ولما كان الوقت قد تأخر أطفأ النور واستدل بيديه الدرب إلى السرير الذي كان اشتراه من سوق الجمعة حين فكر بالزواج من جارته نعيمة ابنة الإسكافي التي فهم أنها تحب النوم على سرير افرنجي، ولكن الزواج لم يتم ولا يعرف لماذا لم يتم وسأل نفسه نفس السؤال وهو يلمس طرف السرير بيديه في العتمة. وعندما استلقى قرر ان يستمر في التفكير بنعيمة خاصة أنه لا يستطيع النوم فور استلقائه وعليه دائماً ان يبحث في ذهنه عن موضوع شيق كي يشعر بشيء من السعادة لربما أثر ذلك في الأحلام التي ما تنفك تأتيه بكثافة. ونعيمة كانت تسأله باستمرار عن سبب عدم زواجه وكيف يتدبر أمور طعامه وغسيله حتى جاء اليوم الذي قرر فيه ان يطلب منها ان تتزوجه ما دامت تشغل بالها في أموره وهو يتذكر الآن كيف درس الأمر من كل جوانبه ووجد انها ربما ترغب به رغم سنواته الستين وهي عانس في الخامسة والثلاثين ثم انها ليست عظيمة الجمال والحَوَل الذي في عينيها ليس بالتأكيد حَوَل الحُسنِ كما يقولون بل زاد في عادية جمالها. وهو يقول إن جمالها عاديٌ لأنه يرفض التصريح، ولو لنفسه وهو مستلق على السرير الافرنجي، انها قبيحة رغم ان الشبان يقولون عنها إنها كذلك. وتذكر انه دَرَسَ الأمر جيداً فهو لا يريد ان يَطلب ويُرفض فيخْجل فقد أصبح في الستين وعاش حياته بعد وفاة أمه وحيداً فما معنى، وفي هذه السن، ان يخجِّـلوه فيرفضوا طلبه. ونعيمة لا تحب العيش في بيت أهلها إلى يوم القيامة خاصة وأن أباها قد رحل وورثته أمها في التحكم بها فصار وضعها أسوأ من قبلُ لأن أمها امرأة سليطة اللسان وتخاف من كلام الناس هذا غير أخوتها الكبار والأصغر منها الذين يحبون ان ينفخوا عضلاتهم أمامها. وفي كثير من الأحيان كان يسمع صراخاً من الأعلى، أي من شقتهم التي تقع فوق شقته وقبل أن يطفئ النور ويذهب إلى السرير متلمساً طريقه في الظلام بيديه الممدودتين أمامه. وقد فكر أكثر من مرة في شراء مصباح ليلي يضعه إلى جانب السرير ليتخلص من خوفه من التعثر بكرسي أو بفردة حذاء أثناء رحلته الطويلة من باب الغرفة حيث مفتاح النور وحتى السرير الذي يبعد طرفه القريب متراً ونصف المتر فقط، أما عن الصراخ فقد كان يفهم أن أمها وأخوتها يوبخونها ويسبونها ويدعون عليها بالحمى. وحين كان يفكر في الأمر جمع كل تلك الأسباب في خانة واحدة فوجد أنه إذا طلب أن يزوِّجوها له فأهلها لن يخجلوه بل سيرحبون بالفكرة على الأقل ليتخلصوا منها وليشيلوا همها عنهم ويضعوه على أكتافه كما يقولون. وتذكر كيف أنه كان عائداً من عمله حين وجد نعيمة تشطف الدرج فمسّى عليها فردت له التحية وسألته عما كان يحمل في كيس النايلون فقال إنهما صندويشتا فلافل سوف يلتهمهما على الغداء عندها قالت له إنه مسكين وعليه ان يبحث له عن زوجة تشيل كبرته فأجابها إنه بدأ يفكر جدياً في الزواج وإنه سيكون لها من الشاكرين إن دلته على امرأة عاقلة وابنة ناس ترضى بعجوز مثله، وقتها ابتسمت نعيمة ومدت يدها ووضعتها على يده التي كان يستند بها إلى درابزون الدرج فمر تيار كهربائي في جسده كله وشعر بحرارة شديدة تصعد إلى رأسه وزاد خفقان قلبه وجفاف فمه. وهو الآن يسمع خطوات في الشقة التي فوق وهي خطوات لانسان يعتمد في سيره على إنزال كعبي قدميه الحافيتين على الأرض بقوة فيحدثان صوتاً كصوت الطرق وهو منذ ان اكتشف أن هذه هي مشية نعيمة صار يتأثر بسماعه للخطوات أما مشية أمها فهي غير متميزة ولا تحدث صوتاً مثل هذه بل يخيل إليه أن أمها تسحب قدميها سحباً وهي قلما تسير حافية. وبقي عليه أن يتذكر وقع خطوات أخوتها الذكور الذين يزورونهما في أوقات متفرقة ولا يجتمعون كلهم إلا في العيدين الكبير والصغير وفي نصف شعبان بعد أن يعودوا من المقبرة إثر زيارتهم لقبر أبيهم المسكين الذي مات قبل أن يطمئن قلبه بتزويج ابنته نعيمة، فخطواتهم ذكورية وهم، في كل حال، يسيرون في البيت بأحذيتهم مما يجعل لخطواتهم رنيناً حاداً وخاصة واحد منهم الذي اهترأ كعبا حذائه وبرزت منهما المسامير التي ترنُّ على البلاط العاري. استدار إلى طرفه الأيمن ليطرد الأفكار عن الخطوات والأحذية فهو يريد أن يحصر أفكاره في الأمور السارة فقط فهذا ما يبتغيه دائماً قبل النوم ومنها مثلاً حين دخل إلى بيته يوم شطْفِ الدرج فجلس على كرسي وهو يلهث وأسند يده التي لمستها نعيمة وراح يستعيد، محاولاً أن يديم ذلك، الشعور الذي تملكه حين لمستها، فقد مضى زمن طويل منذ أن لمسته امرأة لآخر مرة، حتى أنه نسي تماماً ملمس يدي أمه حين كانت تدلك له رأسه لتزيل الصداع الذي كان يهاجمه، فكانت تمسّد له جبينه وعينيه وصدغيه وهي تتمتم بقل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، وهو الآن ينام على الطرف الأيمن محاولاً استعادة ملمس نعيمة ومن أجل ذلك رفع يده ونظر إليها ولكن الظلام حجبها عن عينيه فأعاد إغماضهما متلذذاً بعودة الشعور الذي يؤدي حتماً إلى التذكر كيف أنه أضرب عن غسل يديه مدة ثلاثة أيام لكيلا يمّحي أثر اللمسة الذي كان عبارة عن شعور يحتل الجسد كله فتنتصب له الشعيرات وتتكزبر البشرة وتصبح خشنة. أما في الداخل فقد كان أثر اللمسة حلواً وكأن فرحاً انسكب فيه فجأة فيكاد المرء يشهق من سعادته الفائقة، وفي هذه اللحظة بالذات تذكر كيف أنه كان يترك العمل ليعود إلى منزله لعلّه يصادف نعيمة على درج البناية فيستند من جديد على الدرابزون متيحاً لها الفرصة لكي تلمسه من جديد ولكنه كان يعود إلى عمله خائباً ويبقى حتى نهاية الدوام معكّر المزاج لأنه لم يحظ بها، ولكنه في طريق العودة، وهو يحمل كيس النايلون الذي يحتفظ فيه بصندويشاته، يروق مزاجه من جديد لأنه قد يصادفها أو على الأقل سيجلس في غرفته يستمع إلى طرقات كعبيها وهي تمشي حافية من غرفة إلى غرفة في بيتهم الذي هو فوق رأسه وفي نفس الوقت يستعيد أثر لمستها الذي لا ينسى، ولكنه اكتشف بعد ملاحظة دقيقة انها تشطف الدرج يوم الخميس من كل اسبوع، وهو الآن يتذكر بعد أن استدار إلى جنبه الأيسر كيف صادفها من جديد فوقف مستنداً مثل المرة الأولى على درابزون الدرج وراح يتمعن في وجهها متلقياً رسائل لا سلكية يبثها جسدها باتجاه جسده أو روحها باتجاه روحه فحدثته عن صعوبة ايجاد امرأة في هذه الأيام دون طرق الأبواب فلم يجد نفسه إلا وهو يطلب منها أن تتزوجه هي وأنه لا يريد غيرها فاحمر وجهها وارتبكت ولم تعد تعرف ما تفعل فقرر أن ينسحب في الوقت المناسب ولكنه وقبل أن يتركها همس لها أنه سوف يتحدث إلى أمها. ولكن الكلام مع الأم ليس سهلاً فهي، كما هو معروف، سيئة الخلق وسليطة اللسان تستخدم في هجومها على الآخرين سبّات الرجال، ولكنه وهو مستلقٍ على طرفه الأيسر قرر ألا يفكر في الأم لأن التفكير فيها يسمم البدن وهو يريد أن ينام سعيداً لذلك، لم يستعد وقائع مقابلته لها حين صعد إليهم وفتح الموضوع ولكن الممتع في تلك المقابلة معرفته لطباع نعيمة في النوم ففي تلك الزيارة علم أنها لا تستطيع النوم إلا على سرير افرنجي رفّاس في حين أنه كان ينام على فراش يمده على لوح من الخشب بناءً على نصيحة طبيب المصلحة التي يعمل فيها بعد أن اكتشف أنه يعاني من مرض الديسك فقرر أن يشتري السرير. والتفكير في هذا الأمر يعتبر من أكثر المواضيع المتعلقة بنعيمة متعةً لأنه اكتشف أن لديه قضية يدور في الأسواق على قدميه من أجل اتمامها ومن طول بحثه عن السرير الذي سيرضي نعيمة عادت إليه آلام الديسك حتى نصحه أحد الزملاء في المصلحة أن يبحث عما يريد في سوق الجمعة، وهكذا وجد لنفسه عملاً يشغله في أيام الجمعة حين تعطل المصلحة ويضطر للمكوث في البيت وليبحث عن ذرائع للدخول والخروج من منزله لعله يصادف نعيمة التي تأخرت كثيراً في إبلاغه برد أهلها على موضوع طلب يدها ولكنه اكتشف وقتها أن أصوات رنين أحذية أخوتها راحت تتكرر باستمرار في بيتهم وكأن تلك الأحذية تسير فوق رأسه في كل ليلة، ثم راح يسمع أصوات صراخ غاضب ثم سبَّات وتهديدات وربما كانت هناك سبّة واحدة موجهة إليه وإلى عائلته، وهو لا يريد في هذه اللحظة، التي يتمنى فيها التفكير في الأمور الممتعة فقط، أن يستعيد كل ما سمعه وخاصة ذلك الصراخ الغاضب الذي يصفه بأنه عجوز فقير ومريض يسكن بالإيجار ثم أنه لا يريد أن يتذكر كيف أن أذنيه التقطتا بكاء نعيمة المر وأشياء أخرى ومنها خاصة تلك الأصوات التي يعتقد أنها أصوات قيام أحد أخوتها بضربها بقوة وبمساعدة أمها وهو يتذكر حينئذ أنه بكى بصمت حزناً على نعيمة وقد بكى مرة أخرى حين صادفها بعد عدة أسابيع وهي تشطف الدرج فاقترب منها يريد أن يخبرها أنه اشترى لها أخيراً السرير الذي تحب أن تنام عليه ولكنها هربت من مواجهته تاركة الماء يسيل على الدرجات ويتساقط من حافاتها كالشلالات. وهو يتذكر الآن أنه بكى في غرفته رغم أنه لا يريد التفكير بمثل هذه الأمور التي تورث الغم في نفسه وشعر وقتها بالوحدة وأنه حتماً سيموت وحيداً دون أن يحظى مرة أخرى بلمسة امرأة على يده ومن أجل ذلك صار يفكر كل ليلة وقبل أن يغفو بنعيمة وبلمستها وكيف انها تركت في نفسه شعوراً ممتعاً وجذاباً يجعله ينام سعيداً ويحلم أحلاماً لذيذة.