كاهنة عباس - وداعا يا ميمي

هاتي يدك الصغيرة يا ميمي، لأضّمها إليّ ، أتسمعينني ؟ أدرك أنّك تتألّمين ، فأنينك يدوّي بداخلي، ولا أملك الحول ولا القوّة ،حتى أردّه عنك وعنّي . سعيت إلى علاجك ، لكن يبدو أن ساعة فراقنا قد اقتربت ،لذلك سأبوح لك بأسرار لم أبح بها لأحد قطّ .
سأحاول بقدر المستطاع ، أن أختصر حديثي حتّى لا أرهقك ، أن أقول لك ، ما تختلج به نفسي منذ أعوام ، دون إطالة ولا إطناب . فأنا أجهل متى تحلّ ساعة فراقنا ، ربّما بعد دقيقة أو ساعة أو ساعتين أو يوم ، المهّم ، أنّي أشعر باقترابها .
كيف سأبدأ حديثي ؟ فمن عادة البشر، أنّهم يقولون ما لا يفعلون ، وغالبا ما يعتقدون أنّهم على صواب ، يخفون ما يضمرون لتحقيق مآربهم ، ألم تسمعي بذلك الكمّ الهائل من الكلام ، الكلام ، الكلام ، الكلام المنتشر في الأسواق والمقاهي و الشّوارع والبيوت ؟ إنهم يبدؤون بتعليم أبنائهم الكلام ، لأنّه سلاحهم .
لكنّ الكلام، يا ميمي ، سرعان ما يتناثر و يتبدّد حتى يزول ثم ينسى رغم كثرته ، فلو وضع في الميزّان ،لكان مقداره يضاهي وزن الجبال ، أتعلمين مقدار الحقيقة و الصّدق في ما يقال ، يا ميمي ؟ كم يكون حسب رأيك ؟ لم تلازمين الصّمت و لا تجيبين ؟ أيكون سكوتك من باب الخشية ، أم هو من باب التكتّم والتحفّظ ؟ أعلم أنّك لن تجيبيني عن هذا السؤال : كم هو مقدار الحقيقة في كلام البشر ، لا أقصد الحقيقة في معناها الفلسفيّ التجريديّ ، لا ، فاللّحظة التي تجمعنا لا تحتمل النّقاش الفلفسيّ ، ما أقصده ، هوحقيقتهم ، أي حقيقة ما يفكّرون فيه ، وما ينتظرونه وبما يشعرون به ؟
تخيلّي، أن أخرج الآن ، على النّاس ، وأقول لهم : إنّ في كلامهم بعضا من الحقيقة وكثيرا من الكذب والبهتان ، فكيف سيتقبلون حقيقتهم تلك يا ترى ؟
لذلك ، اخترتك يا ميمي ، لأنّك لا تفقهين ما نقوله من كلام ولا تدركين قواعده ولا معانيه ، لا تميّزين بين الخير والشرّ ، ولا ترين العالم من خلال أوهامك وتصوّراتك ، فأنت فقيرة ، يا ميمي ، فقيرة ، لا تملكين مالا ولا جاها ولا لغة ولا فكرا ولا عملا ولا أمنية ولا رغبة تضحّين من أجلها بالغالي وبالنفيس ، لذلك خيّرتك يا ميمي ، على جميع الفقراء.

ميمي، أسمع الآن أنينك ؟ عفوا يا عزيزتي ، أنا أيضا من بني البشر، لا أختلف عنهم كثيرا، لكنّني سأحاول ما استطعت اختصار القول .

كنت أعود كل ليلة ، فأجدك في انتظاري ، ترحّبين بقدومي دون تشكّ ولا تذمّر، فأتكرّم عليك بقليل من الماء وبما تبقّى من أكلي ، أ لا تذكرين ليالينا يا ميمي ؟.كنت ، تقفزين وتدورين ثم تتمدّدين على ركبتيّ، تغنّين لي أغانيك المعتادة وتحيطينني بعطفك وحبّك ووفائك . لقد عرفنا في ذلك الوقت لحظات من السّعادة ، كنت فيها ملاذي من قسوة هذا العالم المجنون ، بل كنت أكثر من ذلك أهلي و ذوي وأصدقائي وأحبّتي ، منحتك ثقتي الكاملة ، وأنا على يقين أنّك لن تخوني عهدي ، مهما فعلت بك ومهما حدث بيننا . لذلك كان لابدّ أن أطلب منك المغفرة.


سامحيني ، يا ميمي ، سامحيني ، لقد كنت سخيّة معي، فالوفاء والصّدق نادران في عالم البشر، وأغلب البشر بخلاء ، يا ميمي ، بخلاء على نحو يفوق الخيال ، يحسبون الماء بالجرعات ، والخبز بالقطع ، و الخضربالكميات ، والنور بالأنابيب وبالشّموع وحتى الزّمن يا ميمي يقسّمونه إلى ثوان ودقائق وساعات وأيام وأشهر وسنوات ، ذلك هو شأن حياتهم القصيرة ، تقدر بأعمار تحسب بعدد السّنين المنقضية ، فالزّمن ثمين لديهم ، لذلك ، فهم لا يعرفون للسّخاء سبيلا ، إذا تكرّموا بشيء من متاعهم ، ثقي، أنّهم سيطلبون، ما هو أثمن وأغلى ، تلك هي نواميسهم وقوانينهم ، ولو كتب لك مغادرة هذا البيت للتجوّل في المدينة ، لرأيت العجب، يا ميمي ، في كل ركن منها ، لافتة كتبت عليها أرقام ، لتقدير كلّ شيء بالمال، لا.... لن أبيّن لك ، قيمة المال وأهمّيته في عالم البشر، فتلك قصّة طويلة وطويلة جدّا ، لا تخصّك ، ولن تدركي معناها ، فقط، أردت أن أقول لك ، أنّ البشر لا يهبون شيئا دون مقابل ، لذلك هم يتكلّمون ويتجادلون ويتخاصمون ، لتعديل ميزان مبادلاتهم ، يعيشون في سوق تجاريّة كبيرة ، قد ازدانت مدنهم وديارهم وحوانيتهم بمضاربات وحسابات لا تنتهي ، إذا فالمسألة معقّدة جدّا ، إنّها سبب مآسيهم من حروب وصراعات وقتال ومظالم ، قد يطول شرحها وتفسيرها، لذلك سأختصر القول بأن وفاءهم نادر ، فمن كان يعدّ سنوات عمره الماضية ، لا يستطيع الإخلاص لا لنفسه ولا لغيره ؟ الخيانة من شيمهم ، وحتّى لا أواجه هذه الحقيقة المرّة ، سأهوّن على نفسي ، سأقول : تكاد الخيانة أن تكون من شيمهم ، فهلاّ تكرّمت بعفوك عنّي ؟ لقد سجنتك طول العمر، فلم تلمحي الشّجر ولا السّماء ولا الشّمس ، إلاّ من وراء نوافذ بيتي ، حين كنت أفتحها ، الآن فقط ، أدركت ما ارتكبته في حقّك من ذنب ، وقد حانت لحظة فراقنا ، كنت أظنّ أننّي أحميك من التشرّد ، ألا يسعى البشر إلى امتلاك أبنائهم وأقرانهم خشية الوحدة والضياع. اعلمي يا ميمي أنّي ، أنا أيضا ، أسيرة هذا البيت ، أعمل كامل اليوم ، حتّى أدفع ثمن مأكلي ومشربي ، ألم أقلّ لك ، أن لاشيء يعطى دون مقابل وإنّها سنّة البشر ؟ كنت رغم سجنك تنامين ، كلّما داهمك النوم ولا تأكلين إلاّ ما يسدّ رمق الجوع ، ولا تغضبين إلاّ دفاعا عن نفسك ، تتجمّلين ساعات كاملة من النّهار ، وتمشين برقّة وبلطف وتقفزين برشاقة ، لا تلهثين وراء أيّ شيء ، لا تفكرين في أيّ شيء ، صدّيقيني، لقد كنت أحسدك على نعمة راحة البال الّتي حرمت منها ، كنت كلّما نهرتك ، تبتعدين عنّي ، ثم تعودين إليّ ، مزّهوة مرحة ، دون أن ينال ذلك من كبريائك ولا من محبّتك ولا من وفائك لي ، أخبريني بسرّك يا ميمي ، أخبريني ، كيف استطعت التحلّي بكل ذلك الصّبر ؟ بكلّ تلك المحبّة والوفاء، بكلّ تلك الحكمة والسّخاء ؟ ماذا كنت تفعلين ؟ وكيف كنت تدركين عند زيارة أقاربي، من كان منهم يكنّ لك البغضاء والكره ، فتختفين فجأة ، كأنّك لا تريدين أن ترينه أو أن يراك ، ومن منهم كان يكنّ لك الودّ، فتخرجين للترحيب به ؟ كيف كنت تدركين سريرة الآخرين ، وأنت أسيرة لم تغادري بيتي قطّ ، جاهلة بلغة البشر وبطبعهم ؟ كيف ، كنت تدركين وجعي ، حين يصيبني المرض والوهن ، فتمكثين بقربي ، لا تفارقينني، حتى أغادر فراشي في صحّة وعافية ؟ كيف كنت تدركين كلّ ذلك دون معرفة ولا تجربة و لاتلقين ، أبفضل صدقك ؟ سبحان الله يا ميمي ، سبحان من خلقك .
ها أنّك تضعين رأسك على يدي الآن ، أهي إشارة منك ، بقبول اعتذاري والصّفح عنّي ؟
طيّب يا ميمي ، طيّب ، أتذكرين تلك لحظات ،عندما كنت تتابعين أنفاسي بين لحظتي استنشاق واستنثار وأنت مستلقية على بطني ، كنت تكتشفين آنذاك ، ما يجول بداخلي من توتّر وخشية وانتظار وحبّ ويأس ترصدين تقلّبات جسدي واهتزازته حسّا ونبضا ورائحة ، أ يكون عرفانك الفطريّ ، هو الّذي جعلك

مستغنية عن كلّ معرفة أو علم ، قادرة على تمييز الحبيب من العدوّ، مكتفية بعالمك الصّغير ، بعيدة عن النّاس ؟ أ يكون ذلك هو سرّك المكنون يا ميمي ؟ أليس كذلك يا ميمي؟ اعلمي ، أنّي رغم بلوغي أعلى درجات المعرفة ، كنت أجهل ما تدركين ، فالبشر، يا ميمي ، لا يحتكمون لا إلى العقل ولا إلى الفطرة، يدعون الترفّع عن غرائزهم ومع ذلك لم يفلحوا إلّا في تشييد صرح من المثل ، قوامه الكلام والفكرالمتناثران المتناقضان والزائلان .

أرى في نظراتك بريقا ضئيلا يشعّ منها ، رغم هول آلام الاحتضار، أليس كذلك يا ميمي ، أتكون رائحة جسدى وأنفاسي هي الّتي بعثت فيك الحياة ؟ أيتّها العزيزة الغالية ، إنّي أحتاج إلى خشوع صامت ، حتّى أطلب لك الرّحمة ، فلن أراك بعد اليوم ، لن أراك أبدا ، سترحلين بعيدا ،عن هذا العالم بعيدا عنه وعنّي ، وسأبقى وحيدة أناضل ، كعادتي من أجل دنيا أفضل وأجمل، سترحلين عنّي ، أليس كذلك ؟

ألا أمل لي في أن أشهد نجاتك من الموت فتأجلّ لحظة فراقنا إلى الغد البعيد ؟ أم أنّ قدري هو فراق جميع الأحبّة ؟

لو بقيت معي يا ميمي ، سأرحل عن هذه الشقّة ، ونسكن بيتا شاسعا به حديقة ،تملؤها الأشجاروالزّهور، ترتعين فيها وتمرحين ، أعدك بذلك ، إن استطعت التغلّب على المرض ومقاومة الموت من أجل البقاء قربي، سأمنحك كلّما تشتهين ، سأكون سخيّة معك ، حتّى أراك ولو مرّة ، تتسلّقين الأشجار و تتمرّغين على زربيّة خضراء من الأعشاب والأزهار، تنعمين بضوء الشّمس الّتي حرمت منها طوال حياتك ، أعدك بأنّي سأبذل المال والجهد والوقت من أجل إسعادك ، اعترافا لك بالجميل ، أعدك أنّي لن أخلف لك وعدا حتّى لا نفترق.
فمن طبع البشر، يا ميمي ، حبّهم المفرط لذواتهم ، فهي الآمرة و النّاهية و المستبدّة و الطّاغية أ تعرفين يا ميمي أنّ أزهار النرجس البيضاء ، سميّت باسم رجل عشق ذاته وهو يتأمّل ليلا نهارا صورته المنعكسة على صفحة الماء حتّى الفناء ، قد خلّدت ذكراه في ما يروى من أساطير. يصعب عليّ الاعتراف بأنّ البشر استباحوا دم جميع المخلوقات يا ميمي إرضاء لغرورهم ، فالوقت ضيّق ، وأنت بين يديّ تغيبين بين الفينة والأخرى ، تقاومين سكرات الموت الأخيرة ، لم يبق لدي أي خيار، ولا أريد أنّ أحتفظ لنفسي بهذه الحقيقة المرّة بعد فراقنا : لقد كنت أتوهّم أنّك خلقت من أجل إسعادي ، لتخفّفي عنّي وطأة الوحدة ، وأن لا جدوى لوجودك من دوني ، كنت أظنّ نفسي أفضل البشر فأتجنّبهم ، صحيح أنّ الدنيا ظلمتني ، ولكن ، لا أنكر أنّني أيضا ظلمت غيري من النّاس. فأنا لا أختلف عن بني جنسي ، يا ميمي ، أشبههم تماما ، لذلك لم أفكّر مرّة في أن أغادر الشقّة ، لأستقّر في بيت آخر، به حديقة ،تخرجين إليها للتمتّع بالضّوء وبالهواء ، لأحرّرك من سجنك.
أما عن مشاعر البشر، فإنّها يا ميمي متقلّبة ، تنتظر اعتراف الأحبّة ومودّتهم و وفائهم وتملّكهم و اشتياقهم ، أصدقاء كانوا أو أشقاء أو أزواجا أو آباء ، قد لا أستثني منها إلا محبّة الآباء لأبنائهم ، لأنّها غالبا ما تكون أكثر دواما وسخاء من غيرها ، أعلم أنّك تجهلين ويلات الانتظار ، وما يبعثه من قلق وتوتّر ويأس وخيبة ظنّ وانكسار، وحتّى تتبيّني مقصدي ، سأشبه لك محنة البشر في بحثهم عن المحبّة ، بقصّة ذلك المسافر الذي قطع الوديان والبحار و البلدان بحثا عن ياقوتة أصليّة ، لكنّه توقّف قبل نهاية الرّحلة ، حين عثر على قطعة من زجاج بهره بريق الشمس المنعكسة عليها ، فما إن شرع في تقليبها حتّى رماها ليواصل البحث عن غيرها ، لانّه لم يبحث عنها داخل ذاته .
ميمي، لقد تعبت من الحديث يا عزيزتي ، بعد أن أرهقني الحزن ، أحسّ بالاختناق ، ما رأيك لو خرجنا إلى الشّرفة حتّى تنزاح عنّي شدّتي ويزول توّتري ؟ ربّما تتحسّن حالتك أنت أيضا ، حين تلمحين زرقة السّماء وأشعّة الشّمس ؟ أنا في حاجة إلي قليل من الصّمت ، لأتقبّل رحيلك ، ها أنت الان تفتحين عينيك قليلا وتتحرّكين من جديد . لا لن أجرّعك قطرات من الدّواء الّذي وصفه لي البيطريّ ، يا قطّتي العزيزة ، لقد عاد إليّ الهدوء والسكينة بعد استنشاق الهواء وارتياحي قليلا . سنغادر البيت حالاّ ، حتّى نقوم بفسحة ، نتأمّل فيها معا جمال الطّبيعة ونستمع إلى خرير الماء وهو يشقّ جدولا صغيرا، فننسى ما دار بيننا من حديث ، ونخفّف من حزن هذا الفراق الأليم .
سنخرج حالا ، يا ميمي ، لنذهب معا إلى منتزه قريب ، ستزعجك هزّات السيّارة وسيقلق راحتك ضجيج المرور، ونحن في طريقنا إلى المنتزه ، أعلم ، أنّك تبغضين المكوث داخل صندوقك ، لكن اطمئنّي ، لن يطول سفرنا سيكون قصيرا ، تحملّي قليلا ، أراك تدفعين قضبانه لتتحرّري من سجنه ، كما كنت تفعلين قبل مرضك .
ها ،أني أسمع مواءك من جديد ، تريّثي بضعة دقائق فقط ، ها قد وصلنا ، سنجلس هناك ، على ذلك المقعد قبالة تلك الشّجرة العريقة ، هناك سنجلس ، سأضعك على ركبتيّ كالعادة ، وسأحقّق لك أجمل آمانيك ، إنّها رؤية العالم قبل الوداع الأخير .
ميمي أين أنت ، يا ميمي ، أين ذهبت ؟ إنّك تحتضرين ، فأين ذهبت ؟ ميمي ، في أيّ ركن اختفيت ، أ تحت هذه الكومة من الشّجيرات المنحنية على الأرض والمملوءة بالأشواك اختبأت؟ كيف انسحبت من تحت يدي، هل قفزت في غفلة مني، ثمّ غبت عن نظري .عودي إليّ يا ميمي ، عودي إليّ ، سأنتظرك هنا ، في هذا المكان ، الّذي أطلقت فيه سراحك ، لن أبرحه حتّى تعودي ، إنّي في انتظارك يا ميمي ، في انتظارك يا قطّتي العزيزة ، حتى يكتمل وداعنا الأخير، فأستريح .



كاهنة عباس، نشرت بالمجموعة القصصية بعنوان "كش مات" .




كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى