ليلى عبدالواحد المرّاني - غرقٌ حتى القاع… قصة قصيرة

لا أدري هل أكرهه أو أُحبّه، أرثي له أو أحقد عليه؛ مشاعري متضاربة، لا تعرف مستقرّا، هذا الشاب العشريني هل استعبدني، أو أنا استعبدته؟ قبل أيامٍ دفعني بكل ما يملك من قوّة، ولعنني، استغربت؛ كان منفعلًا وثائرا، أخذ يقذف ما تطاله يداه على الأرض، ويشتمها، حتى أنّه بصق عليها، المساعدة الشقراء التي تأتيه يوميّاً من الساعة التاسعة صباحاً، تنظر إليه بعطف كبير، مبتسمةً تلملم أشياءه المبعثرة، تفهمه أكثر منّي، أنا الذي ألازمه ليل نهار، حتى أصبحت جزءا منه، أو هو أصبح جزءا منّي؛ تمسح على شعره الأسود المجعّد، تساعده كي يعتليني، لانت قسمات وجهه المتشنّجة، من شدّة غيظي، وددت أن أقذفه أرضاً، لكن نظرة إلى وجه أمّه، أحسستها مستعطفةً تعتذر عنه؛ جعلتني أسامحه، وأدركت بعد طول معاشرتي له أنه لم يكن يتحكّم بمدّ مزاجه وجزره…
كعادته حين تنتهي المساعدة من ترتيب فوضاه وإعداد وجباته الثلاث؛ تأخذه إلى الحمّام رغم تذمّره، وهذه فرصتي كي أتلصّص على دفتر يومياته الذي يضعه بجانب رأسه…
"اليوم تأخّرت في فتح ستائر نوافذها… ها قد فتحتها الآن… أين منظاري؟
تبدو حزينة، لكنها لم تنسَ طقوسها الصباحيّة، ترفع إطاراً لا أعرف صورة مَن بداخله، تهمس له بخشوع مغمضةً عينيها، كأنها تتعبّد في محراب بوذيّ، تقبّله ثلاث قبلات، وأحياناً أربعا أو خمسا، ثم تضعه على صدرها، موضع القلب، وبكلّ حنوّ تعيده إلى مكانه، كأنها تعيد قدح ماء ممتلىء تخشى أن تندلق منه قطرة أو قطرتان... أموت لأعرف صورة مَن تلك…"
صديقي هذا، الذي أراه من خلال ضباب عزلته، لا ينقطع عن مراقبة هذه المرأة الخمسينيّة بمنظاره حتى أصبحت هاجسه، قرأت في وقت سابق مقتطفات من يوميّاته حين ينام، أو حين تأخذه الشابّة الشقراء إلى الحمام كي يستحم…
"لأوّل مرّة بعد رحيل أمّي أشعر بيدٍ دافئة تمسّد شعري بحنان… بكيت حين ابتعدت…"
أذكر جيّداً ذلك اليوم… خرجنا معاً إلى الحديقة التي تفصل بين العمارتين، كان يوماً مشمسا ورائعا، رغم لسعات برد شهر شباط، امرأة ذات بشرة بيضاء صافية كالحليب، وعينين زرقاوين، وشعر قصير غزا بعض شيبٍ شقرته، خرجت من العمارة المقابلة مع كلبها الصغير، تركته يمرح فوق العشب الأخضر، ابتسمت لصاحبي حين لمحته، ولوّحت له بيدها تمنّيت أن تقترب أكثر، وتتحدّث معه، أشفق عليه من وحدته واكتئابه، انحنى يداعب كلبها حين اقترب منه، ابتسامةٌ عذبة علت وجهها، وضعت كفّها على رأسه شاكرةً، سألته عن اسمه… دموع شفيفة غمرت عينيه حين ذهبت، يوم أمس لم ينم، حتى التلفاز لم يشغّله كعادته، ليشاهد مباراة كرة قدم، يتحدّث مع أمّه، سمعته يخاطبها بنبرةٍ خافتة وصوت منكسر كأنه ينتحب…
" يا أمّي… أنا ضائع يا أمّي… ما جدوى أن أكون هنا وأنت لست معي...؟
أتعلمين كم أشتاق لصحبة رفاقي هناك؟ كنت أملك ساقين يا أمّي أسابق بهما الريح؛ فتنهال عليّ حجارتهم الصغيرة وهم يحاولون اللحاق بي… أضحك بصخب… فيضحكون…"
نظرت بحزن إلى وجه أمّه وملامحها الرقيقة الصامتة، وتذكّرت حين سمعتهم في المشفى يتهامسون، حادث مروريّ مروّع، فقد أمّه وساقيه، وحين دفعتني الممرّضة إليه محاولةً مساعدته في النهوض والجلوس في حضني، رفض بقوّة وتشنّجت عضلات وجهه، صاح وهو يدفعني، "لا أريد هذا الكرسي اللعين…"، ضحكت في سرّي بإشفاق، "سأكون ملازما لك مثل ظلّك"، همست...
تأخّرت الخمسينيّة اليوم في فتح ستائرها حتى كاد ييأس…
" يا أمّي، لو أخبرتك أنني أصبحت أتعلّق بهذه المرأة؛ فهل تغضبين…
تتساءلين: كيف؟ أنا نفسي لا أعرف... فيها شيء منك…."
الليلة الثانية لم ينم، في داخله عنف من السخط قد غطّاه الصدأ، ليته يتحدّث معي، يأخذني في رحلة إلى عالمه الغامض، أين كان، ولماذا هو هنا، لماذا لا يزوره أحد، لكنني تذكّرت أن أصدقاءه انقطعوا عنه هرباً من كآبته…
رغم أجواء الحزن والاكتئاب التي أدخلني فيها معه مرغما، إلاّ أنني معجب بمثابرته، لا ينسى تسجيل أحداث يومه، رغم شحّتها، ولا مراقبة الشقراء الخمسينية بمنظاره كلّ صباح، ورغم علمي أنه سيحاسب على ذلك لو اكتشف أمره؛ إلاّ أنّني آثرت الصمت وأنا أرى ظلال سعادة تغمر وجهه حين يراها، ثم ينظر إلى أمّه كأنه يعتذر، أحببتها أنا أيضاً لأجله وتعوّدت على رؤيتها مثله… كتب يوماً:
" حفظت أوقاتها، كم هي منضبطة في مواعيدها، السابعة صباحاً تزيح الستائر، وهذا ما يسبب لي بعض ضيق، لماذا تبكّر هكذا؟ بعد أن تؤدي طقوسها الصامتة مع الصورة، تجلس لتناول إفطارها، ببطء شديد تأكل وهي تتصفّح الجرائد ومجلات الدعاية والإعلانات، لم أرها يوما بملابس النوم، أنيقة، متهيّئة دوماً كأنها على موعد، بعدها تختفي، أظنَ أنها تقوم ببعض الأعمال المنزلية، أو تذهب إلى عملها، قبل السادسة عصراً تخرج مع كلبها الصغير في نزهته اليومية، وفِي السادسة والنصف تتناول عشاءها، لم أرها يوماً تتناول طعام الغداء، نظامهم يختلف عن نظامنا، أذكر والدي حين يعود من العمل، يا ويل أمّي إن لم يكن الغداء جاهزًا في الثانية بعد الظهر... أين أبي الآن، وأين أمّي؟ لماذا رحلا بدوني، هل التقيا في الجنّة، أو في… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أكيد في الجنّة؛ فأمي كانت النقاء بعينه، وأبي يشعّ طيبةً رغم مزاجه المضطرب، يثور لأتفه الأسباب، يسبّ ويلعن، وقد يحطّم ما تناله يداه؛ فتنزوي أمّي باكيةً بصمت، أذهب إليها، أحتضنها وأقبّل رأسها وجبينها؛ فتقول باكيةً كأنها تعتذر عنه: كان الله بعونه… الحرب أتلفت أعصابه، واستشهاد أخيك قضى على ما تبقّى من صبره وحلمه…
- وأنت يا أمّي؟
- أعيش لأجلك يا صغيري
آخر مرّة كتب، وكان وجهه ترابيّا: "لم تقترب منّي اليوم كعادتها، تبدو حزينة، واهنة، ( هاي )، كلّ ما قالته، وابتسامة باهتة رسمتها، سرعان ما تلاشت، وابتعدت وهي تلوّح بيدها، حتى كلبها الصغير نبح بصوت رفيع مستفز…”
كيف أخبره أنّهم هنا لا يفعلون أكثر من ذلك حين يقابلون صديقاً أو قريباً… أو حتى حبيبا
تقلّبات مزاجه، الحزن النبيل الصامت في عينيه، هدوؤه لأيام ثم ثورته المفاجئة، جعل الخوف يغزوني، حتى صوته أصبح زجاجيّا بارداً، ماذا يمكن أن يفعله شابّ في العشرين، مكتمل الصحة والرجولة، وحيد ومكتئب، يحسد حتى النملة الصغيرة حين يراقبها تتحرّك بحرّية؟ كتب يوماً ودموعه تغرق عينيه: " أشتاق لحديقة بيتنا الواسعة، لنخلتنا البرحيّة، لحجارة الصغار في حارتنا وهم يقذفون عذوقها “
خمسة أيام لم يغادر فراشه، حتى الطعام كان يرفضه، في اليوم السادس فتح عينيه، حزن عميق يغمرهما، تناول منظاره، تمنّيت أن لا يفعل… نوافذها مشرعة، لا ستائر، رجلان من الشرطة بملابس داكنة يضعان كمامات على أنفيهما، وقفازات صفراء سميكة تغطّي أيديهما، بين الحين والحين يخرجان رأسيهما من النافذة يستنشقان هواءً نقيّاً
مذعوراً حاول أن ينهض، لكن ساقاه خذلتاه، نظرت إليه بإشفاق، صورتها وهم ينزلون بها من شقتها قبل يومين على لوح خشبيّ، ملفوفة بقماش أخضر، ما تزال ماثلةً أم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى