د. نادر عبدالخالق - السيد باع الأرض.. قصة قصيرة

-1-​

شمس يولية تقترب من الرؤوس .. ولاتفارقه نوبة العتاب بعذابها، ووحدتها، التى لاتختلف كثيرا عن لفحة الهجير الحارقة فى أول الظهيرة، ووسط الشوارع الخالية من المارة، إنه عائد لتوه من مؤازرة حتمية فرضتها النزعة العصبية .
تتضارب فى داخله أشياء وأخلاق ومبادىء حافظ عليها كثيرا.
لكنها سرعان ما تلاشت فى هذه المؤازرة الحتمية .
هاتفه قرينه انهض من نومك سريعا السنة تضيع الصفقة السنوية معرضة للضياع .
سينتهى كل شىء ولا أستطيع فعل شىء لإيقاف هذا الضياع .
تستطيع أنت أن تفعل كل شىء بكلمة واحدة .
مجرد ظهورك له فعل السحر.. قالوا :
لن يخيب مسعاه إذا حضر .. ولن يتخلف أحد عن تقديم فروض الولاء له .

-2-​

- استوقفه وجه مستدير لايجهل معالمه .

الوجه يطل من خلف نافذة سمراء محكمة الوشاح لايبدو منها غير تفاصيل هذا الوجه القديم الذى تعلوه نظارة طبية متواضعة لكنها تحدد الأشياء بدقة، كما تزيد الوجه دلالات تتحد فى قراءة التجاعيد، وسيطرة خطوط الحزن الدقيقة.. مع حالة العتاب والشكوى والتصريح، بأشياء ذات تأثير خاص والإعلان عن تفاصيل كثيرة لأحداث ممتدة فى ذاكرة السنين ..!!
  • الوجه يقترب منه ويحاول اللحاق بوجهه .
مرآة تطل عليه يرى فيها ذاكرة مستعصية على الحضور..، وأشعة يولية تحاصره حاول الفكاك منها لكن الوجه المرآة يستدير مع حركته فى رشاقة ومهارة كلما استدار يمينا أو يسارا، .. ظل كما هو فى مكانه ..، استسلم واجتهد كثيرا فى تذكر ملامح هذا الوجه إنه ليس غريبا عنه ..، يشعر بذلك كلما انمحت الرهبة واقترب الحديث ..، لكنه فشل فى تحديد الأشياء .
بدأت وفود الناس تأتى من بعيد خارجة من أداء فريضة الظهر من مسجد الحمد .
أدرك أن هذا الموقف سيكون محل انتباه المارة .. وملاحظة الجميع .. وجهان متقابلان .. بينهما حديث خافت واضح وأخر ظاهر غير معلن ينتظر ميلاده ..، مرت الوفود من خلفه ومن جانبه غير عابئة .. لم تدرك وجوده .. ولم تنتبه للوجهان المتقابلين ..، ربما كان السبب شمس يولية الحارقة .. وربما عدم الخوض فى أشياء لا تهم ..!!
لكن أحدهم كان يهتم به عند مقابلته فماذا حدث ؟؟
لماذا تجاهلته المارة ..؟
أدرك من هذا التجاهل أشياء لم يعلن عنها فى تقابل الوجهين ..
أدرك أن ثمة علاقة تفرض عليه هذا التفرد ..
لم يكن لديه ما يحتمى به من شمس يولية ..
ولم يكن لديه ما يلجأ له اتقاء هذا الحرج ..
ما عليه إلا أن يستسلم ليصل إلى نهاية الطريق ..
ويعرف أسرار ودقائق فى حياة الأخرين ..
فى النهاية الأمر سيتضح وسيكتسب مهارات جديدة .

-3-​

ولاد وبنات يوسف معاهم فلوس كتير ..!!
زوجة يوسف أخرجتنى من الدار ..!!
فين حقى .. ؟؟
أنا الزوجة ولى الثمن فى الدار والميراث ..!!

-4-​

عصام مازال مختبئا هناك بعيدا عن العيون .
بعد فترة اعتقال قضاها فى معتقل السياسيين بالقرب من القلعة الحصينة .
وبجوار المعتقل الأثرى الشهير الذى يطلقون عليه معتقل المغول .
لم يعترف لهم بشىء رغم أنهم حاولوا معه كثيرا بشتى الطرق .
لولا كلماته التى أطلقها على جدار الفيس مستهترا ما كان مصيره هناك .
لكنها الحماقة التى أودت به خلف القضبان شهورا طويلة .. تاركا خلفه زوجة مريضة علاجها يحتاج نفقات كثيرة .. وعدد من الأولاد والبنات مازالوا فى السن الأولى للرعاية .. اجتهد الجميع فى رعاية أولاد عصام .. واجتهد الجميع فى توجيه اللوم والعتاب له .
ماذا ستفعل كلماته التى أطلقها غير مبال على جدار الفيس..؟
إنه يشعر بالرغبة فى نقد الأشياء وفى المشاركة السياسية .. لكنه لم يتعلم من تجارب السابقين عليه .. لقد رحلوا بسبب كلمة ألقوها هنا وهناك .. مازالوا فى رهن الاعتقال والأسر ولم يتغير شىء .. بعضهم يموت اختناقا .. وبعضهم يضرب عن الطعام .. بعضهم خرج من الذاكرة إلى طى النسيان .. العودة لن تكون سهلة إنه يعلم ذلك ويعلم رفاقه أيضا أنها ربما تكون ضربا من ضروب المستحيل .

-5-​

  • ماذا يفعل مهاب ؟؟
أيبحث عنه ويصارحه بالحقيقة ..؟؟
أم يصرف النظر عن هذا الأمر؟؟
حيرة انتابته ولم تفارقه !!

-6-​

كان عصام بعيدا عن العيون .
يفعل كل شىء ويدلى بتصريحاته بين الأصدقاء المقربين.
ولم يكن يعارضه أحد رغم أنهم لايوافقونه كثيرا..!!
التشدد صنع منه حالة من الشتات لايستطيع معها أن يحدد الطريق الصحيح .. البلاد تمر بأزمات كثيرة والشكوى من الفقر مستمرة والأمراض تفتك بالناس فى كل مكان .. وفى المقابل تبدو ملامح الاستقرار الأولى واضحة وإن كانت غير كافية .. الحياة تختلف حاليا عن المرحلة السابقة .. مرحلة البدايات .
دائما كان عصام يردد هذه المقولة : ليس كل ما نفكر فيه يصلح لأن يكون حقيقة .. عاجلا أم أجلا سنحاسب عن كل ما فعلناه دون روية أو تفكير أو وعى .
وكنت أقول له : عاجلا أم أجلا سنجنى ثمار ما فعلناه لاتقلق يا عصام .. الله غالب على أمره .. والحقيقة هى الحقيقة مهما تبدلت الأوضاع ومهما تباينت الحقائق والأفكار .. إن الله لايضيع أجر من أحسن عملا .
فيجيب : فهل أحسنا العمل؟؟
وهل أحسنا الاجتهاد ؟؟
لو أحسنا ما كان هذا مصيرنا .. لو اجتهدنا فى الكفاح لما كان هذا حالنا أبدا !!
إنهم يتقدمون كثيرا ونحن نقف فى مكاننا .. أين الأرض ؟؟
وأين الوطن؟؟
أين الأب والجد والعم ..؟
أين الخال ..؟ هل تعرف كيف رحلوا..؟
هل تعرف ماذا فعلوا..؟
لقد رضوا واستسلموا حتى كان هذا المصير .!!
الحلم يجب أن يعيش لكن كيف ؟؟
الحلم ليس مستحيلا .. !!
علينا أن نبعث فى الناس اليقظة دائما .. العودة حقيقة وإن كانت بعيدة .
مازلت اختلف معك يا عصام ..!!
اختلافك معى ليس هو ما أفكر فيه .. إن حياتنا مرهونة بنا ومستقبلنا مرهون بما نقدمه .

-7-​

أنا سميرة بنت خالتك زينب قريبتك .!!
أعيش فى عزلة بعد أن مات الرجل..!!
كان أبوك يسأل عنى .. أنت ليه ناسينى يا وله..!!
عشان كبرت وبقيت بيه ..!!
أوعى يا وله تنسى ناسك ..!!
هاجيلك وأقول لاولادك على كل حاجة كنت بتعملها وأنت صغير قد كده !!
أوعى يا وله .. قصدى يا بيه :
أوعى تفوت ناسك .. أصلك هنا .. وقيمتك هنا .. أنت حر..!!

-8-​

مات يوسف بعد فترة معاناة مع المرض .
داهمته عدة أمراض دفعة واحدة .. أنكر الحقيقة على من حوله.. حاول خوض التجربة وحيدا لكنه فشل وتكاثرت عليه الأوجاع وفقد الحياة بعد أن أنفق كل ما لديه .
جاءت زوجته إلى بيته القديم بعد أن تكاثرت عليها المطالب .. جاءت ومعها ثلاثة من الأولاد الصغار .. المعاش الحكومى غير كاف .. لم تمر فترة صغيرة حتى تصدع البيت القديم وتهاوت أركانه .. خرجوا إلى بيت الجيران حتى اجتمع أهل الخير وبنوا البيت من جديد دون أن تتكلف الأسرة الصغيرة شيئا .
اقتطعت الزوجة الجزء الأمامى لواجهة البيت وأقامت محلا لبيع المواد الغذائية والمعلبات الجاهزة .. نجحت نجاحا بارعا .. وتعاطف معها الجميع .. تحول المشروع الصغير إلى صرح تجارى كبير .. كانت الزوجة تستقبل الوفود بالترحاب .. وترسل لهم الأشياء إلى المنازل .. كان هذا تحولا كبيرا فى أسلوب التجارة فى الريف .. أتقنت كل شىء .. وعرفت كل أساليب التجارة .. وبدت عليها ملامح النعمة سريعا .

-9-​

لم يتبق لى شئ أعتمد عليه .
المعاش الذى تركه السيد قليل جدا إنه معاش استثنائى ولايفى بجميع الاحتياجات الدواء والأكل والشرب ماذا أفعل ..؟؟
فقدت الرجل والأرض والبيت !!
حاولت العودة من جديد لكنهم رفضوا وجودى ..!!
لا تتركنى وحيدة .. استدرت لها وحاولت معرفة كل التفاصيل لم تمهلنى ولم تستجيب .. شعرت أننى أحدث نفسى .. أشارت إلى أذنيها لم أفهم .. كررت كلماتى لها ..!!
أين أنت ؟؟
مع من تعيشين.. يا خالة ؟؟
لم تستجب وأشارت إلى أذنيها .. ولأول مرة يتحول الوجه عنى .. كأنه لا فائدة من الحديث معى .. شعرت بالنقص .. وانتابنى إحساس بالعجز .. هممت بفعل شىء يعيد الوجه إلى مكانه الطبيعى لكنى تراجعت .. جائنى شعور بالوحشة .. لقد فقدت السمع .. وفقدت النطق .. كانت كلماتها تتقاذف سريعا ولاحياة لدى ماتت الكلمات على الشفاه .. أدركت أن صراعا ما يدور .. الصمم عجز كبير .. والبكم عجز أكبر ..!!
من فينا الأصم ومن فينا الأبكم ..؟
محاورة عاجزة لم تجعل التواصل أمرا واقعيا .

-10-​

خصلات ذهبية تتقافز فوق جبين وردى .
بريق يلمع فى عينى الناظر .. وحاجبين ممتدين كسيفين حادين .. وقلب مايل فى صدر حاير .. أصل الوجع زى الودع مايل .. للنعمة أسرار تبدو وللزينة بهاء .
أصبحت زوجة يوسف فى زينتها هدفا يسعى له الجميع .. وقمة ينطلق منها راغبى النعمة والنعيم وملاذا للطامعين والباحثين عن الثراء السريع .. بعد أن تزايدت تجارتها وأصبح لها فروعا فى القرى المجاورة .. واحتكرت بعض الأصناف الغذائية .. وتمكنت من الحصول على بعض التوكيلات من عدة مصانع .. تجلس كل يوم فى الصباح فى الفرع الرئيسى تتناول مشروب القهوة وتوقع بعض المراسلات وتتابع سير العمل بدقة واقتدار.. مع من استقدمتهم من المحاسبين .. ومن دربتهم على الإدارة والمتابعة بنفسها .. من الرجال وأصحاب الحرف المتعلقة بصناعة المواد الغذائية .

-11-​

اجتماع طارىء نادى به بعض رؤوس العائلة ودعى له الجميع وكانت أول القضايا التى يجب مناقشتها قضية سميرة بنت زينب .. والسبب وراء تدهور حالتها الاجتماعية .

اجتمعت الأراء حول ضرورة إقامة صندوق تبرعات لمساعدة مثل هذه الحالات .. ودعا البعض إلى اختيار وفد مكون من أربعة من كبار الحكماء لزيارة بيت سميرة وبحث حالتها والاتفاق حول مبلغ يرصد لها بصفة دورية .. ارتضى الجميع هذا الرأى وفى اليوم التالى توجهوا إلى بيت سميرة .. وجدوا البيت مغلق وعليه قفل كبير انتظروا ساعات لم تأت .. عادوا فى اليوم التالى وانتظروا ولم يجدوها .. سألوا الجيران لم يصلوا إلى شىء ..!

-12-​

السيد باع الأرض .
أطلقت هذه العبارة فجأة .. حاولت إيقاف الحديث .. لكن الوجه لم يخضع لتوسلاتى .. ومازال الحديث مستمرا .. أطلقت عدة أسئلة دفعة واحدة بعد أن نفذ صبرى ..
- من السيد ؟
  • وأى أرض تقصدين ؟
  • وأين هى ؟
  • وكيف تم البيع ؟
تركتنى وانصرفت .. ومازالت حرارة الشمس تنبعث بشدة ..!!
دار برأسى حديث عن الحقيقة والماضى والمستقبل .. ماهى الحقيقة وأين توجد ؟
وماذا يفيد الحديث عن الماضى ؟
وهل يصلح المستقبل دون معرفة الماضى ؟؟
استقر الأمر عندى على عدة ثوابت أهمها أن الواقع هو كل الحقائق .. وأن حسن معالجته وإدارته هو الطريق إلى المستقبل .. لافائدة من خوض الماضى والانطلاق منه عندئذ ستكون الحقائق مزدوجة وسيكون التفكير مرهونا بنتائج وهمية وتأثيرات غير طبيعية

-13-​

حاولت معرفة الحقيقة .
قالت جدتى : لقد رحل السيد من فترة طويلة وترك ما يكفى للحياة الكريمة لكن الأيام تدور ولها عواقب كثيرة .. ومن الحكمة يا بنى أن تضع الشىء فى نصابه .. وأن تضع الفكرة فى رأس صاحبها الذى يستطيع حسن استغلالها وتنفيذ مضمونها .. حبة القمح تحتاج إلى مقدار حجمها من الماء حتى تنبت لا زيادة ولا نقصان .
الأرض يا ولدى : تتكلم وتسمع لكن من الذى يسمع كلامها ؟
ومن الذى يحنو عليها ؟

وأعلم يا ولدى أن ذاكرة العوام ثلاثة أيام .. والحقائق معارف .. والتاريخ له وجه واحد لكنه يتعدد بتعدد المصالح .. لم يكن السيد قادرا على الصمود وحده .. ولم تكن العوام تعلم شيئا .. وكان الرجل فردا والجماعة أشتاتا .. وكانت الأرض ناضجة قد أخرجت ما فيها .

-14-​

بحثت عن سميرة باهتمام بالغ حتى عثرت عليها مختبئة بعيدة عن العيون عند أحد الأقارب .. سألتها عن سبب اختفائها وسألتها عن أشياء كثيرة .. أجابت عن بعضها وامتنعت عن الرد عن كثير مما حاولت معرفته وقالت بعد أن أدركها التعب :
أنا هنا موجودة
تعالى زرنى وأنت تعرف كل حاجة عن السيد وعن الأرض ..
انتظرك

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى