د. نجاح إبراهيم - مرثيّةٌ لصمتٍ طويلٍ.. قصة قصيرة

"منذُ خمسينَ عاماً، لولا سوء التفاهم ذاك، ولولا تلك الغلطة، ولولا الحادث الذي فصلَ بيننا، لكان بالإمكان أن يكون بيننا شيءٌ ما."

لهجةُ كهلٍ جميلٍ يلتقي جميلة قديمة.

"سارتر"





ثمة قلق تعنقدَ في داخلها.

ساح في أجمات النفس. دهمها كما الشّائعة.

قلق مباغت وجارف.

مضى زمنٌ لم يأتِ بهذا الشكل العنيف! لهذا فقد بثّ فيها حركة بعد أن كانت غارقة برميم السكينة، وغبار السنين.

امتدّت يدٌ مجعّدةٌ مترهلةٌ إلى علبةِ السكائرِ. أخذتْ واحدةً، ألقتها المرأةُ بين شفتيها. دخّنت بشراهةٍ وهي تنظر من وراءِ زجاجِ النافذة إلى الشارعِ.

كان الجو بارداً.

ولونُ السماءِ باهتاً.

أما الأشجارُ فقد بدت مرتجفةً، تتمايل أغصانُها مع الرّيحِ النّائحةِ في لحظةِ تعاضدٍ غريبةٍ.

أسدلت المرأة الستارة بصمت.



مضت تصنع فنجاناً من القهوة، ثمّ طاب لها الجلوس وراء الطاولة المهملة منذ أمد، فالتمع بياض الورق المسجّى أمامها. مما دفعها لأن تمسك بالقلم البارد باشتهاء شديد لتبدأ الكتابة.

لم تدرِ كيف انثالت الكلماتُ من رُدُهاتِ العُمْقِ؟

وكيف تناسلت، وولدت، ثم حَبَتْ ومَشَتْ وتبخترتْ؟

لاحقتها بأنفاسها وحبرها.

تساءلت بعد أن لطّخت البياضَ باشتياقِ الحروفِ:

"ما الذي دفعني إلى الكتابة بعد هَجرٍ مغبرٍّ؟!

أيّ جرحٍ أضاءَ شرفاتِ الصّمتِ اللّعين؟"

وهجمت على الورق من جديد.

اشتدَّ وجيبُ القلبِ، تلاحقت الأنفاسُ المتهدّجةُ.

تلاهب الوجه واليدان. شعرت بظمأ ينتابُ تلالَ الرّوحِ.

أفرغت ما في نفسها، واستوعبَ السّائلُ الأسود غدق البوح،

فاستلقتْ على الورق العذريّ الصّقيل قصيدة.

وقتها تعاظم العطشُ، نما، امتدَّ، عربدَ، فأحسّت باللّوبان والوحدة رغم انفتاح الفضاءات!

وانتفضت من مكانها كاللّديغة. غادرته، تجوّلت في أرجاء البيت.

أخذت تتفقّده رُكناً رُكناً، تختلسُ النظرَ إليه، كأنما تراه بشكل آخر! بلون آخر! وشعرت بشيء ما غامضٍ ولذيذٍ يتمشى في عروقها، يطالبها بانتفاء اعتكافِها وتقوقعها، ويجعلها بأمسِّ الحاجة لأن تثور على وقتها المطفأ.

مرّ عقدان، والفراغ فيهما على أوجه.

يتراحل منها إليها بلا شفقة. قد شاء لها أن تقتصَّ منه الآن، فتلوّن الوقت بشيء من عطاءاتها السالفة.

ما زالت متوترة وحائرة وعطشى.

ورغبة في لقاء ما تتشكّل في أروقة الذات. كما هي الرغبة في ارتداء المعطف اللاّبد كنمر في عتمة الخزانة.

دارت بنفسها أمام المرآة، حملت حقيبةَ يدِها، ومظلّتها السّوداء، ونزلت إلى الشّارع الرّحيب. ودّت أن تتجوّلَ في المدينة امرأةً لفظت سكينتها، وسنيّ عمرها ومشت. شعرت بأنها تعدو فوق قَدَرِهَا، تُلاقي الناس، تجابههم. تحدّق بعيونهم كأنما لم ترهم منذ أزل!

بيد أن أحداً لم يلتفت إليها، أو يستوقفها ليسألها عن عُمرٍ مشبعٍ بالنسيان، أو يرسم على الوجه إشارة استغراب، أو شهقةً حرّى!

تمتمت بثقة:

"أعرفُ كيفَ أوقظُ ذاكرةَ النّاسِ."

تحمل قرارها وتمضي.

فيما سبق حظيت بمكانة كبيرة في قلوبهم، ومخيّلتهم، شعّت كنجم في سماء الشعر الذي جاء بمثابة طلقة، وبالتّالي كمرشحة للسجن والاغتيال عند لحظات العناد في زمنِ القمع، رفضتْ حين قَبِلَ الآخرونَ بكتابةِ شعرٍ يصبّح للون العفنِ، ويبجّل فقاعاتِ الزّبد، فما أتت به إلاَّ حرّاً، فضاءَ نسورٍ، وما أرادته إلا متمرّداً غير داجن. لهذا تفنّنت الأقبيةُ في اختفائها، وكفراشةٍ حرّةٍ تفننت في اقترابها من الضوء الحارق والرّقص الأخير حوله، فاخترقت وجودَها المنافي العديدةُ والمهلكةُ حتى كبّلها العمرُ وخنقها الترهّلُ، وأخذت بالإنطفاء شيئاً فشيئاً إلى أن خمدتْ ناراً في مرقدِها وباتت رماداً،

فهل لهذا الرّماد أن يكشفَ ما تحته؟

* * *

عند أحد الهواتف العامة وقفت.

فتحت دفتراً صغيراً بيدين مرتعشتين، جالت عينان مزمومتان بين صفحاته الصغيرة، المصفرّة، وعند إحداهنّ سكنت، نقّلت الطرف بين الصّفحة وقرصِ الهاتف المعدنّي، ضاربةً بأصابعَ مرتعشة، بطيئة، أرقاماً. سمعت لها صدى مغتبط. جاءها صوت رجل من الطرف الآخر:"

ـ ألو.. ألو.

صمتت برهة، ثمَّ بثّته صوتاً أنثوياً بعيداً:

ـ كيف أنت يا جواد؟

قال دون أن يجيب:

ـ من تكلمني؟

ـ معك حق تنسى.

ولاذت بسكون مفاجئ، مسحت بعده دمعة انحدرت على الخدّ المتجعّد.

جاءها الصوت مردداً:

ـ ألو، كلّميني يا سيدتي أكثر لأعرفَ من تكونين.

قالت:

ـ أنا نيزكةُ الفعلِ. أنا من دفعت الملك "بهرام" لأن يقولَ حين أسقطه جوادُه عن ظهره: لابدّ لنا من أن نأخذ جواداً آخر، وإذا وجدناه حروناً أيضاً جئنا بغيره..

هتف نشوان:

ـ زينات، زينات!

وأجهش، انتَظَرتهُ أن يفرغ من بكائه، ويلملم أطراف ذاته من المفاجأة الجميلة التي سعت إليه هذا المساء. أردف:

ـ أيتها القاسية! أين أنتِ؟

قالت بصوت مغتسل بالدمع والشهقة:

ـ أنا وحدي لا أحد يماشيني، أو يتأبط ذراعي، ثيابي مبلّلة بالمطر والشّوق.

قالَ بتأثرٍ:

ـ لا تقتليني ثانيةً. أين أنتِ؟ سآتي إليكِ رغم مرضي الشّديد، وحمّاي وارتجافي، قولي أين أنت؟

قاطعته قائلة بحزن:

ـ "بَعْدين" يا جواد.

وأغلقت السمّاعةَ.

خرجت من الغرفة الزّجاجيّة الصّغيرة، وانطلقت ليمرّغها الهواءُ الباردُ، ورذاذ المطر الذي فضّل الجنونَ على الهدأةِ، فتلوّى معطفُها الأسود، تقذف من خلال فتحته خطى على رصيف بردان، بينما راح الرّجلُ العجوزُ يرتدي ثيابَه محاولاً الإسراعَ قدر المستطاع. بيد أن ارتجافه، وثقل السنين على الكاهل المتعب جَعَلا حركاته تأتي وئيدةً، واهنةً، أمّا عقله وقلبه فقد توشيا بتلك المرأة التي وهبته دفعاً لأن يغادر وحدته، وغربته، وينطلق صوب ندائها المكتوم.

تساءل:

"زينات مبلّلة بالشّوقِ؟!

يا لسعادتك يا جواد!

إنها تخصّك بهذا الاعتراف"

لبس ثيابه بصعوبة، استرسل في حوارٍ مع ذاته:

"ايه زينات!

حرصتِ ألاَّ تكوني حبيبةً لأحد، وقدرتِ أن تكوني صديقةَ الكلّ لوقت طويل.

آه يا أنت! كنتِ أكبر من الحبّ والحلم."

ولجأ إلى صندوقٍ كبيرٍ قرب سريره الحديدي، في زاوية الغرفة، فتحه، امتدّتْ كلتا يديه المرتجفتين إلى قاعه، تُخرجان من باطنهِ الكثيرَ من الهدايا التي كان يبتاعها في كلِّ مناسبة هامّة وعزيزة تمرّ به.

فيخبئها في هذا الصندوق الخشبي القديم لعدم استطاعته إيصال هداياه إلى المرأة التي يعشق، وها هي ذي الفرصة قد سنحت ليلتقيها،



بل إنها تدعوه للقاء أكيدٍ تلهّف إليه، حمل الهدايا وحبّاً قديماً، ومضى

حالماً بتلك الجميلة القديمة، التي لعبت دوراً هامّاً في حياته وفي تشكيل وخلق جمعية (الفينيق) للشعر.

تمتم في سرّه:

"قيل إننا مشاغبون

وعلينا أن نروّضَ أفكارَنا، وأحلامَنا، ونتسربلَ بشعاراتٍ فارغة كانوا قد أخاطوها لأجسادنا المنتفضة، وحين اشتعلنا كنجمةٍ حمراءَ زكّونا للعذاب، فنُفينا وما كنّا

بمنفيّين، وتشرّدنا وما كنّا بمتشّردين، إيه، والله زمان

يا زينات

تذكرَ ذلك ومضى

* * *

خبّ نحو بيتها الذي افتقدّ الرّحيلَ إليهِ منذُ أكثرَ من عقدين، بينما عادت هي أدراجها لتلوذَ بعرزالها. تصعدُ درجاته، تطوي المظلّةً المندّاةَ أمامَ عتبةِ البيتِ لتدلفَ إلى داخلهِ وتضيءَ النورَ.

كانت أحلامه العريضة، المنتفضة من وأدٍ عتيقٍ تسبقه.

استحال جسده إلى سفينةٍ محمّلة بالنفيس لها.

في الطريق راح يتخيلها امرأةً حارّة، وناضجة كرغيف الخبز الطازج، مثقلةً كغيمة، وطريةً كالعشب الطري. تظهر وتتوارى كشمس شباط لا يقبض عليها أحد‍

تساءل وهو يبتسم:

"أما زلتِ جميلة يا زينات؟

كم كنتُ أفكّرُ بالوقت الذي استغرقه الإله في تشكيلك؟

يا امرأة بحثتُ عند تخومها عن وقتٍ مزهر‍! أيتها الأنثى المحيّرة‍!"

ضحك، رنّت ضحكته في امتداد الشارع الذي يلتقط زحفه البطيء، وتحت رذاذ المطر هزّ رأسه وقال:

"محيّرة، وعنيدة‍"

أردف مؤكّداً:

"وقاسيةً أيضاً، لا رحمتنا ولا رحمت نفسها. تشهيناها فما وهبت واشتهت فتأبت.

آه يا زينات!

أيتها الوردة القديمة، ترى ما حجم أشواكك؟

صار في الحيّ الذي تقطن فيه.

يحمل شغفهُ وتساؤلاتٍ تتناسلُ، وهداياه، وصليلَ مفاتيح ترنّ في جيب بنطاله، تتمادى في سرد بوحها. بدا رجلاً طافحاً باللّهفة والحرارة، يتراحل الجمرُ في أنحاء جسمه، ومع هذا فقد زاغت نظرات مشرقة فوق ما تحمله يداه. وقف والمطر يقدّم كلَّ سخائهِ. تساءل:

"ما الذي فعلتهِ يا زينات؟!

كلمة أطلقتِها في السمّاعة، جعلتني أنتفضُ من فراشي الذي ما غادرته منذُ أيام. قلتِ: إنّني مبلّلةٌ بالشوق! هل حقّاً أنتِ كذلك؟ هل اشتقتِ إليّ أخيراً؟ أوّاه لو كنتِ صادقة؟ بل إنك صادقة لا محال، أخيراً نطقتِ بها، وَصَلَتْني كأنما تحملُ في طيّاتها كلَّ نداءاتك الدفينة، بل ومعها نداءات العالم أجمعين، فكيفَ لا أستجيبُ لها، وإنْ كنتُ محموماً؟"

انشقّ الباب عنها.

كتمت بخبثٍ شهقةً بحجمِ المفاجأة اللّذيذة. سكنَ كلاهما.

وقفا وجهاً لوجه أمام زمنٍِ طويلٍ فصلَ بينهما.

كان وجهها متفتّحاً، باشّاً.

وكان وجهه متعباً، إلاّ أنّ تعبه لم يحجب فرحاً سطع حين رآها.

راحا ينظران إلى بعضهما بعمق، كأنما يبحث كل واحدٍ عن ذاته في قسماتِ الآخر، عن عبرة يستنبطها من أزمنةٍ غابرة، عصيّة.

نطقت بعد لأي، وبقايا دهشة لازالت على الوجهِ والحنجرة

ـ جواد؟!

حينها رحلت عيناه اللاهثتان كما أنفاسه تلمّان بشوقٍ وجهها

وشعرها وقوامها المنحني، ثمّ حطّتا فوق عينيها اللّتين ما زالتا

قاتمتين كالبنفسج.

ابتسمتْ لـه. ابتسمَ لها. وأطلقا ضحكتين عاليتين. بعدها قدّم لها الهدايا

قالت:

ـ ما هذا؟

ـ هدايا لكِ.

ـ لي؟

وغمرتها الفرحةُ، أخرجت بعضها من علبها، تمتمت ممتنةً، ثمّ وضعتها جانباً على إحدى الأرائك القريبة، بينما انسلّ هو إلى الداخل يخلع معطفَهُ الدّاكن الطويلَ، طواه بتأنّ ووضعه على مسند الكرسي بأناقةِ رجلٍ سبعينيٍّ حريصٍ على نبالته، ومسحَ عن الوجه قطراتِ مطرٍ عالقة. خلع القبعة وثبّتها على ركبته اليمنى فبانت صلعته. ضحكت زينات حين التمعت قمة رأسه تحت الضوء، واكتفى هو بهزّةِ رأسٍ وابتسامةٍ، وأسند ظهره على إسفنجِ الأريكةِ، مرتعشاً كعصفور مبلل.

سألته:

ـ ما بكَ؟

ـ لم تغادرني السخونةُ منذُ أيامٍ!

ـ لقد كبرتَ.

ارتفع بجسده إلى الأمام، قال مؤيّداً:

ـ حقاً، لقد كبرنا.

ـ أنتَ فقط.

ثمّ أردفتْ بعد أن جلستْ قبالته:

ـ اليوم تذكرتك يا جواد.

تمتم مبتسماً:

ـ الحمدُ لله، وكيف كان ذلك؟

ـ حين أتممتُ قصيدتي العصّية تذكرتُكَ، تمنيتُ بشدّةٍ أن تكون بجانبي لأقرأها عليك.

داخله اغتباط، فقال:

ـ هاتِ أتحفيني.

خطت نحو الطاولة بكبرياء ملكةٍ ترفل بموروثها وجواهرها. أمسكت بإحدى الوريقات، وضعت نظارةً فوق أرنبة أنفها، وبحركةٍ مسرحيّةٍ أبعدت الورقة عن عينيها قرابة ذراع، وشرعت تقرأ، وكأنها على منبر، وأمام جمهورها العريض والمشوق:

"مع سليلِ الصّمت

ومتعةِ آخرِ الارتشافاتِ،

لغناءٍ مبحوحٍ

تألّقتِ الكأسُ بثمالتها،

تماوجت،

ترنّح المكانُ، وفارَ بذاكرته يحثّني

على استحضارِ رائحتكَ

وهطل نبيذُكَ مطراً،

ينفي الغياب،

وربّما الصّمتَ الطّويلَ!"

وسكنت، تسبلُ أهدابها بخجلٍ مصطنع، بينما صفّق لها محملقاً إلى وجهها الناحل. صمت مفكّراً ثمّ سأل:

ـ أكنتِ تفكّرين بي يا زينات؟

رفعت النظّارةَ. وضعت الورقةَ جانباً. استهلكتْ وقتاً لتجهّز ردّاً مقبولاً عن سؤالهِ. تنظرُ إليهِ تتقمّصُ هدوءاً كبيراً، نطقت برويّةٍ:

ـ أتشكُّ في ذلك يا جواد؟

وينشغلُ في حشوِ غليونهِ بقطعِ التبغِ الخشن، يطعّمهُ بالنار الرّاجفة فيلتهب تشظّياً، ثمَّ يطبقُ بشفتيه على مبسمِ الغليون، يسحبُ نفساً، يكرّر العمليّةَ مرّاتٍ حتّى إذا تمطّى دخانٌ رفيعٌ، وتلاهبَ التّبغُ في الحنجرةِ الخشبيّةِ مجَّ نَفساً عميقاً، انتشى على إثرهِ، ويروحُ متأمّلاً إيّاها ليقول:

ـ انتظرتُ وقتاً يمنحني القدرةَ على البوحِ، حتّى إذا جاءَ قتلتهِ أنتِ!

قالت بتنهّد:

ـ أثقلتنا الشّعاراتُ، وأناخت كاهلَنَا المهمّاتُ، فتوازعتنا الدّروبُ، ثمّ أجهزتْ علينا الأيّامُ.

قطبَ ما بينَ حاجبيهِ، ابتلعَ ريقَهُ، قالَ بضعفٍ:

ـ قد كانت هناك فرصٌ.

وراحَ يستذكرُ،

كيفَ ارتضى أن يحرسَ مبنًى حكومياً يقابلُ مسكنَها ليتاحَ لـه أن يكونَ قريباً منها؟ يراها، يراقبها، يعرفُ تحركاتها، متى تسدل الستائر لتنام، ومتى تغني، أو تأرق ومتى تلجأ إلى الكتابة، كانت نظراتهُ تصعدُ مع الصّاعدينَ إليها، المجتمعين بها، أصدقاءً، رفاقاً، محبّين، وتهبط مع المودّعين آخر اللّيل، المترعين بالسهر والكلام والعمل المؤجّل.

قال:

ـ كنت ألوّح لكِ بيدي كلَّ ليلةٍ، بمنديل تندّى بلهفتي وشوقي ورغبتي، حتى كدّتُ ذاتَ مرّةٍ أن أصرخَ فيكِ وأنت تغلقين النّافذة، أن تقفي وراءها، لنتسامرَ حتّى الصباح، لكنّ صوتي ما تعدّى حدودَ المحرس الصّغير.

قالت مقاطعةً وهي تحدّق بهِ:

ـ أتدري يا جواد؟

ـ ماذا؟

ـ أنتَ جبان.

أجاب وهو يرفعُ كفّهُ كأنّما يطردُ شيئاً مزعجاً من أمامه:

ـ أرجوكِ اسكتي.

وأحنى رأسهُ، وبكى بصمت.

مشت إليه، وقفت قربه، مسحت بيديها دمعهُ المنسرب بهدوء، ثمَّ رفعت رأسه بأطرافِ أصابعها، فنظر كلُّ واحدٍ عميقاً في عينيّ الآخرِ، ولاذا بسكونٍ طويلٍ لينطلقَ في المكان صوتُ غُصّةٍ.

سألها بعد أن حملت وجعاً وقامةً مهدودةً إلى كرسيٍّ قريبٍ، وجلست عليه، قبالتهُ:

ـ ما أقسى ما مررتِ بهِ يا زينات؟

أجابت:

ـ بعض الخيانات، وأنتَ؟

ـ شيئان، صدٌّ وهجر.

فهمت ما رمى إليه، احمرّ وجهها خجلاً، وربّما ارتباكاً وربّما لشيءٍ آخر، بدا واضحاً أنها تكابر، فسألت سؤالاً فيهِ بعضُ مكرٍ وخبثُ الأنثى الذكيّة:

ـ وبماذا تحلم؟

قال بعد أن اهتزّ صدره لسعالٍ انتابه فجأة، راح يئنُّ على إثرهِ:

ـ أحلم بشيءٍ واحدٍ، يتيمٍ..

وسكت رغبةً منه في أن تندفعَ بإكمال الجواب، وحين لم تنطق، أو تلح في معرفة هذا الحلم الوحيد الذي يتملكه، أردفَ من تلقاءِ نفسه وهو يتشاغل بالنظرِ إلى قبّعته الجاثية على ركبته كقطّةٍ مدللة:

ـ .. أحلم بأن أضع رأسي على كتفكِ وأُغنّي.

رفعت نظراً إليه. ابتسمت له، ثمَّ قامت من مكانها، واتّجهت نحوه قائلةً:

ـ سأحققُ حلمك، كي لا تحمل معك إلى القبر حكمك علي بأنني بخيلة و.. قاسية.

انتفض من جلسته هبَّ واقفاً، متناسياً ارتجافهُ، وألمهُ، ليستقبل مجيئها، خطا إليها، دنا منها، من رائحتها، من أنفاسها، احتضنته برفقً، وضع رأسهُ على الكتف المائلة، أراد أن يغنّي، لم يستطع، انتظرَ قليلاً لعلَّ غناءً جميلاً يحلُّ في الذّاكرة والحنجرة، انتظرَ طويلاً، وبدل أن يغنّي بكى بصوتٍ عالٍ متهدّج. ربتت على ظهرهِ، سألته وهي ما تزال تحتضنه:

ـ أهذا هو غناؤكَ؟

أجاب وهو يجهش:

ـ قد اختنقَ يا زينات، اختنقَ.

ـ وما الذي يدفعك إلى البكاء الآن؟

قالَ:

ـ لا، إنها دموع الفرح، فرحي عظيمٌ بكِ.

تمتمت في سرِّها:

"أمّا أنا، فحاجتي إليكَ كبيرة."

سأل وهو يمسح دمعه بيده من خلفِ ظهرها:

ـ هل بكيتي يوماً؟

أطالت التفكير، ثمَّ أجابت بحسرةٍ وحرقةٍ:

ـ بكيتُ.

ـ متى؟

ـ أثناء كلِّ حبٍّ.

سألها وهو يندسّ أكثرَ في صدرها ويزفزُ بعمق:

ـ وهل أحببتِ كثيراً؟

غصّت في قول الحقيقة، تردّدت في الإجابة، ولم تشعر بنفسها إلاَّ وهي تقول:

ـ كثيراً.

انفلت من بين أحضانها، تطلّع إلى وجهها دَهِشاً، وبعقب كفّه مسحَ دمعةً جثمت على الخدّ المرتعش وقال:

ـ أمّا أنا فما أحببتُ بعدك امرأةً قط.

رنتْ إليه، كان وجهه غائماً، وصوته لجوجاً في قول الصّدق، بينما بذلت هي جهداً لكي تبدو في تأثّرٍ واضح لموقف يستدعي النبل والتقديس.

قال برجاء:

ـ اقرئي لي كثيراً من قصائدك.

عادت إلى مكانها، وراءَ الطّاولة، فتّشت عن ورقةٍ خاصّةٍ بين الورق، وضعت نظّارتها من جديد، وبدأت تقرأُ، بينما تراحلَ هو من سحابةٍ إلى أخرى، ومن تحليقٍ إلى آخر منتشياً، ومستعذباً الكلمات، ولمّا انتهت القصيدة شعَّ وجهه بابتسامةٍ وهمس:

ـ اقرئي من الممنوعات يا زينات، أعيدي للوقت نداه.

قالت:

ـ أيّها الرّجل الخرف، أبعد هذا العمر؟!

قال بنشوةٍ عارمةٍ، بعد أن دسَّ النّار في حفرة الغليون:

ـ أتذكرين أمسيةَ بيروت؟

ضجَّ وجهها بالأُرجوان، تحرّكت قسماتُها، ردّت وهي تنظرُ من فوق النّظّارة بلهجةِ تحسّرٍ واضح:

ـ وهل تُنسى؟

زفرَ:

ـ إيه.. لقد حرمنا أنفسنا متعةَ أن نبقى معاً، كنتِ دائماً ترفضين اقترابي منكِ، وتتعلّلين بشتّى الأعذار. بينما كنتُ أحسُّ بكِ حين تلقين برأسكِ المتعب على الوسادة وتنشجين آخر اللّيل بعد أن يغادرَ آخرُ صديقٍ لك ضفاف تخومك!.

تنفعلُ ، تغضبُ، تقولُ وهي تنزعُ النّظّارةَ بعصبيّةٍ:

ـ وما الذي منعكِ من الإنضمام؟

نظر إليها، قرأ غضباً، وبداياتِ عصيان في عينيها الدّاكنتين، قال في سرّه:

"هذه هي زينات!"

وحين ألّحت عليه أن يجيبَ دونَ خجلٍ، أو مواربة قال بعد أن زفرَ دخاناً كثيفاً:

ـ ربّما واجب الحراسة!

صاحت:

ـ إذن لا تلقي باتهاماتك عليّ.

حملق إلى قسماتِ وجهها، لعلّة يقرأ رضىً أو ارتياحاً بعد ثورة غضبٍ قصيرة، وحين لمس ما تمنّاه انتفخت عروقُ جبهتهِ وبانت واضحةً، وملأت الدّموع عينيه الصّغيرتين المحمرّتين، ثمّ كرجت بسخاءٍ وارتعاش فوق خدّيهِ المتهدّلين. بينما أسبلت هي جفنيها باسترخاءٍ، ولاذت بالتفكير وبعض الذّكريات.

وعندَ حدود الفجر، وقبل أن ينفلقَ الصّبحُ، تلمّس جواد جبهتهُ، شدّ سلسلةً طويلةً انتهت بساعةٍ مدوّرةٍ قديمةٍ، اختبأت في جيب سترته الصّغير، حدّقَ بها نطقَ:

ـ ياه!

ثمّ أرجعها إلى مكانها، وتحامل على نفسه، خبّأ غليونه في حقيبةٍ جلديّةٍ مستطيلةٍ ووقف بصعوبةٍ، لبسَ قبّعته ومعطفه، لا حقته المرأةُ بنظراتٍ صامتةٍ، قالت بعد أن ألفته ينتعل الإنصراف:

ـ إلى أين يا جواد؟

استدارَ نحوها، ربّما تساءل:

"أيّ سؤالٍ جريء هذا يا زينات؟!"


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى