نعيمة المديوني - اكتفيت بك.. قصّة قصير

السّاعة تشير الى الواحدة صباحا عندما غادر الطّبيب الغرفة..مسحت دمعة ترقرقت من عينها و جلست على السّرير تتأمّل الجسم الممدّد أمامها في ضعف و قد أصابه الوهن..جسم أنهكه المرض و التهم فتّوته..ألقت بجسمها على جسمه البارد و احتضنته تزوّده بالدّفء و الحرارة..رسمت قبلة على شفتيه..اهتزّت لها كلّ خلايا جسمها..لن يأخذونك منّي..ستظلّ معي الى أن ننتقل معا الى عالم الخلود..عالم لا يفرّقنا فيه الموت..عالم زاخر بالحبّ و الهناء..أليس الله حبّ..اذا سيجمعنا الى الأبد..أمسكت يده و وضعتها بين يديها..تضغط عليها برفق..افتح عينيك حبيبي..لا تغمضها..انظر اليّ..كم مرّة قلت أنّك لا تملّ من النّظر الى وجهي و أنّك لن تشبع من بسمتي..ها أنّنا لوحدنا..سأبتسم اليك وحدك..لن يرى بسمتي غيرك و لن يسمع همسي غيرك..تعال الى أحضاني..تزوّد من حناني..اقترب من فؤادي و استمع الى خفقاتي..ما عرفت الحبّ الاّ معك و ما مارست طقوسه الاّ في محرابك..أشعلت سيجارة و نفخت دخانها في فضاء الغرفة العاتمة..سأدخّن سيجارتك لتنتعش بطعم التّبغ الذّي تعشقه..حتّى أنّي كنت أغار من حبّك له..كنت أخاف أن تنتشي بسيجارتك أكثر من نشوتك و أنت بين أحضاني..لا تنظر اليّ هكذا..لا تستغرب..تعرف أنّي لا أدخّن..لكنّي أفعل ذلك لأجلك..لتنتشي و لتنعم بسيجارتك.. ثمّ اتّجهت الى النّافذة..أغلقت متاريسها و ألقت ستائرها الحمراء على النّافذة..بدت الغرفة بديعة ساحرة..أشعلت شموعا كانت موضوعة على الخوان..عادت الى مكانها و ظلّت تلتهم السّيجارة التهاما..هل تتذكّر يا خليل أيّام كنّا نجوب شوارع المدينة راجليْن..نقف على ذاك البائع تشتري مرطّبتين واحدة لي و الأخرى لك..تلتهم مرطّبتك و تقاسمني مرطّبتي و تقول باسما أحبّ جسمك الممشوق..لا أسمح له باكتساب شحما و لحما..عديني بأن تظلّي هيفاء ميساء..أعدك..ما ان تسمع وعدي حتّى تنقضّ على ما بقي معي من مرطّبة و تلتهمه..و تقهقه أساعدك على الوفاء بوعدك..نضحك و نمرح..أ تتذكّر عندما يستوقفنا بائع الياسمين..تقول له..لسنا في حاجة الى ياسمينك فياسمينتي أعطر من ياسمينتك..يضحك البائع و ينظر اليّ نظرة فاحصة و يومئ برأسه موافقا على كلامك..فتقول له بما أنّك معترف بجمال ياسمينتي فانّي سأبتاع واحدة تتزيّن بها حبيبتي..تنقده ما يطلب ثمّ ننطلق نجوب المغازات و الحدائق العموميّة..نثمل من الهناء..و عندما نشعر بالتّعب نستلقي على الأعشاب الخضراء نستردّ أنفاسنا لنواصل المشوار..تتذكّر تلك الأمسية الشّعريّة التّي حضرناها في النّادي الثّقافي بضاحية باردو..سجّلت كلّ القطع الشّعرية و أهديتني اياها..قلت أنّ الشّاعر استلهم أبياته من حبّك و غرامك..و أنّه لولاك لما دوّن بيتا..ضحكت بسعادة..كان حديثك مصدر هنائي و روحك المرحة بهجتي..و اليوم حبيبي..أصابك داء فتّاك..أصابك عدوّ قاهر..عدوّ عزّ عليه هنائي..عدوّ لا همّ له الاّ الفتك بك و اذلالي..عدوّ يعرف نقطة ضعفي..فأمسكني من فؤادي و اعتصره عصرا..قهرك الألم فقهرني..توغّل الدّاء في جسمك فتوغّل القهر و الحزن في روحي..اعتللت فاعتللت..هُزمتَ فهزمتُ..لم يقصدك أنت السّرطان..قصدني أنا..انقضّ على أحلامي ففتك بها.. رماني بوابل من الرّصاص فمزّق أعضائي فغدت أشلاء..آه لو كان عدّوي و عدوّك انسان لزرعت ثناياه وردا و نوّارا حتّى يكفّ عنك و عنّي أذاه..لكنّه وباء استفحل في جسمك فأماتك و أماتني..ليته توغّل فيّ و نآ عنك..ليته أدركني و غفل عنك..لكنّه سفّاح..متكبّر و متجبّر..وصلك فوصلني..و تنفجر من عينيها برك من الدّموع تحرق فؤادها الحزين و تسري في جسمها العليل..جسم فتيّ أصابته العلّة..أعلّه مرض الحبيب..فبات لا يرنو الى غد..يرنو فقط الى رمس فسيح يضمّه و الحبيب يكون خير طريق الى عالم الخلود..عالم خال من الألم..من الشّجن..من الفراق..يخيّل اليها أنّ الحبيب يبتسم..تسعد..أحانت ساعة السّفر..جاهزة أنا لاصطحابك حيث الهناء و الصّفاء..يعمّ الصّمت الغرفة..تنهض متثاقلة..سأعدّ لنفسي قهوة..أترغب في فنجان مثلي..لا يتحرّك الجسم..و لا يبدي أيّة رغبة..حسن، سأعدّ واحد لي..ان أعجبك مذاقه سأعدّ لك آخر..تغادر الغرفة و تعود بعد وقت قصير..تحمل في يدها طبقا أنيقا..يتوسّطه فنجان مذهّب تفوح منه رائحة القهوة الشّذيّة..تعاود الجلوس في نفس المكان..تحتسي قهوتها الدّافئة في هدوء..وعدتك حبيبي أنّ لا شيء يفرّق بيننا..حتّى الموت يقف عاجزا أمام الحبّ..تذكّر يوم عقدنا قراننا..همست في أذنك..سأحبّك لآخر لحظة في حياتي..أمّا حياة و سعادة أمّا موت و هناء في عالم الخلد..أو يظنّ السّرطان الخبيث أنّه قادر على حرماني منك..أ يظنّ أنّه سيبعدك عنّي..يقولون أنّه خبيث..و أقول أنّه غبيّ..ألا يعرف أنّ الحبّ سلطان و أنّ السّلطان لا يهزم..أما عرف أنّ الأرواح اذا وهبت الحبّ وهبت الحياة..و أنّ الحياة اذا زهدت في الحبّ زهدت في البقاء..و أنا يا خليل وهبتك عمرا مضى و عمرا آت..سأرحل معك الى حيث أنت ذاهب..لن أ أسف على حياة خالية منك..لن أبكي على عالم فارقني فيه الحبيب، الصّديق، الأمين الوفيّ..أنا حيث أنت..و المكان الذي يخلو من عطرك و حبّك لا يستهويني..نم قرير الفؤاد..سأكون بجانبك حيث ترقد رقدتك الأخيرة..شعرت بآلام تمزّق أحشاءها..بهدوء و سكينة داست على زرّ المحمول..ألو..هادية، أرجوك تعالي صحبة محمود..خليل عاودته الأوجاع..لم يعد قادرا على تحمّلها..اتّصلي بالطّبيب..الأوراق الاّزمة فوق المكتب..مدّخراتي تصرّفي فيها حسب الوصيّة..الوديعة البنكيّة خصّصتها لمقاومة مرض السّرطان..يضعف صوتها..تزداد أوجاعها..أرجو…ك…اس…ر…عي…و ينقطع الصّوت و يبكي الحبّ و يحزن الألم..و يجتمع الحبيب و الغريب..لقد انتحرت..لقد ماتت..لمن تركت هذه الثروة..ما من وريث..الكلّ مشغول بالمكسب الذي سيجنيه..ما من أحد ذرف دمعة على الحبّ و الوفاء..مات الحبّ و انتحر الوفاء..و عاشت الثّروة في أكفّ البخلاء……

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى