شاهيناز الفقي - نخلة عزرا.. قصة قصيرة

لم يصدق أحد أنه سيعود مرة أخرى لكنه عاد، كانت النجمة ما تزال متوهجة. داعب الحصى الصغير باطن قدميه وهو يسير ببطء فاستسلم القلب لوخز الذكرى البعيدة.
يوم ولادة العنزة الشقراء التي رفضت أن ترضع من أمها، فاضطر أن يسقيها زجاجة الخمر التي لا تفارق يده، ثملت العنزة وظلت تترنح حتى استكانت روحها بجوار نخلة عزرا. تلك التي تشق قلب الوادي نصفين، أحدهما يحتضن الجبل والآخر يعزف سيمفونية الحياة كلما مسه ماء المطر أو أجساد العذارى اللاتي يأتين يفركن أنفسهن بالطين المقدس، متبركاتً بالنخلة التي تخبر عنها الأسطورة أن المسيح رأى نور الله عندها ونادى من تحتها أمه العذراء "ألا تحزني"، وتقول عنها النبوءة أن عزرا هو رجل سوف يصبأ بأعراف القبيلة فتسيل دماؤه لتروي النخلة التي شهدت لحظات اللذة المسروقة.
في ذلك اليوم حين رآها للمرة الأولى شاهد في المسافة بين ظلها وقلب الواحة الخضراء ظواهر كونية غريبة. رأى وشم الفراشة يتحرر من موضعه أسفل ذقنها ويحلق فوق رأسه، وزهور الأوركيد ترقد في دعة بين خصلات شعرها، استطاع أن يلمس بيديه خيوط الشمس التي تغزلها عيناها وهي تعانق زرقة البحر، لاح له ضوء الفجر يشقشق من بين ذراعيها، ورائحة الياسمين تفوح من خلف عباءة حريرية تحركها نسمات الشفقة بعاشق متيم.
لما أطلقت ضحكتها الأوبرالية من فمها النبيذي، سار خلفها هائمًا، ترقص النجوم من حوله رقصة التانجو، وترسل الضواري قبلاتها في الهواء، راقب الناس بدهشة الجوارح وهي تطير وترسم علامة قلب بجناحيها على وجه السماء. يومها راهن نفسه أن يقتحم بساتين النرجس ويقطف زهر اللوز وينتصر في معركة الحب.
سألها ابنة من؟ قالت إمام المسجد.
هو الحب المستحيل إذن بين ابنة التقي وشارب الخمر.. سقطت الزجاجة من يده، تهشم قلبه وتناثرت شظاياه في الجهات الأربعة. رشقت إحدى الشظايا قلب ابنة العرافة وأخرى أدمت روح زوجة رئيس الحرس فوقعن في المحظور، وثلاث فتيات كن بالصدفة يعبرن الطريق يحملن جرار الماء فوق رؤوسهن مما زاد من سحر قوامهن الممشوق، رأين بأعينهن سهم الحب الطائش وكاد أن يصيبهن في مقتل لولا أن كل واحدة منهن تلف حول عنقها حجابًا ضد الحسد والحزن والحب.
توضأ بماء المطر، وقف في الصف الأول يرتل آي الذكر، فاحت من فمه رائحة الخمر مما أزعج المصلين فاضطر الإمام أن ينهي الصلاة في آيتين، أخبره ان ابنته ستتزوج بمحارب يقتل من الأعداء ألف رجل. اعتلى فرسه وخرج في معارك استمرت سنوات وسنوات وحين عاد ذات فجر وضع بين يدي الإمام ألف أسير وسيف مخضب بدماء ألف فارس، أخبره الناس أن روحها الآن تنعم بين الحور والغلمان.
ذبح فرسه وحرر الأسرى وجلس بجوار الماء يحاول أن يمحو صورتها الموسومة في ذاكرته. جف النبع ولم تمح صورتها. حين زاره طيفها لم يستطع أن يفرق بين الحقيقة والخيال، تمايلت زجاجة الخمر في يده طربًا واستنشق الرمان عبير أنفاسهما فأثمر في غير أوانه، وأصبح من الصعوبة على الناس التعرف على ملامح ظلالهما الملتفة حول بعضها خلف النخلة المباركة.
تكرر الأمر سبعين يومًا.
تعجب الناس من رجل لا يأكل ولا يشرب ويعيش على لقاء الطيف كل ليلة، اتهمه البعض بالسحر، والبعض الآخر بالجنون، بكت ابنة العرافة بحرقة وهي تقول العشق سحر وجنون، في الصباح تضحك زوجة رئيس الحرس وتجلجل ضحكتها وفي المساء تدفن دموعها بين أحضان وسادتها، أما الثلاث فتيات اللاتي نجون من السهم الطائش فقد قطعن على أنفسهن عهدًا ألا يذهبن لنخلة عزرا مرة أخرى.
في غياب البدر عُقدت المحاكمة وبعد المداولة، صدر الأمر بقتل العاشقين، تساءل أحد الحاضرين كيف نقتل الطيف، أرتبك الجميع وعلت الهمهمات كيف نقتل الطيف.. كيف نقتل الطيف، تأجلت المحاكمة سبعين يومًا ثم قال القاضي يخرج من أرضنا الطاهرة وإذا عاد يسفك دمه.
حين عاد سأله أهل الوادي: لماذا عدت وأنت تعلم مصيرك، أجابت عيناه وهو يبحث عن طيفها "اشتقت للقاء". بعدما سالت دماؤه احتفلت النجوم وأطلقت الشهب نحو الوادي فاحترق، أما النخلة فقد استطالت بسرعة تفوق قدرة الطبيعة حتى لامست النجمة المتوهجة.
تناثرت الشائعات أن طيفين عاشقين يلتقيان كل ليلة عند النبع الجاف. رحل الجميع ما عدا ابنة العرافة التي شهدت تحقق النبوءة، وظلت تذكرها لكل عابر سبيل عن عزرا العاشق ونخلته التي تلامس باب السماء.

# شاهيناز الفقي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى