د. سيد شعبان - دوامة النملة

سرت في مدينتنا شائعة لم يعرف مصدرها، تناقلها الناس في لهفة، لقد وصلت إلى الأطراف في ساعات معدودة، يبدو أن أمرا ما يصعب تفسيره يلوح في السماء، كل آونة يتناقل الوشاة خبرا، لم يحدث مثل هذا من قبل، لعل جهة ما يسرها هذا؛ ثمة أقاويل ظهرت مؤخرا عن نملة تسكن بناية -في الواقع لم أعر انتباها لكل هذا حتى الآن، أتجنب ما يغضب أصحاب الأقلام السوداء- قديمة جوار بيتنا؛ تصدر صوتا مدويا عند منتصف الليل؛ لم يحدث أن تباطأت أو نسيت عادتها، حين تفعل هذا يأتي طائر ذو لون أبيض يقف في شرفة البناية ومن ثم يتراقص هو الآخر بجناحيه ويناغم بصوت شجي؛ تعددت التفسيرات؛ من قائل: إنهما من الجن ويتخفيان وراء هذا القناع، أحد الكبار في المدينة لديه كتاب سليمان الحكيم ، ينظر فيه حين تدهمنا الغرائب، أشار إلى أن الطائر هو الهدهد الذي جاء من سبأ بنبأ يقين، وأما النملة فهي التي أنذرت قومها من سليمان وجنوده؛ لئلا يحطموا مساكنهم!
آخر ممن يلعبون بالبيضة والحجر؛ سخر من هذا التفسير الموغل في الحكمة؛ لا يعجبه ما ورد في الأثر؛ ادعى أن هذه حالة من تزاوج بين الأجناس؛ تطور طبيعي أرجعه لما هرف به الرجل الذي قال إن الإنسان أصله قرد.
ومن يومها ونحن نتقافز في الجبلاية فخرا بذلك النسب العريق، حتى إنهم أوصوا بأن يعمم هذا اللقب على المواليد الجدد.
تفسير ثالث أنسيته؛ يبدو أنني مصاب بخرف الذاكرة، مرض يضرب المقبلين على العجز، ربما يعود ذلك التفسير إلى أن حاكم المدينة هو من أشاع هذه الحادثة العجيبة التى لم ترد في أساطير الأجداد ممن كانوا يختزنون تلك الحكايات لليالي الشتاء الطويلة؛ معركة بين إبل الجنة والنار حين يحدث البرق والرعد، تنتهي بأن يتساقط المطر، لا غير هذه المسامرات يضيع وقت الفراغ، أو تكون الحياة رتيبة فنشعر بالملل الذي تذهب به نسوة في المدينة يرتدين ثيابا مخملية.
اعتدنا على هذا، نجتر الحكاية وراء الأخرى؛ فمصارف النقود شفرتها مرهونة بأن نتداول هذه الخرافات حتى يهبنا أصحاب الدماء الزرقاء ممن يسكنون بلاد الثلج ما يملأ أمعاءنا الضامرة.
جاءت الصحافة بمن صور النملة وهي تتراقص في مهارة تحسد عليها، وقف الطائر الذي يشبه الهدهد يترنم بقصيدة من غزل فج.
تمايل الناس في نشوة؛ نسوا أمعاءهم الفارغة والتي تصدر صوتا أشبه بحجري الرحى حين يأكل بعضهما بعضا، نملة تدار من بعيد؛ يقول أحد الخبثاء ممن يظنون سوءا إنها آلة صنعت في بلاد الثلج حتى تنسي البلهاء الفقر الذي يرتدون سراويله الممزقة.
لم يستمع أحد إلى ترهاته؛ مدينتنا محاطة بعناية الله؛ يهبنا ما نفخر به دائما.
استغل حاكم المدينة الأمر بأن أطلق على الشوارع والميادين أسماء جديدة، هذا طريق العصفور، وتلك منطقة الغراب، أما الميدان فهو خاص بالبومة الحكيمة، توافد الزائرون إلى مدينتنا؛ التجار دهاة أقاموا سوقا للنمل وآخر لأجمل ثوب زفاف ترتديها الملكة.
لا داعي للقلق على صحة النملة إنها في حالة مخاض عجيب؛ تعددت النبوءات: ستلد نملة بجناحين، لا سيكون طائرا برأس نملة، جاء رجال التاريخ الطبيعي ممن يفسرون ظواهر الحياة؛ أعدوا مسكنا مجهزا لتلد فيه النملة؛ هل أخبرهم أحد أن الولادة وشيكة؟
توقفت حركة القطارات في المدينة خوفا على صحة النملة الحكيمة، تنازل الجوعى مختارين عن رغيف من طعامهم لها، الفلاحون نذروا صفائح من القمح للمولود الجديد؛ تعاون غريب لم تشهد له المدينة وقراها مثيلا من قبل.
أذاع التلفاز الوطني النبأ العاجل: طائرة مجهزة تتوجه إلى مدينة النملة الحكيمة؛ لتكون تحت تصرف الطاقم الطبي.
استقبل الفقراء والذين تلد نساؤهم في الحارات والأزقة النبأ بسخرية مرة؛ تمنوا مكانها، ليتهم كانوا مثلها؛ إنها لذو حظ عظيم؛ كانت تلك كلمة شيخ الزاوية حين نلجأ إليه في الشدائد؛ لا يترك أمرا إﻻ ويلتمس له تفسيرا، يجعلنا نبتعد عن طلاسم المدارس التي لا تجدي نفعا كما يحلو له أن يدعي.
تعاركت الغربان مع الحمام؛ انتهزها الهدهد فرصة وهرب مع نملته إلى مكان آخر، رجال الأمن في هم شديد؛ لقد تسلل أعداء الوطن ودبروا تلك المؤامرة؛ أعلنت حالة الحزن في أرجاء المدينة، خرج الناس منددين بما حدث، دارت مناقشات ساخنة عن أسباب ذلك الهجوم.
على أية حال أخرجت النملة لسانها في بلاهة ومن ثم استلقت على ظهرها يعبث فيه الهدهد بمنقاره أعلى شجرة التوت جوار ضفة النهر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى