حسام الدين مسعد - «الإرتجال» في مسرح الشارع

(مسرح الشارع يشتغل علي الإرتجال )مقولة نحتاج الي تفكيكها لبلوغ الدلالة منها
فالإرتجال :-هو« إنجاز عفوي مباشر لفكرة فنيه»
بدأ المسرح الإنساني بالارتجال الفطري الطبيعي الذي كان يتسم بالعفوية والتلقائية والاحتفالية الشعبية ضمن مرحلة الظواهر الفردية، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الحفظ والتنظيم مع مرحلة مأسسة المسرح، وإخضاعه لسلطة التأليف والتشخيص والإخراج والسينوغرافيا. وعلى الرغم من كون المسرح اليوم يقوم على ضبط النص وحفظ الأدوار حفظا دقيقا، إلا أن للارتجال مكانة هامة ومعتبرة في المسرح المعاصر سواء في مسرح الكبار أم في مسرح الصغار؛ لما للارتجال من أهمية كبرى في تكوين الممثل وتدريبه وتأطيره، وإثارة المتلقي ذهنيا، واستفزازه وجدانيا، وإرباكه حركيا، وجذبه للمشاركة في بناء الفرجة المسرحيه بشكل تشاركي. الارتجال هو أول خطوة يلتجئ إليها الممثل لبناء شخصيته الفنية، وبناء ذاته في ركعة التمثيل . ويستلزم الارتجال أن يكون صاحبه ذا موهبة فنية عالية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علي بساط البحث
والذي طرحه صديقي الناقد العراقي حمه سوار
وهو هل الإرتجال يعني موت المؤلف والمخرج بالنسبة لعروض مسرح الشارع التي تشتغل علي الإرتجال؟
فإن كان الإرتجال المسرحي :هو أداء تمثيـلي مرتجل يكون جزءاً من تدريب الممثل أو مرحلة أولية في تكوين دور معين أو جزءاً من عرض مسرحي وقد اعتمد المسرح دائماً ومنذ زمن بعيد على قدرة الممثل على الارتجال في مواقف معينة كما يحـدث في المشاهد الكوميدية بالمسرحيات الدينية ومسرحيات الفارس المستوحاة من التراث الشعبي وكذلك عروض الميلودراما والبانتومايم وفي ملاهي الميوزك.

والمقصود بالارتجال في المعاجم والقواميس الأدبية والمسرحية بأنه: "تقنية تتعلق باللعب الدرامي، حيث يؤدي الممثل أشياء مرتجلة، أي لم تكن مهيأة بشكل مسبق، وتبتكر داخل الفعل المسرحي. وهناك عدة درجات في الارتجال: ابتكار نص انطلاقا من شبكة معروفة بدقة (كما هو الشأن بالنسبة للكوميديا دي لارتي)، واللعب الدرامي انطلاقا من موضوعة أو أمر، وابتكار حركي ولفظي دون الاستناد إلى نموذج، ومخالفة كل التقاليد أو التحطيم اللفظي والبحث عن لغة جسدية جديدة .

ولقد اعتمدت فرق (الكوميديادي لارتا) التي ظهرت في ايطاليا خلال عصر النهضة على تقنية الارتجال قاعدة اساسية لاعمالها المسرحية حيث كان اعضاؤها ينفقون على سيناريو أو خط فعل درامي رئيس يبنون عليه احداث العرض المسرحي الذي يقدمونه للجمهور وعلى الخشبة. يرتجلون الحوار والحركات والتعبيرات المسرحية المختلفة.وكانت حجتهم في ذلك الاستخدام هي ان النصوص المكتوبة سلفا من قبل كتاب النصوص المسرحية المعروفين لا تلبي حاجات المجتمع وتطلعات الجمهور لانها تتحدث عن قضايا لا صلة لها بالواقع ولا علاقة لها بالحاضر وهي مكتوبة بأسلوب ادبي يصعب على المتفرج المسرحي الاعتيادي تقبله لذلك لجأت تلك الفرق إلى استخدام أسلوب الكلام الاعتيادي وبلهجات مختلفة تناسب شخوص المسرحيات المنحدرين من أقاليم مختلفة وتعالج اموراً معاشة من الحياة اليومية للناس.
إن مانشهده اليوم في عروض مسرح الشارع بعالمنا العربي وما شابها من خلط شائع نتيجة هذا الإرتجال الغير مدروس يذكرني بجزءاً من حوار هاملت لفرقته المسرحية /
.«وإذا أسأتم التمثيل وأهملتم في الأداء فسوف تضحكون الجهلاء بينما تزعجون رواد المسرح العقلاء وهم من ينبغي عليكم إبقاوهم سعداء لقد رأيت ممثلين ممن يكال لهم المديح كيلاً ولكنهم -ولا أريد أن أكون شديد الوقاحة في وصفي- لا يستطيعون حتى أن يتحدثوا أو يسيروا مثل البشر.فهم يتبخترون في مشيتهم ويتصايحون ككائنات غريبة تجملت لتبدو مثل البشر لكن لم يزدها ذلك التزين إلا قبحاً »
وبالفعل هذه العروض المبتنية علي ارتجال غير مدروس ولم يعتني صناعها بتقنيات الإداء التمثيلي اضحكت الجهلاء وازعجت العقلاء وافتقدت لرسالة تثقيفيه ذات بعد إجتماعي تفاعلي
وهي في ذاتها تحمل إعلان صريح بموت المؤلف وكذا موت المخرج
إن الإرتجال في مسرح الشارع يختلف كلية عن ألعاب الممثلين الإرتجاليه في المسرح الإرتجالي
فمسرح الشارع يشتغل علي إرتجال ابتني علي دراسات ديموجرافيه وسيسيولوجيه وسيكولوجيه للمتلقي هي المحدد والمكون الرئيس لفكرة عرض مسرح الشارع
والتي يتم صياغتها اوليا من خلال إرتجال عفوي اثناء التدريبات الخاصه بعرض الشارع وتحت مراقبة من مؤلف(دراماتورجي)و مخرج يمتلك مهارات التدريب لمسرح الشارع الي ان يتم الأتفاق علي الشكل الجمالي النهائي للعرض الذي سيطرح علي متلقي الشارع مع الإعتناء بتدريب الممثل علي مهارات التفاعل الإجتماعي واهمها كيفية إدارة حوار مع المتلقي وتأطيره بما يتسق والفكرة المتفق عليها ومجموعة العمل
مع الإهتمام ايضا بتدريب الممثل علي ردة الفعل السريع والإستجابة لأي ظرف قد يطرأ اثناء العرض والناتج عن الطبيعة الإنفلاتيه للمكان الممسرح .
إن مسرح الشارع يكترث لدوري المؤلف والمخرج لكن طبيعة الفضاء المادي الطارئ في عروض مسرح الشارع قد تقتضي إرتجال عفوي لحظي من ممثل مسرح الشارع نتيجة لظرف طارئ اثناء العرض في مكان له طبيعته الإنفلاتيه ومتوقع فيه ظهور مستجدات علي المكان كالضجيج وتداخل اصوات الماره واصوات السيارات والعوامل الجويه وما شابه ذلك تستدعي ردة فعل سريعة وارتجاليه من ممثل مسرح الشارع ولكن داخل سياق العرض
ولذا فإن الإهتمام التكويني لممثل مسرح الشارع هو أمر بالغ الأهميه بالنسبة لعرض الشارع . ويستوجب تعريف لهذا الممثل
*فممثل مسرح الشارع هو« ذلك المبدع الذي يمتلك الموهبة الصوتيه والجسديه والإدراك الحسي وردة الفعل التلقائيه الممزوجة بالخيال وبالإيدولوجيات الثقافيه والتسويقيه التي يشتبك بها مع جمهور الشارع من خلال حوار إرتجالي بعد قيام هذا الممثل بجذب هذا الجمهور المتجمع بشكل عشوائي لمكان العرض مستخدما ذاكرته الإنفعاليه وتجاربه الحياتيه ومهارته الإجتماعيه في احداث تفاعليه تبادليه مع هذا الجمهور و في إطار زمني محدد يلزم الوصل منه إلي غايات معينه تتسق ورسالة العرض ».
اي انني أري من هذا التعريف أن إدراك المتلقي لمسرح الشارع لا يكفي وحده لإحداث التفاعليه وتكوين العلاقة الثنائيه بين المتلقي وممثل مسرح الشارع كأداة توصيليه لرسالة العرض بل يجب ان تكون التفاعليه متبادلة بين الطرفين لا سيما ان مايميز عروض مسرح الشارع عن غيرها من عروض الفرجه في الشارع ان العرض في مسرح الشارع يكترث للحوار المباشر مع الجمهور مستخدما اللغتين الكلاميه والجسديه حتي لا تغيب الدلالة عن الرسالة الإساسيه للعرض.فنفتقد القيمة الجماليه التي ننشدها من عروض مسرح الشارع
بقلم /حسام الدين مسعد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى