د. محمد سعيد شحاتة - سيرة الأنثى بين الاستلاب والقهر.. قراءة في قصة (غنايم) للدكتورة كاميليا عبد الفتاح (الجزء الثالث)

الثنائيات الضدية وأثرها في إنتاج الدلالة
تسيطر على القصة مجموعة من الثنائيات الضدية التي تتحكم في إنتاج الدلالة، فمنذ اللحظة الأولى تخبرنا القصة أننا أمام موقفين متضادين، كل واحد منهما يسير في اتجاه عكس الآخر تماما، ولا يمكن أن يلتقيا إلا بهزيمة أحدهما، أو انكساره، أو تراجعه، تقول القصة (تتسللَ خارجَ البيت أثناء غفوته، إذ كان أخوها"سليمُ" هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولةَ - أو الليل - قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة، فتنشطُ غنايم تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصلَ إلى أطراف بلدتها الغافية، تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل حيثُ يعيشُ، العايق، ويربضُ بجوار شعلةٍ بعينها، تهرولُ غنايمُ إليها وهي تستشرفُ لهيبها كأنها تبتهلُ للنار) لقد بدت الثنائيات الضدية على المستوى اللفظي، وعلى المستوى الدلالي، فعلى المستوى اللفظي اشتملت الفقرة السابقة على مجموعة من الألفاظ المتضادة التي تنتج مواقف متضادة، فسليم قابع في البيت أما غنايم فإنها تتسسلل خارج البيت، وسليم يدهمه سلطان النوم بغفوة إجبارية تسقط فيها رأسه بين كتفيه كأنه تلقى طعنة مفاجئة، أما غنايم فإنها تنشط بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصل إلى أطراف بلدتها، إنه موقف معاكس تماما لموقف سليم القابع في البيت، وهذان الموقفان المتضادان ناتجان عن رؤيتين متضادتين أيضا؛ فرؤية سليم الحفاظ على أخته غنايم والتضييق عليها قلقا عليها وارتيابا منها، أما رؤية غنايم فهي الانطلاق إلى أبعد مدى في رغبتها في التحرر من قبضة سليم الصارمة، وهو ما عبَّر عنه العايق في قوله تبريرا لتصرفاته مع غنايم (تشرب معاي لغاية ما تعمى و تنسى خوفها من سليم) وقد عبَّرت القصة عن الموقف نفسه في موضع آخر حين قالت (لم يكن يراها حين يصحو من غفوته إلَّا بالقرب من دربِ الثعابين) في الوقت الذي كان نائما كانت هي تنشط، إن تكرار التأكيد على هذا الموقف من القصة يكشف مدى أهميته في الدلالة التي تريد القصة إبرازها للمتلقي، وغرسها في ذهنه، وتبرز الثنائية الضدية كذلك في موضع آخر من القصة (. ظهرتْ"غنايم" أوّلَ الشارعِ تمشي في تؤدةٍ مريبة .. وفي عينيها ووجهها اعترافٌ أرهقهُ الخوف .. حدّقَ سليم فزعًا في عينيها، في ثوبها المعفّر بتراب الجبل، في المِزَقِ التي برزَ منها فخذاها وهي تحاولُ لملمَتها بكفّ مرتعشة.. أسرعَ إليها مُفلِتًا من ذراعيّ أبي.. انقضَّ على شعرها الذي أفلتَ من قبضته لأول مرة بعد أن فرده دهنُ الثعبان ، أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ) ففي الوقت الذي تمشي فيه غنايم في تؤدة مريبة، وفي عينيها ووجها الاعتراف بما حدث كان سليم يحدِّق في عينيها فزعا؛ ليقرأ الرسالة واضحة بأنها قد سلمت نفسها للعايق، فهل كانت غنايم مهتمة بما فعلت أو بنتائجه؟ تخبرنا القصة بأنها لم تكن مهتمة (غنايم لم تبكِ حين ضربها سليمُ بقسوة، لم تبكِ حين سمعتِ النساءَ يتضاحكن عابثات، وهنّ يتخيّلن وجهَ "العايق" المليح فوق وجهها الدميم، لكنها حين تناهت إليها كلمات العايق عنها) إنه امتداد للموقفين المتضادين/موقف سليم وموقف غنايم، لقد فعلت ما فعلت وهي تعلم تماما النتائج المترتبة عليه، ولكنها كانت غير مكترثة إلا بموقف العايق فقط؛ فهو الوحيد الذي كان يمثل لها الوجه المشرق للحياة التي تحياها من خوف يمثله سليم وسلطته القاسية، وهنا الثنائية الضدية الثانية، وهي العايق وغنايم، وقد عبَّرت القصة عن ذلك بقولها (وهنّ يتخيّلن وجهَ "العايق" المليح فوق وجهها الدميم) فعلى المستوى اللفظي التضاد بين لفظي (المليح – الدميم) وعلى المستوى الدلالي موقف العايق من غنايم، وموقف غنايم من العايق، وقد تجلى ذلك في حديث العايق عنها حين حاول تبرير ما فعله، وموقف غنايم حين بلغها حديث العايق عنها، ففي الموقف الأول/العايق من غنايم نجده يقول (جاتني برجليها .. لازمتني كِيف الكلب ..تشتري لي عَرَق البلح والبيرة ..تشرب معاي لغاية ما تعمى و تنسى خوفها من"سليم" .. وأنسى خِلقِتْها الشِّينة وشعرها اللي حيفضل طول عمره في عيني أكرت .. أنا اتصدَّقتْ عليها باللي حصل بيني وبينها .. تحمد ربنا إنها شمِّتْ عَرَق راجل) يتجلى موقفه المستغل لحب غنايم على مستويات متعددة: الأولالتبرير غير المنطقي قيميا وأخلاقيا، وهو تبرير يدينه أخلاقيا ومجتمعيا (جاتني برجليها) فليس معنى أنها ذهبت إليه معلنة حبها له أنه يستغلها ويهينها، ولكنه منطق المستغل الذي يرى في حبها له فرصة للانقضاض عليها، ويستمتع بها دون النظر إلى مشاعرها وأحساسيسها الإنسانية، والمستوى الثاني الوصف المهين لها (لازمتني كيف الكلب) وكان الأولى به أن يحترم رغبتها في ملازمتها إياه، أو أن يتركها ويبلغها بعدم رغبته في العلاقة معها، ولكنها أيضا السلطة الذكورية في صورتها المستغلة؛، فقد رأى في رغبتها فيه وحبها له فرصة لاستغلالها، وإشباع رغباته، المستوى الثالث المغالطة الأخلاقية السافرة حين يرى فيما فعل تكرما عليها (تحمد ربنا إنها شمِّتْ عَرَق راجل) وهنا تتجلى الصورة الاستغلالية للسلطة الذكورية في وجهها القبيح المستغل، ثم يختم العايق حديثه بما يدل على أنه كان يعلم تماما أنه يستغلها (أنسى خِلقِتْها الشِّينة وشعرها اللي حيفضل طول عمره في عيني أكرت) فنظرته لم تتغير لها منذ البداية ولن تتغير، وقد بدا ذلك في قوله بأن شعرها سيظل في عينيه أكرت، أي أن صورتها القبيحة لن تتغير أبدا، ومن ثم كان الأولى به أن يتركها منذ البداية، ولا ينتهك شرفها، وشرف أهلها، أما الموقف الثاني/غنايم من العايق، وهو الجانب الثاني من الثنائية الضدية، فقد كانت غنايم صادقة في حبها له منذ البداية، ورأت فيه الرجل الذي يمكن أن يحميها من بطش سليم وسلطته القاسية، ويمكن استنتاج ذلك من كلام العايق نفسه حين وصفها بأنها لازمته، وكانت تشتري له عرق البلح والبيرة، كما يمكن استنتاجه أيضا من موقف غنايم حين بلغها حديث العايق عنها (حين تناهت إليها كلمات العايق عنها فرفرت كالفرُّوجة الذبيحة .. صرخت صرخةً واحدةً، وقعت على الأرض، ولم تتوقف بعدها عن العويل، كانت تئنُّ وتبكي بصوتٍ مسموعٍ، تحوّل بعد ثلاثة أيامٍ إلى صوتٍ مشروخ مبحوح، أدمته قيودُ السلسلة التي تعلّقَ فيها) لقد فقدت الرغبة في الحياة حين فقدت الثقة في العايق/معشوقها، ورأيه فيها، لقد شعرت في هذه اللحظة أن الحياة كلها لا قيمة لها، وقد تجلى ذلك في مجموعة من الألفاظ المختارة بعناية (تئن – صوت مشروخ – مبحوح – فرفرت – الفروجة الذبيحة – العويل) وكلها ألفاظ تدل على الشعور بالقهر الشديد، ثم تختم القصة الوصف القاسي لغنايم بقولها (ولم تكف عن النباح) ولفظ (النباح) دال بوضوح على الحالة النفسية التي وصلت إليها غنايم بعد فقدانها الرغبة في الحياة بعد سماعها رأي العايق فيها.
لقد كانت الثنائيات الضدية كاشفة بوضوح عن الصراع الذي حكم المجتمع/مجتمع القصة، وتحكم في تصرفات أفراده، كما كانت كاشفة أيضا عن الترهل الذي أصاب المجتمع، والتفسخ في العلاقات بين أفراده رغم ما قد يبدو ظاهريا من تماسك هذا المجتمع ولكنه تماسك هشٌّ لا يصمد أمام أية ريح يمكن أن تهاجمه، كما كانت/الثنائيات الضدية كاشفة أيضا عن الوجه القبيح الاستغلالي للسلطة الذكورية، فضلا عن النظرة إلى المرأة التي تراها مجرد شيء لا قيمة له، وأن مشاعرها لا قيمة لها، ومن ثم يمكن استغلالها بأبشع صور الاستغلال.
التطابقات الدلالية
لجأت القصة إلى آلية التطابقات الدلالية في إنتاج الدلالية، وقد اتضح ذلك في أكثر من موضع، ومن ذلك التطابق بين التحدي الذي قامت به غنايم لسلطة سليم وتحدي الباصق لسليم، تقول القصة في وصف الباصق وهو يلتهم الفرُّوجة (تدلّتْ ساقاها من فمه الذي كان يزداد اتِّساعا كأنه سيبتلع "سليم "ذاته .. زحفَ بها ببطءٍ كأنه يتحدّى سليم أن يستطيعَ منعَه من اقتيادها علانيةً إلى بطن الجبل) فالباصق يلتهم الفروجة أمام سليم، وينظر إليه في تحدٍّ واضح أن يمنعه مما يفعل، وهي الفكرة نفسها/تحدي سلطة سليم التي تقوم بها غنايم في مواجهة بطش سليم وصرامته (تنكسرُ عينُه، يتوهج وجهه الأسمر كالفخار في نار القمائن ، يُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر "غنايم " في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ – تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصلَ إلى أطراف بلدتها الغافية، تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل حيثُ يعيشُ، العايق) ففي الوقت الذي ينفجر الغيظ من عينيْ سليم نجد غنايم تسير بتأوُّد وشرود وكأن الأمر لا يعنيها، كما نجدها تخرج من البيت كدودة جائعة شرهة حتى تصل إلى رأس الجبل حيث العايق، وهو تحدٍّ واضح لسلطة سليم، وهو الموقف نفسه الذي ظهر من الباصق، والغرض من ذلك إظهار ضعف تلك السلطة وترهلها رغم ما قد يبدو عليها من مظاهر قوة وصرامة وقسوة، ولكنها مظاهر وهمية أو متوهَّمة، وقد ظهرت وهميتها في ردود فعل سليم/السلطة الذكورية على التحدي الذي يواجهه، ففي حالة الباصق وجدنا رد فعله على مستويين الأول أنه لم يتوقف عن حرق شعر الماعز والشيح حتى لا يجرؤ الباصق صاحبُ العينين الواسعتين أن يتسللَ إلى بيته في غفلة منه، المستوى الثاني الشعور بالفرحة كَمنْ أخذ ثأره كلّما سمع صياحَ الصبية في الشارع، وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل، يضربون رأسه في الحائط، وينزعون أنيابه، ثم يهرعون بسُمّه إلى صاحب (الأجزخانة) الذي يشتريه منهم بقروش قليلة، وفي الحالين لم يكن سليم/السلطة الذكورية فاعلا بالمعنى الحقيقي للفعل تجاه التهديدات المحدقة بسلطته، ولم يستطع مواجهة تلك التهديدات إلا بالخرافة أو الفرحة لما يفعله غيره/الأطفال مع الباصق، أما في حالة غنايم فإننا نجده تنكسرُ عينُه، ويتوهج وجهه الأسمر كالفخار في نار القمائن، ويُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر "غنايم " في أول الشارع. ومن التطابقات الدلالية أيضا التطابق بين الاسم والدلالة في لفظ (غنايم)، لقد تحدثنا في بداية الدراسة أن لفظ غنايم لفظ ذو حمولات قبائلية ودينية مرتبطة بالحروب والصراعات، والغنائم التي تعقب الانتصار لأحد الأطراف، وقد تجلت تلك الدلالة في حركة المعنى في القصة من خلال الصراع الدائر بين السلطة الذكورية والمقهورين الواقعين تحت هذه السلطة، وتحوُّل غنايم بعد قهرها على يد السلطة الذكورية بوجهيها القاهر والمستغلّ إلى ما يشبه الغنيمة، فبالنسبة للوجه القاهر للسلطة نجدها قد وقعت غنيمة لهذه السلطة بعد قهرها من خلال ربطها بسلسلة إلى الحائط ثم خضوعها في النهاية، فلم يعد سليم بحاجة إلى ربطها، وهي لم تعد في حاجة إلى المغادرة بعد قهرها على يد العايق فتحولت بذلك إلى غنيمة لسلطة سليم القاهرة، وأما بالنسبة للوجه المستغل للسلطة الذكورية فقد تحولت إلى غنيمة لهذه السلطة منذ البداية؛ فالعايق منذ اللحظة الأولى لعلاقته بغنايم كان ينظر إليها على أنها غنيمة ينبغي استغلالها، وقد وضح ذلك في نهاية القصة حين اعترف باستغلاله لها. لقد تطابقت دلالة اللفظ غنايم بحمولاته المتوارثة مع أحداث حياة غنايم التي أصبحت غنيمة الصراع الدائر بين سلطة ذكورية متحكمة وامرأة تحلم بالخلاص من قيد تلك السلطة، وفي النهاية تنتصر السلطة الذكورية فكانت غنايم/المرأة غنيمة هذا الصراع، والموقف التالي الدال على التطابق الدلالي ما ورد في نهاية القصة (أقسمت العجوز التي كنا نطحنُ في رَحَاها الغَلَّة، ونجلس حولها نحدقُ في انكسار الحبوب بين أضراس الرَّحى، أنَّ غنايم لم تبكِ حين ضربها سليمُ بقسوة، لم تبكِ حين سمعتِ النساءَ يتضاحكن عابثات، وهنّ يتخيّلن وجهَ "العايق" المليح فوق وجهها الدميم، لكنها حين تناهت إليها كلمات العايق عنها فرفرت كالفرُّوجة الذبيحة) فإذا تأملنا الرحى وهي تطحن الغلة وتكسرها بين أضراسها القاسية التي لا ترحم تلك الحبوب وغنايم وهي مطحونة بين أضراس السلطة الذكورية بوجهيها القاهر والمستغل، إذا تأملنا الموقفين سندرك كم المعاناة التي تطحن روح المرأة، وتملأها بالشقوق والأخاديد، وكمية الاستلاب والقهر في مجتمع تحكمه تقاليد صارمة، وتقوم على هذه التقاليد سلطة ذكورية قاسية ومستغلة. إن التطابق الدلالي واضح جدا بين صورة الرحى وهي تطحن الحبوب وصورة غنايم المطحونة بين أضراس الاستلاب والقهر، وصورة المجتمع المستلب والمقهور بكافة مكوناته، حتى من بدا يمتلك سلطة قاهرة فهو واقع تحت الاستلاب والقهر بشكل من الأشكال.
التشكيل البلاغي وأثره في إنتاج الدلالة
سوف نتوقف في هذه الزاوية من الدراسة أمام بعض الصور البلاغية الواردة في القصة محاولين اكتشاف علاقتها بالإطار العام للرؤية التي أوضحناها سابقا، وكذلك علاقتها بالدلالة العامة للشخصيات؛ فقد تعاضدت الآليات جميعا للكشف عن الرؤية المتخفية خلف العلاقات اللغوية، والانحيازات الجمالية في القصة، وإذا كنا سنختار صورة بلاغية محورية لكل موقف فإننا سنتوقف مع بقية الصور البلاغية الواردة في الفقرة لبيان كيفية تعاضدها مع الصورة المحورية في الكشف عن ملامح الرؤية والعلاقات المتشابكة بين هذه الصور كأنها شبكة موازية تماما لشبكة العلاقات اللغوية، ومن ذلك التشبيه في العبارة التي تصف غنايم وهي تخرج من البيت متجهة إلى الجبل حيث العايق (تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصلَ إلى أطراف بلدتها الغافية، تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل حيثُ يعيشُ، العايق، ويربضُ بجوار شعلةٍ بعينها، تهرولُ غنايمُ إليها وهي تستشرفُ لهيبها كأنها تبتهلُ للنار) تحاول القصة من خلال التشبيه في العبارة السابقة الكشف عن ملامح شخصية غنايم، وقد جاء التشبيه مكتمل الأركان يشتمل على مشبَّه/غنايم، ومشبَّه به/دودة، وأداة تشبيه/الكاف، ووجه شبه/التلوي بين الأزقة/ وإذا دققنا النظر في البداية نجد أن طرفيْ التشبيه حسيان؛ فالمشبه هو غنايم والمشبه به الدودة، واستخدام الجانب الحسي في التشبيه يعمق المعنى في الذهن؛ لأن الشيء المحسوس يكون حضوره راسخا، فهو واضح الملامح تتعامل معه الحواس، وهي أشد الآليات توكيدا لليقين، ولذلك قيل: إن الدليل اليقيني دائما يعتمد على المحسوسات، فإذا أضفنا إلى ذلك ذكر كافة أركان التشبيه تتضح لنا ملامح الرؤية والهدف من استخدام هذا التشبيه بهذا الشكل والمكونات، فمن حيث الدلالة المباشرة يحمل استخدام الدودة كمشبه به دلالة التقليل والاستهانة بغنايم والتحقير من شأنها كأنها شيء غير منظور من حيث القيمة، فهي دودة، كما أنها ليست ذات نفع، والتخلص منها عادي في تلك البيئة، بل مألوف، ومن حيث الدلالة غير المباشرة فإن القصة تريد محاصرة كافة ملامح الرؤية لغنايم بحيث لا يشذ عنها ملمح من الملامح، ثم تأتي الألفاظ المساعدة لإتمام الدلالة، ومنها (الأزقة – المظلمة – الحارات – الضيقة – جائعة – شرهة – الغافية – مبتهلتين – أضواء الشعل – العايق – تهرول – تستشرف – تبتهل) فمن حيث الدلالة نجد الألفاظ ذات حمولات دلالية عميقة تغرس في الذهن ملامح الرؤية المرادة من التشبيه، فوصف الأزقة بالضيق والإظلام يدل على ما تحمله من حكايات مغروسة في النفوس، ولكنها لا تخرج إلى النور؛ لأن البيئة وسلطتها الذكورية لا تسمح بذلك، ونعلم في الذاكرة المصرية والعربية أن الحارات الضيقة توحي بقرب المسافات بين البيوت، ومن ثم فإن الحكايات تكاد تكون معروفة عند سكان هذه البيوت؛ فالأصوات داخل هذه الحارات والأزقة لا تخفى عن الجميع؛ فالمسافات الضيقة تعطي الفرصة للجميع أن يتسمَّع على الجميع، ومن ثم فإن حكاية غنايم لا تخفى عن سكان هذه الحارات والأزقة، مثلها مثل الحكايات الأخرى للسكان، كما يمكن أن يشير وصف الأزقة بالضيق إلى ما يقوم به المجتمع من التضييق على المرأة، ويشير الوصف بالإظلام إلى أن غنايم تسير في طريق مظلم لايمكن الحصول فيه على نتائج مرجوة، وبذلك تحكم القصة منذ البداية على غنايم بالفشل والدمار، أما اللفظان (جائعة شرهة) فيدلان على الرغبة الملحة لدى غنايم في الخروج من الواقع الذي تعيشه، ولم تكتفِ القصة بالوصف (جائعة) بل أردفت ذلك بلفظ (شرهة) وهنا لابد من التوقف أمام هذا اللفظ؛ لأن دلالته المعجمية تحتاج إلى إيضاح لما يتصل ذلك بالدلالة المعنوية المرادة، فقد ورد في لسان العرب (الشَّرَهُ: أَسْوَأُ الحِرْصِ، وهو غلبة الحِرْصِ، شَرهَ شَرَهاً فهو شَرهٌ وشَرْهانُ. ورجل شَرهٌ: شَرْهانُ النفس حَريصٌ. والشَّرِهُ والشَّرْهانُ: السريعُ الطَّعْمِ الوَحِيُّ، وإن كان قليلَ الطَّعْمِ. ويقال: شَرِهَ فلانٌ إلى الطعام يَشْرَهُ شَرَهاً إذا اشْتَدَّ حِرْصُه عليه. وسَنة شَرْهاء: مُجْدِبة) الملاحظ في الدلالة اللغوية أنها تشتمل على جانبين الحرص (الشره أسوأ الحرص) والجدب (سنة شرهاء مجدبة) وهاتان الدلالتان هما المتضمَّنتان في شخصية غنايم الواردة في الفقرة السابقة المشتملة على التشبيه؛ فهي حريصة جدا على الخروج من قوقعة النظرة المهينة للمرأة، وتسلط السلطة الذكورية، كما أن روحها مجدبة تحتاج إلى الارتواء، وقد جاء الجدب من منظرها الدميم وشعرها المتجعِّد الذي لم تستطع إلانته، وجسدها الأعجف، ونظرة النسوة لها، وحديثهن الدائم عنها، ثم لهفتها إلى الارتواء بسبب عزوف الرجال عنها، وهو ما عبَّر عنه اللفظان (أضواء الشعل ) إذ يمثلان الهدف المرجوّ، والأمل المرتجى، وفي هذا الإطار نقرأ اللفظ (مبتهلتين) في الجملة التالية (تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل) أما اللفظ (تبتهل) فإنه يحمل معنى التوسل والتقرب، إنه طقس ديني أسطوري، يحيلنا مباشرة إلى الطقوس الفارسية في عبادة النار والابتهال لها، وقد احتاطت الكاتبة في الجملة من الدلالة التعبدية التي قد تُفهم من الجملة فقالت (كأنها تبتهل) أي أنها أرادت أن تشير إلى دلالات الفعل وطقوسه وليس إلى العبادة نفسها؛ لتنجو بذلك من المحذور الديني الذي قد يتهم البعض به غنايم التي بدت في التشبيه السابق ومتلازماته أشبه بالولهان التائه الذي يتبتل في حضرة المراد، وتزداد الدلالة وضوحا حين ينضم التشبيه الآخر الوارد في الجملة التالية مباشرة (كان الطريقُ المؤدي إلى الجبلِ أفعوانيًّا مرهقًا، مليئًا بالحجارة) فإذا كانت غنايم كدودة جائعة شرهة تتلوى بين الأزقة والحارات الضيقة فإن الطريق كان كالأفعوان، فتكتمل بذلك الدلالة، وما يحمله التشبيه هنا من دلالة واضح للمتلقي؛ فالأفعوان ذكر الأفعى كما ورد في المعاجم العربية، وفي المعجم الوسيط (الأفْعَى : حيَّة من شرار الحيَّاتِ، رقْشَاءُ، دقيقَةُ العُنُقِ، عريضَةُ الرّأس، قاتلَةُ السُّمِّ) وهنا تتضح الدلالة المعنوية لاستخدام التشبيه فالطريق كالأفعوان بما يحمله ذلك من مخاطر قاتلة حملها استخدام لفظ (الأفعوان) فإذا أضفنا هذا التشبيه إلى التشبيه الأساسي المذكور في بداية الكلام/تشبيه غنايم بالدودة تنكشف الدلالة كاملة، وهنا لابد من الإشارة إلى ملحوظة مهمة ذات صلة بالدلالة وهي أن مجموعة الألفاظ التي يتشكل منها التشبيهان السابقان (تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة – كان الطريقُ المؤدي إلى الجبلِ أفعوانيًّا) ذات مرجع واقعي، ينتمي إلى البيئة التي تشكلت فيها أحداث القصة، أي أننا يمكن أن نفهم دلالة هذه الألفاظ من خلال رجوعنا إلى البيئة التي تشكلت فيها لاكتشاف الخلفية الدلالية لهذه الألفاظ، وقد لاحظنا أن هذا المرجع الذي تنتمي إليه هذه الألفاظ مرجع مادي محسوس (دودة – أفعوان) فالدودة والأفعوان موجودان بالفعل في تلك البيئة الصعيدية التي يعانقها الجبل الذي يضم المطاريد بين جنباته، وإذا دققنا أكثر سنجد أن القصة وصفت غنايم بالدودة والطريق بالأفعوان، وبينهما بوْن شاسع في الدلالة، فهل ستستطيع غنايم/الدودة مواجهة الطريق/الأفعوان؟ عنا تكمن المفارقة بين فعل غنايم والمخاطر التي تواجهها.
وهذا الوجه من الدلالة في التشبيه هو نفسه الذي استخدمته القصة في النهاية حين شبهت غنايم بالكلب (حين بصق في الأرض، وهو يقولُ لرجل من الجيران: جاتني برجليها .. لازمتني كِيف الكلب) ففي الإطار العام تستخدم القصة مجموعة من الألفاظ تشكل ملمحا مساعدا لإبراز الصورة المرادة، مثل (بصق على الأرض) في دلالة واضحة للاستهانة فإذا ربطنا ذلك بالحديث عن غنايم الذي سيأتي تاليا ندرك تماما المقصود من تشبيهها بالكلب؛ لأن دلالة الكلب في البيئة قد تتغير، فهو/الكلب يستخدم في الإشارة على الوفاء، والحراسة، وغيرهما من الدلالات، وهنا تأتي جملة (بصق في الأرض) لتحيلنا إلى الدلالة المرادة وهي الإهانة والتحقير من شأنها، ولكننا لاحظنا هنا أن الكاتبة استخدمت اللهجة العامية (كيف)؛ لتتوافق بذلك دلاليا مع العايق الذي ينتمي لبيئة يسودها الجهل والأمية، فالكلام على لسان العايق بلغة بليغة لن يكون مقنعا، وهو السبب نفسه الذي أدى بالكاتبة إلى استخدام اللهجة العامية في حديث سليم مع والد الراوية/الخال (زأر سليمٌ : البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر .. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب) وفي حديث والد الراوية/الخال (قال أبي وهو يفركُ قبضتيه في قلق : يعني حتروح منّنا فين؟!) ومن هذا المنطلق أيضا يمكن تفسير عدم إيراد القصة أحاديث على لسان غنايم، واللجوء إلى الحكاية عنها؛ لتعطي الكاتبة نفسها الفرصة في التعبير بلغة قادرة على الوصف العميق، أو كأن الكاتبة تعطي لنفسها الحق في الحديث عن غنايم بحسبانها أنثى تعرف مشاعر الأنثى وما يعتلج فيها من أحاسيس ومرارات، وترى أن قضية غنايم هي قضية كل أنثى على وجه الأرض.
وننتقل إلى صورة أخرى لغنايم أوردتها القصة؛ لتعبر عن النهاية المأساوية التي انتهت إليها (حين تناهت إليها كلمات العايق عنها فرفرت كالفرُّوجة الذبيحة .. صرخت صرخةً واحدةً .. وقعت على الأرض، ولم تتوقف بعدها عن العويل .. كانت تئنُّ وتبكي بصوتٍ مسموعٍ، تحوّل بعد ثلاثة أيامٍ إلى صوتٍ مشروخ مبحوح، أدمته قيودُ السلسلة التي تعلّقَ فيها .. وحين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة .. لكنَّ"غنايم" لم تبرح مكانها ..ولم تكف عن النباح) الصورة المحورية هنا هي (فرفرت كالفرُّوجة) ثم تأتي بقية الصور البلاغية في الفقرة مساعدة لها، أو كاشفة عن ملامح الفرفرة التي حدثت لغنايم لحظة سماعها كلام العايق عنها، وانكسار حلمها الذي دفعت حياتها وسمعتها ثمنا له، وكانت تأمل أن تنجح في إنقاذ نفسها وبنات جنسها من قبضة السلطة الذكورية/سليم/العايق/عمي فضالي، وغيرهم، ولكنها اكتشفت في النهاية أن الخلاص وهم، وأن الحلم بذلك دمار لكل شيء، وأن السلطة الذكورية إن لم تستطع إخضاعها بالقسوة فسوف تخضعها بالاستغلال والقهر النفسي، وفي هذا الإطار نقرأ الصورة (فرفرت كالفرُّوجة) ففي البداية لابد من الإشارة إلى أن عناصر تلك الصورة تنتمي إلى البيئة المحلية؛ فلفظ (فرفرت) لفظ يستخدم بكثرة في البيئة المحلية للتعبير عن لحظة خروج الروح من الطائر بعد ذبحه، فهو يظل يجري في المكان يدور ويدور والدم يسيل من عنقه حتى يصاب بالإنهاك فيسقط على الأرض، يرتجف جسده بقوة، ثم يحرك رجليه يضرب بهما الهواء إلى أن يهمد الجسد، ويصمت نهائيًّا معلنا خروج الروح، ونهاية الحياة لهذا الكائن الضعيف الذي تعرَّض للذبح، وغنايم كانت كالفرُّوجة التي تعرضت للذبح، ونعود مرة أخرى إلى مكونات التشبيه فنجد أنه مكتمل الأركان؛ فالمشبَّه غنايم، والمشبَّه به الفرُّوجة، وأداة التشبيه الكاف، ووجه الشبه الفرفرة، وطرفا التشبيه/المشبه والمشبه به حسيان، وهو ما أشرنا إليه عند حديثنا عن التشبيه السايق من أن التشبيه بالمحسوسات يزيد المعنى قوة؛ إذ يحيل المتلقي إلى عناصر بعينها يمكن مشاهدتها أو التعامل معها بالحواس التي هي أشد الآليات توكيدا لليقين، فالصورة تكشف بوضوح حالة غنايم لحظة تلقي الخبر إذ أصبحت كالفروجة المذبوحة، وإذا تخيلنا الفروجة المذبوحة فسوف نتخيل حالة غنايم تماما، وهذا ما أردناه بأن التشبيه الحسي يغرس المعنى في الذهن، ثم تأتي بقية العناصر البلاغية لتوضح بقية ملامح الصورة الكلية الواردة في التشبيه السابق (صرخت – وقعت على الأرض – ولم تتوقف عن العويل – كانت تئنُّ – تبكي بصوتٍ مسموعٍ) هي صورة المذبوح، الصراخ/الوقوع على الأرض/العويل/الأنين/البكاء بصوت مسموع، ولكن هذه الحالة لم تكن سوى مقدمات لحالة أخرى ستنتج عنها، وهي التي وردت في التشبيه التالي في الفقرة نفسها (حين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة) فإذا كانت الفرُّوجة المذبوحة تنتهي حياتها بهمود الجسد، وخروج الروح، وانهزام تلك الفروجة أمام قسوة الذابح وسكينه فإن غنايم هنا تنتهي حياتها المعنوية بانهزامها أيضا أمام السلطة الذكورية، وتحولها إلى تابع لها،ولكنه تابع مهزوم مكسور، وعناصر التشبيه هنا هي صوت غنايم/المشبَّه، ونباح الكلب/المشبَّه به، وأداة التشبيه/شبيها، ووجه الشبه تحوُّل صوت غنايم إلى نباح، وهي صورة أيضا مستقاة من البيئة المحلية شأنها شأن كل الصور البلاغية في النص، ثم تأتي الكلمات الأخرى لتساعد في الكشف عن الدلالة المرادة من الصورة البلاغة (فك قفل السلسلة – لم تبرح مكانها – لم تكف عن النباح) وهي صور كنائية، فقوله (فك قفل السلسلة) تدل على يقينه بانهزامها، ومن ثم لم تعد السلسلة ذات قيمة، والسلسلة هنا إشارة إلى قسوة السلطة الذكورية التي لم تعد في حاجة إلى ممارسة قوتها وقسوتها على غنايم التي استسلمت مقهورة، وكذلك قوله (لم تبرح مكانها) توكيد للمعنى السابق/انهزام غنايم واستسلامها، وقوله (لم تكف عن النباح) إشارة إلى التبعية التي صارت إليها غنايم، ولكنها تبعية المقهور اليائس غير المقتنع، الذي لا يملك القدرة على مقاومة تلك السلطة؛ فقد استنفدت قواه، فتحوَّلت مقاومته إلى عبث. لقد ساعدت الجمل والألفاظ المحيطة بالصورة البلاغية المحورية في الكشف عن دلالة الصورة البلاغية الواردة، وتعميق ملامحها في ذهن المتلقي.
وسوف ننتقل إلى صورة بلاغية أخرى تنتمي إلى نمط مختلف من الصور البلاغية، وهي الكناية؛ لتعبر عن دلالة أخرى من الدلالات المتعددة التي تحملها القصة، وهي صورة الأطفال في الشارع (كان يشعر (أي سليم) أنه كَمنْ أخذ ثأره كلّما سمع صياحَ الصبية في الشارع وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل، يضربون رأسه في الحائط ، ينزعون أنيابه، يهرعون بسُمّه إلى صاحب (الأجزخانة) الذي يشتريه منهم بقروش قليلة ليبيعه ترياقا للملدوغين، يهرولون بقروشهم، يشترون زجاجات عَرَق البلح و البوظة، يهرعون بها إلى الجبل، يحتسونها مع العايق في سهراته الصاخبة) فالصورة المحورية هنا (صياحَ الصبية في الشارع وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل) وهي تتكون من كنايتين (صياحَ الصبية في الشارع) كناية عن الفرحة والبهجة، (وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل) كناية عن الانتصار؛ فالأطفال في الشارع يصيحون فرحا من قدرتهم على الانتصار على الباصق المتسلل الذي يهدد بيوتهم، ويقتل فراريجهم، وتتزاحم الصور الكنائية في الفقرة السابقة للكشف عن الحالة النفسية والفكرية في آن واحد، فالحالة النفسية هي الفرحة والبهجة بالانتصار على عدو يهدد حياتهم وحياة بيوتهم، وقد اشتملت هذه الحالة النفسية على مكاسب معنوية/الانتصار على الباصق، ومكاسب مادية/يهرعون بسُمّه إلى صاحب (الأجزخانة) الذي يشتريه منهم بقروش قليلة، ويصاحب هذه المكاسب المادية فرحة أيضا؛ إذ يشترون بالقروش زجاجات عرق البلح والبوظة، فإذا جئنا إلى الحالة الفكرية المترسخة في عقول هؤلاء الأطفال – الذين سيصيرون رجالا فيما بعد، وسلطة ذكورية قادمة – فسوف نجد الانهزام أمام عدوٍّ آخر يهدد حياتهم وحياة سلطتهم تهديدا أشد من تهديد الباصق وهو العايق الذي يمثل تهديدا حقيقيا؛ فالأطفال حين يشترون زجاجات عرق البلح والبوظة يهرعون بها إلى الجبل، يحتسونها مع العايق في سهراته الصاخبة، فالمكاسب التي حققوها بانتصارهم على عدو مهدِّد لحياتهم يضيِّعونها مع عدو آخر أشد فتكا وأكثر تدميرا؛ فهو يهدد حياتهم من زاويتين: الأولى حياته في الجبل، وهذا يمثل خروجا صارخا على المجتمع؛ لأننا نعرف في الذاكرة الجمعية أن المطاريد في الجبل يمثلون سلطة إجرام، ووصف القصة بأنه في الجبل إشارة إلى تحوُّله إلى ذئب يفترس حياة المجتمع بأسره ويهدد استقراره، والثانية انتهاكه حرمات المجتمع/ما فعله مع غنايم، وهي صورة أخرى للإجرام تعمقها القصة، ولكن هؤلاء الأطفال/السلطة الذكورية المستقبلية يستمتعون بالجلوس إلى هذا العايق/السلطة الإجرامية، فهم يخافون منه باعتباره أحد المطاريد ويعجبون به حين يهرعون إلى الشرب معه/يحتسونها مع العايق في سهراته الصاخبة، لقد سقطت غنايم بين سلطتين شديدتيْ الفتك والقسوة/سلطة سليم وسلطة العايق، وقد أشرنا سابقا أنهما وجهان للسلطة الذكورية، حين قلنا: إن للسلطة الذكورية وجهين: أحدهما قاهر والآخر مستغل، وكلاهما سلطة قهر لغنايم، ولكننا ينبغي الإشارة هنا إلى ملمح آخر من الصورة، إذ لم يكن الأطفال وحدهم المبهورين بالعايق، بل كانت النساء أيضا تنسجن القصص حوله وحول علاقاته النسائية التي تنتهك المرأة، وقد أشرنا سابقا أن المقهور جزء من سلطة القهر، وهنا نشير إلى الصور البلاغية التي تؤكد هذه الفكرة وتكشفها بوضوح تام وهي صورة محاسن الغازية/وجه آخر للمرأة المقهورة (تحلم (محاسن) بالزواج من العايق الذي زهد فيها بعد ما (دَاق عَسَلْهَا) – كما قال نسوةُ الحارة وهنّ ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه – لكن العايق يستبقيها في قبضته، يحميها .. يغمزُ لها بعينيه الواسعتين .. يطويها بكلامه المعسول .. حتى إذا أفرطتْ في شرب عَرق البلح وانتفضت تصرخ ..تبكي .. تهذي بما فعل بها .. أطبقَ على عنقها بذراعه، شدَّها إليه .. أحكم الخناق على رقبتها .. سحبها إلى الداخل حيثُ تُسمعُ صيحتُها مرة واحدة ..تسكتُ بعدَها .. تخرج مُترنّحةً في بذلة الرقص .. يغمز لها العايق بعينيه الواسعتين ..تتلوى .. تنزلقُ بنعومةٍ حتى تقترب من صدره العاري .. تبتسمُ بعينين مُعذَّبتين .. تواصلُ الرقصَ حتى الصباح كأسيرةٍ تثقُ في أغلالها) تشتمل الفقرة السابقة على مجموعة من الصور البلاغية المتنوعة، ولكننا سوف نشير إلى صورة محورية تلتف حولها بقية الصور، وهي صورة النسوة (ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه) وهي صورة كنائية تلتف حولها مجموعة من الصور المتنوعة بين صور كنائية (داق عسلها – انتفضت تصرخ – أحكم الخناق على رقبتها – تسمع صيحتها مرة واحدة – تقترب من صدره العاري – تخرج مترنحة في بدلة الرقص) وصور استعارية (تبتسم بعينين معذَّبتين – يطويها بكلامها المعسول – تثق في أغلالها) وصور تشبيهية في تشبيه محاسن (كأسيرة تثق في أغلالها) قلنا إن الصورة الكنائية (ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه) صورة محورية؛ لأنها تكشف عن رؤية القصة فيما تتلو من صور متنوعة؛ فهي تصف ما تقوم به النسوة من حديث عن محاسن بأنه يشبه تماما نتف ريش الدجاج، وإخراج أحشائه، وكأنها تطابق بذلك بين الفعل المادي المحسوس/ينتفن ريش الدجاج وينزعن أحشاءه وبين الحديث عن محاسن وتشويه صورتها، وتصفيتها معنويا وأخلاقيا، في الوقت الذي لا يرين في العايق صورة المنتهك لحرمة محاسن/المرأة المقهورة الراغبة في الأمان، وبذلك تتحول النسوة من موقف المقهور إلى جزء من سلطة القهر، وتكشف الصورة السابقة وغيرها من الصور المتضمَّنة في الفقرة عن المرض النفسي المتفشي في ذلك المجتمع الذي لا يكتفي بالاستسلام للسلطة الذكورية المستغلة القاهرة، بل ينسج حولها الحكايات والقصص، وأحيانا يتلذذ بهذه الحكايات، ويستمتع بها حتى وإن كانت معبرة عن قهر واستغلال للضعفاء من المجتمع، ومعاناة نفسية وجسدية لعناصر مجتمعية لا تحلم إلا بالخلاص من منظومة القهر والاستغلال، لقد تحوَّلت النسوة إلى جزء من الاستغلال رغم علمهن بكون العايق وجها من وجوه القهر والاستغلال التي تهدد المجتمع بأسره والمرأة بصفة خاصة، وجاءت الصورة الاستعارية (تثق في أغلالها) هي الأخرى معبِّرة عن وقوع المقهور في أسر القاهر، بل وثقته في الأغلال التي أحاطه بها، ولكن الثقة هنا ناشئة من الرغبة في الأمان، وإن كان أمانا وهميًّا ظاهره الرحمة وباطنه العذاب والدمار النفسي والروحي والجسدي.
لقد ساعدت الصور الكنائية والاستعارية والتشبيهية في الفقرات السابقة في الكشف عن ملامح الرؤية المتخفية خلف شبكة العلاقات اللغوية، وتحولت شبكة العلاقات البلاغية إلى معادل للعلاقات اللغوية في النص.
وهنا تضع الدراسة عصا الترحال لتكتفي بهذه الإشارات موقنة أن النص يشتمل على الكثير الذي يمكن قوله، ولكن الإشارة تكفي المتلقي الذكيَّ الذي يستنتج مما أشير إليه سابقا كلَّ ما لم تشر إليه الدراسة؛ حتى لا نقع في التكرار.
غنايم
كاميليا عبد الفتاح
تتسللَ خارجَ البيت أثناء غفوته، إذ كان أخوها"سليمُ" هو الوحيد في الصّعيد كله الذي لا يهنأُ بنوم القيلولةَ - أو الليل - قلقًا عليها، وارتيابًا منها، لكنّ سلطانَ النوم كان يدهمهُ بغفوةٍ إجبارية تَسقطُ فيها رأسُه بين كتفيه كأنه قد تلقَّى طعنةً مفاجئة، فتنشطُ "غنايم" ..تخرجُ من البيتِ، تتلوى بين الأزقة المظلمة والحارات الضيقة كدودة جائعة شرهة حتى تصلَ إلى أطراف بلدتها الغافية، تتطلع بعينين مُبتهلتين إلى أضواء الشعلِ الناريَّة الرابضة فوق رأس الجبل حيثُ يعيشُ، العايق"، ويربضُ بجوار شعلةٍ بعينها، تهرولُ غنايمُ إليها وهي تستشرفُ لهيبها كأنها تبتهلُ للنار. كان الطريقُ المؤدي إلى الجبلِ أفعوانيًّا مرهقًا، مليئًا بالحجارة، كان في الحقيقة مدّقًا ترابيًّا قاصمًا للظهر باعوجاجه، مثيرًا للذعر بما ينتشرُ فيه من الثعابين، كانت غنايمُ في كل مرة ٍ تتعثّرُ أكثر من مرةٍ رغم كلِّ محاولاتها أن تتفادى السقوط حتى لا تتعفّر ملابسُها أو تتمزق في التراب، فينكشفُ فخذاها و تُقتَضحُ أمام"سليم"وأهل الحارة . لم تكن تعلم أنّه كان يفيقُ من غفوته بعد رحيلها، يتفقّدُها كالمجنون في أرجاء البيت كله، حتى إنه كان يُفتشُ (زيرَ) الماء الفخاريّ و الفرنَ القابع بسواده في حوش البيت، و حين لا يجدُ لها أثرا، يدقُّ بابَ بيتنا على استحياء معتمدًا على علاقته القوية بأبي، يسأله إنْ كانت أمام الفرن تساعد في (الخبيز)، وحين يرى في عينِ أبي النّفيَ والشفقةَ والوجومَ، تنكسرُ عينُه، يتوهج وجهه الأسمر كالفخار في نار القمائن ، يُطأطئُ ..لا يرفعُ رأسَهُ حتى تظهر "غنايم " في أول الشارع تمشي بتأوّدٍ وشرودٍ .. يشدّها من يدها .. يُدخلها البيتَ .. نسمعَ صراخها وزئيره وهو ينهالُ عليها ضربا بعد أن يغلق البابَ بالمزلاجِ حتى لا ينقذُها أحدٌ منّا : إيه اللي ودّاكي سكة التعابين يا واكلة ناسك ؟! يعرفُ سليم أنَّ الثعابين تتسللُ إلى البيوتِ من بطنِ الجبل والخرائب.. تفتكُ بالدجاج وزغاليل الحمام .. كثيرًا ما يصحو على صراخ إحدى الجارات تولولُ على (فرُّوجتها) التي اختطفها الثعبانُ (الباصق)، أيقظته صرخةُ غنايم ذات مرة، فُوجئ بالباصق أمامه ينظرُ إليه بعينيه الواسعتين وقد التفَّ بجسده الناعم مُطبقًا على فرُّوجةٍ صغيرةٍ .. بدت ثنياتُ جسده كأنها فخذان كبيران يعصرانها لحما وريشًا ..فتح فمه الذي تراقص في نهايته لسانُه الصغيرُ.. أدارَ رأسه ..دسَّها في الموضع الذي احتجز فيه الفرُّوجة بين ثنياتِه المتفخِّذة .. بدا كأنه يُقبِّلُها قبلةً طويلةً .. حين أبرز رأسه كان قد أطبق على رقبتها بأنيابِه، صاحتْ، تلَّوت في محاولة الفكاك منه، سحبها داخل فمه وهو يُقلّبُها، استقرّتْ على ظهرها، ارتفع ساقاها في الهواء، فسحبها من صدرها، سكت صوتُها، تدلّتْ ساقاها من فمه الذي كان يزداد اتِّساعا كأنه سيبتلع "سليم "ذاته .. زحفَ بها ببطءٍ كأنه يتحدّى سليم أن يستطيعَ منعَه من اقتيادها علانيةً إلى بطن الجبل . أدرك سليم خطر الباصق بعد أن ابتلعَ فروجَته، فلم يتوقف عن التفكير في كيفية التربص به وقتله، لم يتوقف عن حرق شعر الماعز والشيح حتى لا يجرؤ صاحبُ هاتين العينين الواسعتين أن يتسللَ إلى بيته في غفلة منه . كان يشعر أنه كَمنْ أخذ ثأره كلّما سمع صياحَ الصبية في الشارع وهم يقبضون بأيديهم على باصقٍ مُتسلل، يضربون رأسه في الحائط ، ينزعون أنيابه، يهرعون بسُمّه إلى صاحب (الأجزخانة) الذي يشتريه منهم بقروش قليلة ليبيعه ترياقا للملدوغين، يهرولون بقروشهم، يشترون زجاجات عَرَق البلح و البوظة، يهرعون بها إلى الجبل، يحتسونها مع العايق في سهراته الصاخبة .. كان سليمُ لا ينامُ الليلَ أو القيلولة خوفًا من تسلل الباصق إلى بيته، و قلقًا على"غنايم "التي لم يكن يراها حين يصحو من غفوته إلَّا بالقرب من دربِ الثعابين .. في المرة الأخيرة التي اختفت فيها، دقّ سليمُ بابَ بيتنا بجنونٍ، نظر في عينِ أبي الذي بادلهُ نظرةً طويلةً واجمةً، فوضع كفّيه على رأسه في جزعٍ كأنه تلقّى عليها ضربة موجعة ، ضيَّقَ عينيه بقوةٍ كأنهما قبضتان يخنقُ بهما" غنايم"، قال أبي وهو يفركُ قبضتيه في قلق : يعني حتروح منّنا فين؟! زأر سليمٌ : البتّ أَّما بتكون هِبَاب وشينة بتروح يا خال، رِجْلها بتتعتَّر .. وشَّها ووشِّنا بيتعفَّر في التراب . وقفا معا في منتصف الشارع حاسري الرأس بعد أن خلعَ كلّا منهما"العمَّة"واللّاسة"، تبادلا السجائر المشتعلة في توتّر وصمتٍ وكلاهما يعبثُ في شاربه في ترقُّبٍ مهمومٍ . كانت الظهيرةُ خانقة قاتلة، والشمسُ واضحةً صفيقةً تتهجّمُ على رأسِ من يقفُ في مواجهتها . التصقت عيونُ الجيران ببِصاصِ الشبابيك والبلكونات .. حبس الجميعُ أنفاسَهم في ترقّبٍ وذعر ..كانت كلماتُ الجيران تتصاعدُ حروفُها وتتسلّلُ من الدُّرَف في غفلة من أصحابها .. كانت"نحمدو" تتوسّلُ إلى زوجها كالعادة أن يخرج إلى الشارع ليهدّئَ سليمَ قبل أن يقتلَ أخته .. والحقيقةُ أنها لا تبالي بسليم أو بأخته، لكنها كانت تترقَّبُ مصائبَ الحيّ ومآتِمَه بفرحة، لتتخلصَ من هذا الزوج بعد أن فشلت في التخلّص من الزواج به، لكنه رفض النزول من البيت لإنقاذ غنايم مُتعلّلًا بأنها حطّت العارَ على رأس رجال الشارع ومرّغت شواربهم في التراب بعد أن مشَتْ (على حلِّ شعرها)، عاد إلى كركرة"الجوزة "، طلب منها أن تحضرَ له"بَصَّاية" فحم مشتعلة ليضع عليها المعسِّل، وأن تأخذ حماما دافئًا لأنها أوحشته، أقسمتْ له أنَّ (نِفْسَها مكسورة) من الخوف على غنايم، وظهرها مكسور من التعب ، هُرعت إلى سريرها – كما حكت لنا في اليوم التالي - شاردةً في نصيبها الأسود الشبيه بسواد الفرن الذي زوّجَها من هذا الرجل الذي تبُغضه وتفضّلُ النومَ في حضن (الباصق) على النوم في (فراشه( ارتفع صوت عم" ضَاحي "وهو يُلقي اللومَ كلَّه على" سليم" الذي لم ينتبه إلى أنّ أخته التي بلغت مبلغ النساء منذ سنواتٍ طويلة ليس لها رجلٌ كما يجب أن يكون للنساء، لم يتقدم أحدٌ لخطبتها لدمامتها التي زادها شعرها الأكرتُ تعقيدا . شعر غنايم لم يستجب للحناء، لم يلَنِ ْ رغم كل ما بذلتْ من الطير المذبوح وهي تتطوَّحُ في ضراعة وتوسُّل لأسياد الجن تحت عويل دفوف الزار، لكنّ زيت الأعشاب الممزوج بدهن الثعابين الذي اشترته من صاحب الأجزاخانة أذلّ خشونته وقهر تجعيدته، فأذعن للمشط، وارتمى على ظهرها، فاندفعت تفتحُ باب البيت بقوة في غفوة من غفوات سليم، خرجت إلى الشارع وهي تُسوّيه بأطرافِ أصابعها في فرحٍ وزهوٍ، ركضت إلى الجبل مُنتشية تبعثر خصلاته فوق وجهها، تتواثبُ قدماها فوق الخطوط المُتعرجة التي تشكّلتْ من زحف الثعابينِ في الممرات الرملية التي تنتهي بشعلة العايق . ارتفعَ عويلُ أمها العجوز، ترجو سليم أن يرأفَ بأخته المسكينة التي عضَّها بختُها الأسودُ المعوج، ولدغها كالثعبان، لم تكن المأساةُ واضحة لدى العجوز التي كلَّ نظرُها، فلم تكن ترى"غنايمَ" في وقفاتها الطويلة أمام المرآة تتأملُ تفاصيلَ جسدها اليابس ..تتحسُّسه في شوقٍ مُرهق، لم ترَها تجرّبُ قميصَ النوم الذي كانت تدسّهُ في السّحارة الخشبية بعدما اشترته من السوق، وأسرعت – حين رآها عمي"فضالي" - بإخفائه في الكيس مع الدجاجة التي سيتم تسمينُها ثلاثةَ أيام في حوش البيت قبل الذبح . لم تتنتبِه العجوز لاختلاقِ غنايم أسباب الخروج من البيت كل يوم، لم تسمعْ تهامسَ الجيرانِ وهمهماتِهم حولَ تأوُّد مشيتها وتثني جسدِها الأعجف الذي تحاولُ عبثا أن تجعله شبيهًا بجسدِ النساء .. عمي"فضَاَلي " أقسمَ للشارع كله أنه أولُ من سمعَ شهقة غنايم حين رأت وسامة "العايق"– أشهر مطاريد الجبل – في عُرس"سليم"، وأنّهُ أولُ من رأى ابتسامة "العايق" الساخرة وهو يغمز لها بعينيه الواسعتين ويعابِثُها بترقيص لسانه، فانتفضت من فورها ترقصُ ..رقصتْ وهي تدقُّ الدفَّ المصنوع من جلد الحملان المكشوط بالحجرِ ( الخَفَّاف) الذي دعكت به كعبَيها ، وحين دُقَّت الطبول بجوار أذنيها .. الطبولُ التي شُدّ عليها جلدُ ذئبٍ من ذئاب الجبل ..رقصت كالجنِّ .. اقتربت من صدر"العايق " وهي تغني :"اللون يا لون ... لون القمري لونه". أقسم عم "فضالي " أنه أول من رأى"غنايم"تتسللُ من البيت بعد أن دخل سليم بعروسه وأطفأ مصباح غرفته، تُهرعُ إلى الجبل على ضوء النار التي لا تنطفئ ، تتعثّر في المدق الترابي ..تنقلب على ظهرها .. ترتفع ساقاها في الهواء .. تتسحَّبُ في الطريق الأفعواني .. تتعفّرُ في حضن العايق الذي التفَّ حول جسدها في بطن الجبل . عمي"فضالي "يحكي لزوجته أسرار مطاريد الجبل، وشجاعته في التجسس عليهم .. لكنه لم يكن ليجرؤَ أن يقولَ لها – ما يعرفه أهل الحارة - إنّ سببَ رحلته اليومية عبر الطريق الأفعواني للجبل هو عشقه للبنت الغازيّة"محاسن" التي ترقص هناك كل ليلة تحت المشاعل الحارقة، تتلوَّى وهي تحلم بالزواج من"العايق"الذي زهد فيها بعد ما (دَاق عَسَلْهَا) – كما قال نسوةُ الحارة وهنّ ينتفن ريش الدجاج المذبوح وينزعن أحشاءه - لكن" العايق" يستبقيها في قبضته، يحميها .. يغمزُ لها بعينيه الواسعتين .. يطويها بكلامه المعسول .. حتى إذا أفرطتْ في شرب عَرق البلح وانتفضت تصرخ ..تبكي .. تهذي بما فعل بها .. أطبقَ على عنقها بذراعه، شدَّها إليه .. أحكم الخناق على رقبتها .. سحبها إلى الداخل حيثُ تُسمعُ صيحتُها مرة واحدة ..تسكتُ بعدَها .. تخرج مُترنّحةً في بذلة الرقص .. يغمز لها"العايق"بعينيه الواسعتين ..تتلوى .. تنزلقُ بنعومةٍ حتى تقترب من صدره العاري .. تبتسمُ بعينين مُعذَّبتين .. تواصلُ الرقصَ حتى الصباح كأسيرةٍ تثقُ في أغلالها . لم يستطع أحدٌ إنقاذ" غنايم "من مصيرها، فقد ظلت همهماتُ الحارة تترنّحُ مع أصحابها وراء دُرَفِ الشبابيك المُوارَبَة . ظهرتْ"غنايم" أوّلَ الشارعِ تمشي في تؤدةٍ مريبة .. وفي عينيها ووجهها اعترافٌ أرهقهُ الخوف .. حدّقَ سليم فزعًا في عينيها، في ثوبها المعفّر بتراب الجبل، في المِزَقِ التي برزَ منها فخذاها وهي تحاولُ لملمَتها بكفّ مرتعشة .. أسرعَ إليها مُفلِتًا من ذراعيّ أبي .. انقضَّ على شعرها الذي أفلتَ من قبضته لأول مرة بعد أن فرده دهنُ الثعبان ، أمسكها من ذراعها، أوقعها على الأرضِ، سحبَها وهو يركلُها في كلّ مكانٍ، تطايرَ ترابُ الجبل من ثوبها وحطّ على جدرانِ كلِّ البيوت، كان سليم يزأر كالجنِّ مفلتًا من أذرع الرجال الذين بدوا كأنّ بيوتهم لم تعد تحتملهم، فقذفت بهم في وجه " غنايم ". حبسَها" سليمُ " في البيت .. ربطَها - كالكلبِ - بسلسلة وقفلٍ في الحائط جنب هِباب الفرن الذي لطَّخ به وجهَها فامتلأت به كفُّاه، وضع مفتاح القفل في جيبه، كان يخرجُ للجيران هادئًا، يبكي بين يدي أبي، يضربُ رأسه في الجدار لأنه عجزَ عن التربّص بالعايق الكلب وقتله في المكان الذي سرقَ فيه شرفَ"غنايم": بطن الجبل . هربَ العايق مستخفيا في الخرائب ووعورة الجبال بعد أن فضح "غنايم" و (ناسهَا) حين بصق في الأرض، وهو يقولُ لرجل من الجيران : جاتني برجليها .. لازمتني كِيف الكلب ..تشتري لي عَرَق البلح والبيرة ..تشرب معاي لغاية ما تعمى و تنسى خوفها من"سليم" .. وأنسى خِلقِتْها الشِّينة وشعرها اللي حيفضل طول عمره في عيني أكرت .. أنا اتصدَّقتْ عليها باللي حصل بيني وبينها .. تحمد ربنا إنها شمِّتْ عَرَق راجل . أقسمت العجوز التي كنا نطحنُ في رَحَاها الغَلَّة، ونجلس حولها نحدقُ في انكسار الحبوب بين أضراس الرَّحى، أنَّ غنايم لم تبكِ حين ضربها سليمُ بقسوة، لم تبكِ حين سمعتِ النساءَ يتضاحكن عابثات، وهنّ يتخيّلن وجهَ "العايق" المليح فوق وجهها الدميم، لكنها حين تناهت إليها كلمات العايق عنها فرفرت كالفرُّوجة الذبيحة .. صرخت صرخةً واحدةً .. وقعت على الأرض، ولم تتوقف بعدها عن العويل .. كانت تئنُّ وتبكي بصوتٍ مسموعٍ، تحوّل بعد ثلاثة أيامٍ إلى صوتٍ مشروخ مبحوح، أدمته قيودُ السلسلة التي تعلّقَ فيها .. وحين صار صوتُها شبيها بنباح الكلب فكّ سليمُ قفلَ السلسلة .. لكنَّ"غنايم" لم تبرح مكانها ..ولم تكف عن النباح ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى