب السيارة العتيقة التى تعمل بالوقود المادى ..
إنها السيارة التى اشتراها بمبلغ كبير من معرض التحف والآلات النادرة ..
ويريد أن يرتدى ملابس القرن الحادى والعشرين ..
ويريد معرفة أحوال الناس فى القرون السابقة .
لكن كيف يهيؤ نفسه لخوض هذه التجربة ..؟؟
لن يتركه الناس يملأ الجو بغازات وأبخرة ويسير فى الطرقات الخالية ..!!
ولن يستطيع أحد تحمل اختراق السيارة لطبيعة الحياة والاقتراب من الخصوصية الضوئية إن طبيعة هذه السيارة تخالف كل الأشياء من حوله .. إنها تسير فى الطرقات الضيقة هكذا مع الجميع جنبا إلى جنب ..!!
ولن يقبله أحد فى هذا الزى القديم والعجيب..!! الجميع يرتدى الزى الإليكترونى الضوئى الواقى والموحد عند أهل هذا الزمان ..، إنه زى متجدد دائما ويحتفظ بدرجة حرارة خاصة تمشيا مع المناخ الطبيعى العام.. ولاتتغير حرارته أبدا مهما تحول الطقس أو تبدلت أحواله.. والجميع يستطيع أن يبدل ألوان ملابسه كلما أراد حسب طبيعة الليل والنهار وحسب المناسبة التى يبدو فيها ..!!
لكنها المغامرة التى تجول بخاطره منذ أن كان عمره خمس سنوات حينما رأى أشخاصا مختلفين فى مقاطع ضوئية قديمة فى متحف المدينة .. رأهم يتحدثون بطريقة تختلف عن طبيعة العصر.. وتصدر عنهم أشياء جديدة فى فهمها على ذهنه وخياله .

-4-
كان جمال ابن العشرين عاما مشغولا بأحوال شعوب العالم البعيد يقرأ عنهم ويبحث فى الأثار التى تركوها .. وكلما ابتعد فى البحث عدة قرون كانت دهشته تزداد ولا يتوقف فضوله عن البحث والإدراك .
وضع نظارته أمام عينيه ثم أشار إلى الطرف الأيمن منها بذاكرته الذهنية حيث يتمركز البريد والواتس ومجموعة وسائل التواصل الخاصة به ..، ظهرت أمامه على الفور صورة ضوئية لمجموعة الرسائل فى المرآة الإليكترونية التى تبدو أمامه على الفور بمجرد التذكر قرأ الرسائل وتفحص محتواها وأجاب على بعضها وترك البعض الأخر دون رد .. ثم اتجه بإشارة ذهنية سريعة إلى الجانب الأيسر من النظارة فظهر أمامه كيبورد الذاكرة كتب بعض الملاحظات عن فكرة السفر عبر الزمن ثم انطلق عبر محرك البحث متجولا فى نتائج أخبار وأحوال إنسان القرن الحادى والعشرين .. العادات .. والتقاليد.. والمسكن .. والملبس ..الطعام والشراب.. والدواء .. والسفر والتنقل .. العمل .. المزاج .. التسلية .. الرفاهية.. كلما أدرك نتيجة بهرته أحوال الناس فى هذا القرن.. !!
كيف استطاعوا مواصلة الحياة ..؟
وكيف حافظوا على وجودهم ..؟؟
إنهم يموتون سريعا !!
ولايستطيعون مواجهة الطبيعة ..!!
إنهم مساكين يأكلون أشياء غريبة لا وجود لها فى عصرنا ..؟؟
ماذا لو تناولوا الوجبة الشهرية التى نتاولها نحن الأن إنها مجرد مستحضر غذائى مركب فى شكل حبة الدواء التى يتعاطونها فى عصرهم..!!
استمر فى بحثه وفى تنقيبه عبر الآثار المتبقية من إنسان القرن الحادى والعشرين .. رأى أشياء تشبه المساكن المادية القديمة لكنها تختلف عن المساكن التى يعيشون فيها .. بحث عن محتواها ..!!
وجدها من مواد قابلة للكسر والفناء .. وجد بعضها متحطما وبعضها الأخر غير مكتمل .. ووجدها طوابق متراصة.. !!
حاول المقارنة بين مسكنه الحالى وبين مسكن هؤلاء .. لم يجد وجها للمقارنة .. إن مسكنه الضوئى لا يتأثر بعوامل الطبيعة الخارجية ولايستطيع أحد أن يقتحمه مهما حدث إن له شفرة لايعرفها غيره .. يستطيع إزالته وبنائه فى نفس الوقت مجرد استحضار مجموعة من أشعة الشمس وبعض الغازات والحواجز الضوئية المستمدة من الطبيعة .. ثم يقسم محتوياته سريعا .. ويستطيع التنقل به أو تركه وبناء غيره كلما انتقل إلى مكان جديد ...!!
رأى مناظر لأطفال غريبة تبدو أجسادهم مغطاة بأشياء لها ألوان غريبة وأقدامهم يلتف حولها أشياء مجهولة له يريد أن يعرفها فهى ليست عارية أو حافية.. ورأى أماكن إقامتهم بين المارة والسيارات الوقودية التى تزدحم بها الشوارع فى ذلك العصر.. وعلى جانبى الطرق وفى التقاطعات المختلفة.. أدهشه رؤية أعمار متفاوتة من هؤلاء .. استدعى ذاكرة البحث الذهنى فالتقطت كاميراتها ما يدور حوله وما يعلق بنفسه وذهنه وتمت ترجمته على الفور فى عدة مقاطع مصورة ومتحركة فسمع كلامهم ورأى حركتهم.. ورأى بعض المطاردات التى تتعقبهم من أشخاص يرتدون أشياء مختلفة لايراها إلا فى المتاحف ورأى بعض الصناديق والأشياء التى تشبه السيارات العتيقة تمتلىء بهم وتصدر أصواتا غريبة ..!!
مايو 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى