سارة صلاح العتيقي - رجل الأخضر المضيء

وقفت عند الإشارة الضوئية الحمراء التي تمثل رجلا واقفا يلتمع باللون الأحمر الفاقع، تنتظر أن تتغير الصورة ولونها لذلك الرجل السائر ذي اللون الأخضر المضيء، انتظرت ومعها عشرات من الناس، وقد كساهم الملل فأخذوا يتسربون بين السيارات السائرة التي علا نفيرها وازداد غضبها لتلك الوقاحة وذلك الاستهتار المطلق.
سيول البشر تغرق الشارع.. تكاد تختنق بينهم.. الحرارة مرتفعة والأنفاس التي ترددت في صدر مئات من الذين حولها تتردد في صدرها الذي تشبع بروائحهم.. أنفاس.. ازدحام واختناق.. هي وحدها.. تنتظر.. (ماذا تنتظر؟).. ربما ذلك الرجل الأخضر المضيء؟ .. ربما.. ربما.. ليس لديها أدنى فكرة ماذا تنتظر، هل هي بانتظار شيء ما؟ أم أنها في طريقها لشيء ما؟ (يكاد الفضول يقتلها كما قتل القط).. ومع ذلك ظلت تقف مكانها.. تنتظر مع المنتظرين.
اختبأ الرجل الأحمر خلف ستار أسود ليشرق الرجل الأخضر بنوره بوجوه المارة مؤذنا لهم بالمرور.. لم تحرك ساكنا.. تدافع الناس يجبرها على أن تتقدم بضع خطوات.. قدماها أبتا أن تطيعا الرجل الأخضر أو تلك الأقدام المتدافعة.. يصطدم بها أحدهم بقوة.. تنتفض.. وكأنها خرجت من حلم عميق.. تنظر له بحدة دون أن تند عنها آه ألم (لماذا تقفين وسط الطريق؟).. صرخ بها.. لم تجب، يبدو أن تلك القطة قد أكلت لسانها قبل أن تُقتل..
(يا ترى إلى أين يسير ذلك الجمع؟ كلٌ في طريقه سائر، ولا يلتفتنَّ أحدهم للآخر وكلٌّ يعلم مسيره.. أو يفعلوا؟ .. أم أن بعضهم مثلي لا يعلم إلى أين أو متى يسير؟ .. ولكنهم خلافا عني فإنهم يسيرون وإن كانوا متخبطين، فذلك خير لهم من الانتظار.. الانتظار؟ (انتظار ماذا؟) الرجل الأخضر المضيء؟) (هاهو أمامك يأمرك بالحراك، فلمَ لا تتقدمين؟) (مثلهم؟) (نعم لم لا تفعلين ما يفعل الآخرون؟) (لأنني لست مثل الآخرين، فأنا لا أسير بأمر الرجل الأخضر ولا أقف بأمر الأحمر).. ( إذا ستصدمك السيارات إن سرت مخالفة لأمرهم).. (إذا فليكن).. (يبدو أنك قد جننت).. (اسكتي وإلا أسكتك بنفسي).. انهت حوارها مع نفسها..
الرجل الأحمر المضيء مرة أخرى يفرض سلطانه على المشاة فيقفون له احتراما وإجلالا، ليأمر الضوء الأخضر للسيارات بالمسير.. أخذت تدفع الناس من عن يمينها وشمالها ومن جميع الاتجاهات وقد تكاثفوا من حولها ثم جلست على الرصيف.. جلست القرفصاء، جَلسَت.. لأنها رأت انه لا يستحق أن تقف له تلك الوقفة الطويلة، جلست لأنها لا تعلم إن كان ما تنتظره هو «شيء ما أو حلم ما» بدلا عن «شخص ما»؟ من المؤكد انه لن يأتي إليها إن لم تسع هي إليه، وإن كان لديها فليست تذكره (إنا هاهنا قاعدون) هكذا قالت لنفسها، وماذا عن ابني وزوجي؟.. ضحكت.. (لم أتزوج كيف يكون لي أي منهم؟).. طالعها الناس من عل باستنكار، ولم تمض دقيقة حتى صاروا يأبهون لها كما يأبه أحدهم لدود الأرض .. لم يكن ذلك التصرف أغرب ما رأوا ها هنا..
تناهى لمسامعها صرير فرامل يحتك بالإسفلت.. دوي ارتطام عنيف بجانبها.. ترتطم بها الذكريات.. هي .. ابنها.. زوجها.. أنفاس .. و.. تختنق .. أقدام .. تختنق.. ظلام.
دقائق .. انفض الناس .. اكتشاف جثة امرأة اختلفت ملامحها ملقاة على الرصيف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى