سلمى الخيواني - كفاية.. قصة قصيرة

في حجرة الصف المتصدعة ، التصق تلاميذ السنة الخامسة بمقاعدهم كالمسامير وأعينهم مثبتة بالباب ، يترقبون قدومه .
كانت ركبتا (واثق ) ترتجفان وتصطدمان يبعضهما ، يطبق على شفتيه بتوتر ، ويعقد ذراعيه أعلى صدره ، تجول في خاطره ذكرى الخيزران الرفيعة ، وبين علوها وهبوطها صوت يشبه أزيز النحلة ، وهى توشك على اللدغ ، تصبب العرق من جبينه ، وابتلع ريقه بصعوبة ، لكزه صديقه (حميد ) ، وقال له مداعباً :
"لا تخاف إنها وجبة كل أسبوع .."
لم تخفف دعابة حميد من قلق واثق ، وظل وجهه كئيبا واجما ، في حين اجتاحت الحجرة غيمة ضبابية ، ودوياً مفزعا على إثر تلك الخطوات القادمة من الرواق ، فالتزم الجميع الصمت ، وأرهفوا السمع ،وقد نبتت على باب الصف يد نحيفة مصفرة ، يغطيها الشعر ، فانتفض لروايتها التلاميذ واقفين ، ثم اندفع إلى داخل الحجرة جسد هزيل لرجل في أوائل الثلاثين ، حاد الملامح ، شاحب البشرة ، جاحظ العينين ، يتفرق القليل من الشعر على مساحة رأسه الصغير.
لم يلق التحية على التلاميذ ، وتركهم واقفين ، دون السماح لهم بالجلوس ، وسارع إلى إخراج حزمة أوراق من حقيبته ، فانقبضت القلوب ، وزاغت الأبصار ، وتعالت الشهقات فأخمدها بنظرة متوعدة منه ، وما هي إلا هنيهة حتى استل من جانبه خيزرانته الرفيعة ، وقال بصوته المبحوح :
"من يسمع اسمه يجلس على كرسيه ساكت "
نادى بعشرة أسماء من أصل ستين ، وما أن كان أحدهم يسمع اسمه حتى يتهلل وجهه ، وتنشرح أساريره ؛فقد نجا من كرب عظيم .
زاد انقباض واثق ، وأحس بأنفاسه تتلاحق ، لا يفتأ يتذكر الأسبوع المنصرم ، والخيزران تهوي على ظهر يديه الصغيرتين مراراً وتكراراً حتى أكمل درجة النجاح.
أضحى واثق من الكرام الحافظين، لا يختزن عقله سوى مقرر المواد الاجتماعية ، وأصبحت كتبه لا تنفك يقفلها حتى تنفتح تلقائياً دون أن يمسها ، بالرغم من اجتهاده لم يحظ قط بدرجة النجاح منذ بدية العام، وهكذا اعتاد أن يسلم بقدره ، ويمد راحته لخيزرانة الأستاذ ليلحق بركب الناجحين مضروباً ، الضرب مقابل النجاح، لكن اليوم واثق على يقين إنه من الناجحين ، إنما لا بد من وجود خطأ ما ، فقد أجاب بصورة دقيقة وكاملة ، فلما استثناه الأستاذ؟!
طفق الأستاذ يزعق بالاسم ، ويشبع صاحبه ضربا ، توالت الأسماء ، وتعالى النحيب ، وتكوم المعاقبون على مقاعدهم ،عيونهم تفيض بالدمع وآهاتهم تزيد من تصدع حجرة الصف ، لتتخطى أسوار المدرسة ، وتصل إلى السماء.
راحت الشكوك تخالط واثق ، ومع كل ثانية تمر يفقد إيمانه بما قدم وصنع في الامتحان ، فتجمعت ملامحه عند نقطة واحدة ، وأخذ يدعو الله متضرعاً أن ينقذه من هول ما سيلاقيه .
انفض الجميع من حوله ، وظل بمفرده في مواجهة خيزران الأستاذ ، كانت يد الأستاذ خالية من الأوراق ، فرمق واثق بنظرة قاسية ، وقال له في شماتة :
"عدم وجود ورقة امتحان يعنى أنك لم تمتحن أصلاً ، وهذا عقابه أشد"
شرع واثق بالحديث ، لكن الأستاذ زجره ، وأمره بغلظة أن يمد راحتيه ، ففعل ، حاول هذه المرة أن يبتلع اعتراضه لكنه لم يفلح ، وبقي قاب قوسين أو أدنى ، ارتفعت الخيزران وهبطت ،فشعر بالألم في قلبه ، ارتفعت مرة ثانية ، وهبطت فتمزقت براءته أشلاء ، ارتفعت وهبطت ثالثة ، فتبدد شعوره بالخوف ، وتفجر بداخلة رجل كبير ، ارتفعت وكادت تهبط بالرابعة ، فاستقبلتها يد صغيرة لكنها غاضبة ، قبضت عليها بشدة وانتزعتها من يد الأستاذ وقذفتها خارج الحجرة .
رن جرس الفسحة ، غادر الجميع الحجرة ، وعلى أرضية الصف نامت ورقة امتحان تحمل الدرجة النهائية ، وفي أسفلها كتب بخط صغير وخجول أسم واثق.

سلمى الخيواني
2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى