مأمون أحمد مصطفى - يوم من أيام المخيم

أصبحنا وأصبح الملك لله، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا واليه النشور، اللهم بارك لنا في هذا الصباح وقنا شره، الله واكبر، لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب يسر ولا تعسر.

صوت والدي الذي يصحو في كل يوم باكرا، يتناهى إلى مسامعي حين تبدأ خطاه بالتوجه نحو المطبخ، ليُحَضر إبريق شاي الصباح الذي لم يطلع بعد، ليجلس بعد ذلك مع أمي في قاع البيت يستدعيان ذكريات اختزلتها الذاكرة اختزالا عجيبا ومدهشا، ثم ينتقلون مرة واحدة للتسبيح والدعاء، ليعودوا للحديث عن الدنيا ومتاعبها، فتسبيح ودعاء، وهكذا، حتى تبدأ سماعات المسجد بالخشخشة إيذانا ببدء الآذان، فيقومان نحو المغسلة لتبدأ دورة الوضوء مع الأدعية المرافقة له، ثم يتناهى لمسامعنا أصوات الجيران وهم يتحدثون، يضحكون، يوقظون أبناءهم للحاق بصلاة الجماعة.

الطريق من الزقاق للشارع الرئيسي لا يستغرق من الوقت إلا مجموعة من الخطوات التي لا تتعب طفلا، لكن هذه الخطوات تكون مشحونة بالحديث، بالأصوات العالية والمنخفضة، بالأدعية، بصوت الملاعق وهي تدور بأكواب الشاي فتبدو كرنين عذب له امتياز التفرد والروعة، بالسعال المتقطع والمتوالي، ليأتي صوت الزوجات والأمهات منبها من الضرر الذي يلحقه التدخين بالصدر والحلق، صوت الأواني وهي تصطدم ببعضها في المطابخ التي تتهيأ لتحضير الزوادات وكسر السفرة، لتشكل باصطدامها قطعة موسيقية خاصة لا يحس روعتها وتدفقها إلا ابن المخيم الذي ارتبط بهذه الروعة ارتباط الروح بالحياة، دعوات الأمهات والآباء الخارجة من نبع القلب الصافي صفاء الرحمة، صراخ الأطفال، وعصبية زوج أو أخ كبير، أصوات عديدة متضاربة، مختلفة، لكنها تنتظم في سلم موسيقي رائع، لتنساب في أروقة المشاعر انسياب الجداول في قلب الأرض، انسياب نسمات الصيف الناعمة الطرية في مسامات الجلد وتعرجات الدماغ، لتمنح الذات نشوة غير موصوفة.

وما ان تضرب عيناك الشارع، حتى تفاجأ بالحياة الغاصة الضاجة، جموع من الناس تتحرك باتجاهات عكسية، يلقون التحية على بعضهم، تحية الصباح الموزعة بين ألفاظ متنوعة، أشكال متنوعة، فتحس جزالة اللغة وتلمس امكاناتها، وجموع أخرى تفترش الرصيف أو جدار قصير، وجمع اخر يتكوم أمام إحدى البقالات، وجمع أمام مقالي الفلافل وجرار الفول الممتدة على طول الشارع الرئيس للمخيم، سيارات العمومي التي تصطف على امتداد الشارع لتنطلق بالناس إلى جهات العمل، نساء ورجال، شباب وشابات، أطفال وطفلات، مسنين وعجائز، خليط مركب، ملون، في الملابس، في الشكل، في اللون، في طبيعة العمل، وفي الهدف.

تخطو نحو بقالة "أبو العبد الحافي" الملاصقة لنهاية الزقاق وبداية الشارع، فترى ساحة البقالة تغص بالناس، أبو العبد منهمك انهماكا تاما في تلبية الطلبات، والأصوات متتابعة، " أبو العبد رغيف مرتديلا الله يخليك"، صوت اخر " علبة دخان امبريال "، " أوقية جبنة بيضاء "، " علبة لبن "، الدخائن المتوهجة بالأفواه تلمع هنا وهناك، أصوات محركات السيارات ورائحة دخانها يزكم الانوف، يعكر نسمات الصباح، ومشادة هنا أو هناك بين اثنين، تكسر روعة المشهد وتحطمه حين تبدأ الشتائم بالتنقل من نسمة لأخرى.

تخطو قليلا، خطوات معدودة، تلتصق بأنفك رائحة مقالي الفلافل، ويصلك حر الصاج المليء بالزيت والبخار الصاعد منه، تحدق في الناس، في الجمع الذي يتدافع للوصول إلى دور سريع، فترى الأيدي وهي تلوح بقوة وتنادي " حيدر أنا مستعجل، الان ستذهب السيارة " صوت " يا حيدر خلصنا يا أخي، شد ايدك " صوت اخر " مشان الله يا عالم، صفوا على الدور يا بجم، خلينا نخلص ". مشادة جديدة تكسر روعة المشهد وعذوبته. يخرج حيدر من خلف منصته الرخامية وهو يصرخ: " الطوشة مش هون، روحوا وخلصوا مشكلتكم بعيد عني، خليني اخلص شغلي ".

ترسل عينيك، الشارع من بدايته لنهايته يغص بالناس، بالأصوات المتشابكة، بالطلبات الملتحمة، دكان الصابر، الحوده، القلق، المصيعي، الأطرش، القيسي، أبو شاكوش، حياة، حياة صاخبة، سريعة، تندفع من جوف الظلام الذي كان يشد قيوده على المكان، نحو صباح بدأ يشقق طبقات الظلام ويفسخها. تدرج قليلا فترى الأسراب القادمة من أزقة مختلفة، سرب من زقاق حارة الشهداء، سرب من حارة المطار، سرب من حارة الحمام، سرب من حارة الربايعة، سرب من حارة البلاونه، وسرب من المربعة، كلها تسير بخطى واحدة نحو البقالات وبسطات الفلافل والفول، النعاس لا يزال يوشم الجفون والمؤق بظلاله، والغضب المتراكم، المعبأ من صعوبة العيش، صعوبة الحياة، قلة الحيلة، يظهر واضحا حين يفقد شخصا ما تماسكه بسبب نكتة صغيرة، أو طرفة محببة.

تغادر هذا كله، صوب المسجد، مسجد السلام، المنتصب في الشارع الرئيس للمخيم انتصاب التاريخ، تداهمك رائحة شجرة ليلة القدر المركزة حين تلامسها نسمة الصباح الصافية الطرية، فتنتشر الرائحة في خلاياك، تغوص بأعماقك، وتقتحم نظراتك خضرة الزيتون التي لا تغلق شفتيها عن التبسم، تلك الشجيرات التي غرست على حافة رصيف المسجد، ليتعانق عبير ليلة القدر مع خضرتها في ملحمة خاصة، ملحمة لا يقرأها، ولا يراها، إلا من تعودت قدماه على الوصول كل صباح ليستحم بعطر الإيمان، ويتنشف بجلالة الخشوع في صفوف متراصة، صفوف تهيم في رحلة علوية بين يدي الخالق.

وما ان تطأ قدماك عتبة المسجد الداخلية وتبدأ بخلع حذائك، حتى ينقض عليك إحساس جديد، إحساس يفصل بين عالمين فصلا تاما. هنا لا مجال للمشادة، للحديث الدنيوي، للكذب، للغيبة، للحسد، هنا تشعر بالندم المطلق على الأيام الماضية التي انقضت دون صلاة، أو على ما ارتكبت من آثام لا يعرفها احد غيرك، تبدأ نفسك بمحاسبتك، تضغط عليك بقوة، فتتمنى لو ان الأرض تنشق وتبتلعك. تتوضأ، فتشعر بان الآثام تتساقط من أطرافك ووجهك لتذهب مع الماء، تحس بالراحة، تقف لأداء صلاة تحية المسجد، فيأتيك إبليس مسرعا، مشهرا كل أسلحته، حاشدا كل طاقاته وامكاناته، تقف موزعا بين ركونك للإيمان، وانشدادك نحو وسوسات إبليس، تستنفر، تحاول التركيز، الغوص في بؤرة الإيمان، تنجح أحيانا، وتفشل في أحيان أخرى.

تنهي تحية المسجد والسنة، تدفع ظهرك نحو عامود المسجد أو جداره، تتلو آيات من الذكر الحكيم، سورة يس، سورة الإنسان، وأحيانا سور أخرى، تكللك الراحة، وتلفك الطمأنينة، تدخل قلبك سكينة هادئة، سكينة فيها فيض من نور المودة والإيمان، ينتصب المؤذن وتقام الصلاة، تنتظم الصفوف بخط مستقيم، تسافر في رحلة وادعة، رقراقة، ويتفجر فيك سلسبيل خاص، لا يمكن ان يتفجر إلا في صلاة الصبح، تنتهي الصلاة، تصافح الجميع وتدعو لهم بالقبول، يصافحك الجميع ويدعون لك بالقبول، ثم تبدأ مرحلة الاستغفار والدعاء، تخرج، فيصدمك اللون الأسود للشارع، ويصدمك العالم الخارجي بضوضائه وصخبه.

وعلى الشارع الذي بدأ يستقبل أشعة الشمس الأولى لليوم الجديد، تبدأ الحياة تسري في عروق المخيم وتفرعاته، المقاهي تستعد لاستقبال العاطلين عن العمل وكبار السن، محلات الجزارة تشحذ سكاكينها وسواطيرها، ترفع كلاباتها على مواسير الحديد الممدودة فوق المصطبات الخارجية، الخراف والعجول تقف مطمئنة سعيدة، دون ان تعرف بان اللحظات القادمة، هي اللحظات التي ستراق فيها دماءها وتزهق روحها، لكنها قبل موتها، ستثغو وتخور، ثم تنتفض بكامل جسدها لتضرب رأسها وجسدها بالمصطبة، ولكن ذلك كله لن يفيدها شيئا على الإطلاق، أما أبو صالح، فانه يباشر غلي الماء استعدادا" لمعط" الدجاج بعد ذبحه.

والدي يبدأ استعداده اليومي للتسوق، يرتدي ملابسه المكوية، يغطي رأسه بالحطة البيضاء، ثم يرمي فوقها عقالا اسود، وبيده اليمنى يحمل سلة مستطيلة ومخرمة من البلاستيك، وقبل ان يخرج يتجه نحو والدتي وهو يقول: " أنا متسهل يا أم العبد، محتاجة أي شيء غير الخضار واللحمة "؟ فترد أمي " لا ولا شيء، الله يسهل أمرك وينور دربك ". ويخرج والدي وأمي تشيعه بنظرات حنونة، أستطيع من خلالها ان اعرف مقدار الحب الذي يربط هذين المسنين برباطه. وما ان يغيب والدي في التواء الزقاق، حتى تعود أمي لتأدية واجباتها البيتية بنشاط وهمة، لتخرج بعدها للجلوس على مصطبة باب البيت كنا قد صنعناها لها خصيصا، وذلك لأنها لا تحب الجلوس على الكرسي الخشبي أو البلاستيكي، فهذه الكراسي حسب رأيها، تجلب أوجاع الظهر وأمراض المفاصل، تماما كالطعام الذي يطهى من غير لحم، فانه يفسد الصحة ويهد الحيل.

وعلى الشارع الرئيس للمخيم، المشهد خلاب، رائع، ينبض بالحياة، بالفرح، بالأقدام، بالخطى، بالتدفق من كل مكان، من كل زقاق وتفرع نحو الشارع. أطفال، يافعين، صبايا كأعواد وأزهار الجوري، يحثون الخطى نحو المدارس الواقعة على طرف المخيم، على الشارع الواصل بين مدينة طول كرم ومدينة نابلس، ومن هنا اخذ اسمه " شارع طول كرم نابلس ". الفتيات بالمراييل المقلمة باللونين الأخضر والأبيض، دلالة على دخولهن المرحلة الإعدادية، أما الفتيات الأخريات، فمرايلهن مقلمة باللونين الأزرق والأبيض، دلالة على أنهن ما زلن في المرحلة الابتدائية، أما الأولاد فيرتدون ملابسهم العادية حيث لا تميز فيها بزي خاص.

أسراب، أسراب، تتدفق، تسمع ضحكة هنا، وقهقهة هناك، جمال يغمر الشارع، أنوثة تسيل على الطرقات، أنوثة تنبعث منها روائح بكارة الياسمين، وينتشر حنانها بالأجواء، وهم الواجب المدرسي يضرب بقوة في أذهان وعقول الطلاب والطالبات، مطارق الخيزران والرمان تنتظر هناك، لكن كل هذا لا يلغي ولا يؤثر في سحر المشهد.

أصحاب المحلات والدكاكين يجلسون على الأبواب، ومقالي الفلافل تعلن استنفارها من جديد، فأرغفة الطلاب يجب أن تجهز سريعا حتى لا يفوت وقت المدرسة، وعلى امتداد الشارع تنتشر مجموعة من الشباب، تراقب، تتأمل، تلاحق الفتيات، وما أن يمر سرب من أمام احدهم حتى تنطلق من فمه تعليقات حالمة " الحلو حلو يا عمي "، نظرة واحدة مشان الله " الحلوة بطلعلها تكبر علينا " ارحمونا مشان النبي " وينتا ناويين تشفقوا علينا ". على امتداد الشارع جمل تلاحق الفتيات، بعضهن يطفو الخجل احمرا على وجوههن، وبعضهن يبتسمن إعجابا، وأخريات يكدن يقعن أرضا من شدة الحياء، وإذا ما وقفت فتاة أمام احد المعلقين، فانه يصاب بالدهشة والذهول، تسقط الدخينة من بين أصابعه، ويبدأ بالارتجاف الشديد، ويغزوه شعور الرعب والخوف، فهو يعرف تماما ما الذي سيلقاه لو رفعت تلك الفتاة صوتها موبخة له، مئات الأيدي والأرجل ستنبثق من المجهول لتبدأ بلطمه وركله، وبعضها سيسقط من السماء فوق رأسه، لذلك ما أن تقف الفتاة حين سماعها تعليق حتى يخرج هو من دهشته وذهوله راكضا دون أن يدير نظره خلفه ليعرف إن كان هناك من يلاحقه ام لا، تتحرك الفتيات وهن يبتسمن ويرددن " الوقح وقح وجبان " أو " بدل ما تهرب مثل النسوان احترم حالك ".

وفي اللحظة التي يدق فيها جرس المدرسة معلنا بداية الانتظام في الصفوف في الساحة الخارجية، تتجه عيناك للشوارع والأزقة، فيدهشك اقفرارها، بعد أن كانت تغص بالأرجل والأجساد والأصوات والروائح، الضحكات والابتسامات الخجلة والحياء، رعونة شباب يقفون على حواف رصيف ينفثون لواعج طفولة ومراهقة في نظرات وتعليقات، هدوء شديد ينشق عن صوت موحد قادم من فضاء واسع ليضرب الآذان والنفوس، صوت الطلاب والطالبات وهم يتلون معا سورة الفاتحة استعدادا لدخول الصفوف والانخراط في دوامة يوم موزعة لحظاتها بين الكتب ومطارق الرمان والخيزران.

مرة أخرى تتفجر الشوارع والأزقة بالرحمة، بالحنان، بالأمومة، بالدفق الطيب المنساب من وجوه ربات البيوت وهن يتوزعن على المحلات التجارية فرادى وزرافات، يلقين تحية يوم جديد، تحية مخلوطة بأدعية صادقة حارة.

صباح الخير يا ام خالد، كيف أصبحت اليوم، إن شاء الله أحسن؟
الله يخليك يا ام محمد، الله يخلي ولادك يا رب، الحمد لله على كل حال، كيف انت يا اختي؟ كيف الأولاد والبنات؟
كلهم بخير وببوسوا على ايديك، والله همهم كبير، مدرسه، وكتب، ملابس، أكل، الله يجبر زلامنا ويزيد من رزقهم.
آمين.
هاي ام عمر، من زمان والله ما شفتها، أهلا وسهلا يا ام عمر، تعالي، تعالي.
الله يخليكن أنا مستعجلة، ما عندي وقت، مره ثانيه إن شاء الله.

أصوات، دعوات، بسمات، ضحكات، ثرثرة، نميمة، استغابة، بكاء، شهيق الم، شكوى، حمد، جمل تختلف وتلتقي، تتناقض، تتنافر وتتجاذب، مزيج من هموم حياة وفرح وجود، لكن كل هذه، دلالات على أواصر وروابط.

الصناديق المطروحة على ارض بسطات الخضار، تتناوشها الأيدي التي تقوم بعملية الانتقاء الخبيرة بطريقة التخلص من خداع المزارعين الذين اعتادوا على خلط الطازج بالمضروب، أنامل تملك مرونة خبرة التنقل بين حبات الخضار والفواكه، أنامل تدور في الصناديق بحيوية ونشاط وخفة ومهارة، والألسن تدور في الأفواه بنفس الحيوية والنشاط والخفة والمهارة، فهذه تبحث بين حبات الخضار والفواكه، وتلك تبحث في أسرار البيوت وخصوصية العائلات، ووسط كل هذا، يضيع معنى الوقت وتفقد عقارب الساعة أهمية حركتها على ميناء الزمن، وصاحب المحل أو البسطة يجأر من وقت وآخر بغضب وحنق زاجرا وناهرا، معجلا خطوات الوصول للانتهاء من كل هذا التمازج العجيب.

الانتهاء من خبرة الانتقاء، يشكل بداية جديدة، خبرة يكرهها ويمقتها الرجال، لذلك تعتقد النسوة بأن فقدان هذه الخبرة دليل دامغ على استهانة الرجال بتعبهم وعرقهم، بل ويذهبن إلى ابعد من ذلك، حين يصرحن بأن كل الرجال يستمرؤون الضحك عليهم وخداعهم، ليصبحوا في النهاية حاملين لصفتي البله والهبل، وعلى صاحب المحل أو البسطة أن يفقأ مرارته مع بداية ممارسة هذه الخبرة، لان دمه سينشف، وروحه ستطق، وصبره كله سيتحول لتسرع يؤذي الأعصاب، لكنه في النهاية سيخضع وهو يضرب جارور النقود بيده مع الزبد المتصاعد في عقله وقلبه، وفي أحيان أخرى يندفع نحو الأكياس المملوءة ليفرغها في الصناديق من جديد وهو يصرخ بعبارات تدل على عدم رغبته في البيع أو الرزق القادم من هذا العناء، أما النسوة، فيغادرن وهن يتهمن البائع بالسرقة والحرمنة وعدم معرفة الله، وهذا الاتهام قائم في كل الظروف والأحوال، سواء حصلن على السعر الذي يردن ام لا، فالإيمان بلصوصيته وحرمنته غير فابل للشك أو النقاش.
غرفة الانتظار في العيادة الصحية التابعة للوكالة، تغص بالنساء والأطفال، تمور بالأصوات والأحاديث المختلفة المواضيع والصور، لكنها تصب في محور واحد، الشكوى من مصاعب الحياة، وخبث الكنه والجارة، أثواب مختلفة الألوان، ووجوه تتركز في مساحات الزمن المعبأ بالذهول.
خير ماله الولد يا أم محمد؟
والله ما بعرف يا أختي، اليوم صحي من النوم ساخن، الله يلطف فيه وفينا.
وانت، خير إن شاء الله بعيد عنك المكروه؟
لا والله، قربي أوشوشوك، عيب يسموعونا الناس.
لا والله؟ معقول؟ ما عليك شر، انت مليحة وبنت أصول، وما بتستاهلي الا كل خير.

في زاوية أخرى، بعض النسوة يتحلقن وهن يهمسن بصوت يسمعه المار من الشارع الفاصل بين العيادة والبقالات.
انتن مش عارفات انه أبو حسن طلق زوجته من يومين.
لا والله ما بعرف، يا حرام، والله زوجته فقيره.
فقرها من نقرها، هاي حرباي بسبع وجوه وألف لون.
خافي الله يا مستوره.
يعني هو اللي بحكي الحق بتنخزق طاقيته.
بينك وبين الحق الله.
وليش طلقها؟
الله واعلم، أنا ما بحط بذمتي، وهي تنفخ داخل صدرها.
والله ذمتك بتسع المخيم واللي فيه.

ويلفت نظرك منظر النساء العائدات من المدينة، بعد انتهائهن من تسوق، وهن يضعن " المِدْوَرَة ْ"- وهي عبارة عن فقطعة قماش ملفوفة حول نفسها لتشكل دائرة توضع فوق منتصف الرأس- على رؤوسهن، والسلال أو خبايا الزيت، أو أي شيء مستدق أو ثقيل، حرات الأيدي، سريعات الخطى، وما يقف على رؤوسهن، يظل متوازنا بطريقة تثير الدهشة والاستغراب.

تقفر الشوارع من جديد، إلا من بعض المتبطلين الذين يلتصقون بمقاعد المقاهي يشعلون دخينة من أخرى، أو يسحبون أنفاسا عميقة من نرجيلة تتقلب مياهها بقوة، ثم تسكن، وأصحاب المحلات يتحلقون مع بعضهم أمام متجر واحد، يرمون نظراتهم نحو محلاتهم ودكاكينهم، يخوضون في أسرار البيوت، ويفتحون صفحات الديون المتراكمة على أهل المخيم، يتهامسون بعدم الرضا من فلان وفلان، ويتهمون فلان بتهم يندى لها الجبين، وكل زادهم وعتادهم انفعالات تتعلق بالبيع والمتاجرة.

ولكنك، إذا ما خطوت داخل الازقة، فانك ستجد حلقات متفرقة للنساء، هنا وهناك، يجتمعن حول وعاء لتنقية الأرز من شوائبه، أو للف بعض الدوالي والملفوف، أو"لتقطيم" الملوخية، أو الزعتر، وأحيانا للحديث ليس إلا، وكلها حلقات تنوء بحمل اللسان في الحلق، وتضيق ذرعا بالصمت الذي قد يجلب نوعا من الهدوء أو الراحة من استغابة الناس والنم عليهم.

هذه الحلقات، كانت، ولا زالت، المشكلة الكبرى، بين الرجال الذين يرفضون تجمعات النساء، على اعتبار أنها تجمعات شياطين، تغذي المغيبة والنميمة، وتجلب القيل والقال، مما يتسبب بمشاكل بين عائلات كان يجمعها الود والصفاء.

لكنهم هم، الرجال، الذين يتخذون من حافة المسجد، أو ساحة بقالة، مركزا لتجمعهم، فأنهم، لم يحاسبوا أنفسهم، على الغيبة والنميمة التي يمارسونها بشكل يبدو انه للنقد اقرب من الغيبة، فهم برجولتهم، وهدوء ملامحهم، وتقطيع نبرات جملهم، يحاولون تغليف أخطاءهم بوجه غير وجه أخطاء النساء شكلا وظاهرا، لكنهم بالحقيقة، أكثر تأثيرا، وأقوى تعرية للناس من النساء اللواتي يتناولن الفضائح المكشوفة المعروفة، أما هم، فإنهم، بحكم حركتهم واتصالهم بالمجتمع، يكشفون فضائح وأسرار، كانت قبل أيام، في علم الغيب، وطي الكتمان.

وفيما أنت تجول بين الأزقة، ترى بعض الأطفال المنتشرين على حواف الحارات بعد أن تسلقوا سوق المدرسة، مولين الأدبار من مدرس طالبهم بواجب لم ينفذوه، أو طلبا للخلاص من رتابة اليوم والصف.

ينتصف النهار، تعلن الشوارع استعدادها من جديد، يبدأ الصخب، حين تفتح المدارس أبوابها أمام الطلبة ليغادروا نحو البيوت، تفيض الجموع فيضا، ويهدر الجو بموجاتهم المتلاحقة، معركة تنشب هنا، ومعركة تنشب هناك، وبعض المارة يقف حائلا بين المتعاركين، لكن صخب الجموع يستمر بالهدير، وتتعالى أصوات الصفير والمناداة، يرقب الطلاب الفتيات بعيون حذرة، ترتد خجلا وحياء، وتسير الفتيات من بين الجموع، بتمنع أنثوي يسيل على الأرض أنوثة مغلفة بالرقة والحنان والاستحياء.

رائحة الطبخ، تحاصر الأجواء، وتشدها إليها، تعوم الرائحة الزكية على نسمات الهواء، فتصدم انفك بقوتها، وتنوعها، ويشكل اختلاطها، إثارة عصية على المقاومة، وتبدأ الزوايا بسحب الجموع إلى أحشائها، فتفترق، وتتوزع، وتبدأ بالاختفاء التدريجي، وما هي إلا دقائق، حتى تجد الشوارع قد خلت من السيل الذي كان يندفع بقوة فياضة، مشكلا هديرا قاسيا وسط هدوء كان يستعد لاستقباله.

وإذا ما قادتك قدماك داخل بيت، فأول ما يلفت نظرك، المراوح الموزعة في السقوف والزوايا من اجل التخلص من حرارة الجو ورطوبته، رطوبة تكاد تمسك بالجلد مثل صمغ قوي، وتأتيك حركة الأم وهي تهرول بين المطبخ وبين المائدة المفروشة على الأرض، أو على "طبلية" مستديرة من الخشب، بهمة ونشاط، بفرحة وحنان، وهي تتلفظ بجمل تفيض روعة وأمومة لأبنائها وبناتها، وستلحظ دون أدنى شك، كيف تخفي بحرص وبشعور خاص بعض من قطع الدجاج أو اللحم للزوج الغائب في عمله.

دقائق قليلة، وتعج الأزقة بالبنات والأطفال، فهؤلاء يلعبن "النطة"، أو "بيت بيوت" أو "القال" أو " الخرز"، أما الأولاد، فإنهم ينقسموا إلى مجموعات، فمنهم من يتجه نحو السهول أو الجبال، باحثا عن متعة الدوران بين الأعشاب والزهور، وسرقة اللوز والبرتقال، أو البوملي، وبعض يهتم بجمع الأعشاب البرية التي تضاف للشاي، أو تستخدم كطعام، كاللوف والزعمطوط، واللسينه، والبقله، وقسم يبقى في الأزقة يمارس لعبة "الدقة والحاح"، أو " البنانير" أو "الرنه"، وغيرها من الألعاب.

يدهشك الصوت القادم من حلقات البنات والأولاد وهم يعلنون احتجاجهم على الغش الممارس من احدهم، أو القادم من معركة بين مجموعتين اثر خلاف على خسارة، أو انتقاما للكرامة اثر مسبة أو لعنة أتت من غيظ مكتوم.

ومن احد الأبواب يطل رجل ووسن القيلولة في عينيه، وهو يصرخ ويشتم، ويلعن الساعة التي أُنجب فيها الأولاد، كما يلعن كل الآباء الذين لا يتقنون تربية أولادهم، والذين ينجبوا ويقذفوا نتاجهم بالشارع، لكنه يفاجأ بوجود ولده بين الجميع، فيثأر للسباب الذي حاق به من ولده بلسعات الصفعات ووجع الركل.

يقترب المساء، وللمساء في المخيم نكهة خاصة، محملة بأريج زهور البيارات المحيطة به، البيارات المنتشرة بكثافة كسوار من خضرة حول منافذه جميعا، تعطيه رونقا خفيا، ينعش الجو، ويجعله أكثر شفافية، وإذا ما أضفت إلى ذلك، روائح الياسمين المعربش على الحيطان، ورائحة شجرة ليلة القدر المنتشرة على أبواب البيوت، وعلى بعض الأرصفة، تكون قد جمعت في ذاتك روعة المساء القادم من بين رموش النهار المستعدة للنزول نحو العين.

تعج الشوارع من جديد، بالمقاهي التي بدأت بإرسال روائح النراجيل، والقهوة، والشاي، واليانسون، لتتكاتف مع روائح مقالي الفلافل التي بدأت بإرسال بخار زيتها مع روائح بسطات الشواء.

في هذه اللحظات، تتعالى أصوات الناس من جديد، صحن حمص، صحن فول، واحد مسبحة، ومن مكان ليس ببعيد، دجاجة محمره، صحن لحمه حمره مع بعض أسياخ الكلى.

وعلى رصيف المقهى الأصوات تتعالى، واحد شاي، طاولة نرد للشباب، ورق لعب على طاولة حبيبنا فلان، واحد قرفة، واحد يانسون.

مساء ساخن، بحركة الناس والأولاد، تتقلب فيه الأشياء وتتنوع بروعة العفوية المنتظمة بكل ما فيها من اختلاف وتنافر، في لوحة رائعة لا يمكن لبشري على الأرض أن يجمع اختلافها وتنافرها، إلا في روعة المشهد وقدرته على التوحد والانصهار ليشكل بكل ما فيه وحدة لا يمكن فصل أي من مكوناتها.

يأتي صوت الآذان، رقراقا، ليثير في النفس نوازع الروح المنشغلة بالدنيا، تتوقف أحجار النرد، وتتوقف أوراق اللعب، تغلق المسجلات والمذياعات، ويستعد الجميع، للتوجه إلى المسجد.

تقفر الشوارع إلا من بعض الشباب المحتاج إلى زمن كي ينخرط في الصفوف المنتظمة بالمسجد، يأتيك همس النساء وهن متجهات نحو القسم الخلفي للمسجد، أمهات، وأخوات، وزوجات، فتيات وعجائز.

تنتظم الصفوف، تتراص، ترفع الأيدي بالدعاء والابتهال، ويأتي صوت الإمام، الله واكبر، يسود صمت غارق بالإيمان، بالذوبان في شعائر تتخلل القلب وتخضله بندى الخوف والرجاء.

تعود الشوارع لتحمل الضجيج المتناسق المتناغم، يعلو صوت المذياع والمسجل، وتضرب أحجار النرد الطاولة، وتأتي الأيمان المستثارة من هزيمة غير معترف بها، تتالى الاحتجاجات، والاتهامات، يحاول البعض التدخل للفصل بين المختلفين، لكنه يعود بندم حارق على تدخله فيما لا يعنيه.

في الأزقة يطيب السمر، فحيث درت، وحيث يممت وجهك، تصطدم بحلقة من حلقات الشباب والأولاد، أو حلقة من حلقات النساء، المدعومة بإضاءة باب البيت، أو عامود النور، والشاي الذي تتحرك الملاعق بأكوابه برنين خاص، بمذاق خاص، فهو شاي السمر الممزوج بنكات وأحاديث وقصص، وأحيانا بأسى وشجن، ودموع تهطل من عيون قرحها الألم وأضناها الوجع.
تتكون المشاهد كلها على الأرض، وفي الذاكرة، لتستقر بكل ما فيها من متناقضات داخل النفس، التي ترتب الأشياء بكيفية لا نعرفها، ولا ندرك لماذا يأتي إلى الذاكرة حدث ما في لحظة تكون النفس فيها بأقصى البعد عن الحدث أو ما يصل به، لكنه يستقر في عمق الوعي، كصورة تسجيلية على شريط مرئي، لينازع العقل والنفس في لحظة صفاء، منازعة نباح في ليلة غائصة في الهدوء والتأمل.

تحاول الخلاص من استبداد المشهد، لكنه يتجذر بقوة خفية بأعماقك، تشعر بالضيق، بالتعب، تتعوذ بالله من الشيطان، لكنه يستمر في الإيغال باستفزاز ذاتك الموزعة بين الغضب وبين محاولة الخلاص منه، تتأفف، ويبدأ خلقك يضيق، تتراكم مشاعر النقمة.

وفجأة يهزك شخص وهو يصرخ، ما بالك، أين شارد، السلام لله، يخرج المشهد من ذاكرتك وكأنه لم يكن، وعليكم السلام، سامحني، والله بالي مشغول.

تهبط من مكانك إلى الشارع، أباريق الشاي ودلات القهوة في كل بقالة ومحل، والناس تتحدث بالسياسة التي أصبحت محور حياتهم ونواة وجودهم، تصلك الشتائم المصبوبة على العرب، كنيران تصب غضبها على غيب غير مشهود، خلافات في الرأي، تتبعها ألفاظ عدائية جارحة، يتجمر الموقف ويتلظى المتحدث، يصبح همه الوحيد النيل من محاوره، يغضب، فيعلن خروجه من الجلسة.
مجموعة من الدعاة تقترب من المقهى، تتوقف أحجار النرد، وتختفي الأصوات، بعض الشباب ينسل من مكانه بهدوء متقن، والبعض الآخر يشغل نفسه بشيء ما، وبعض ينصت للمجموعة التي تفيض بالطيبة والسماحة، لحظات وتنهي المجموعة عظتها بدعوة الموجودين إلى المسجد بعد صلاة عصر الغد للمشاركة بالموعظة.

يبدأ الليل بالتعمق، بنشر غلالته على المساحات كلها، فتبدأ الأجساد بالتراجع نحو البيوت، وهي محملة بهموم الغد والرزق والمعاناة.

تقفر الشوارع، وتغيب رائحة الشواء والفلافل، لتنتشر روائح البيارات القادمة من السهول المحيطة بالمخيم، لتتشابك مع روائح الياسمين المعربشة على الأسوار والجدران ومداخل البيوت، ولتندمج مع روائح العطرية وليلة القدر، وليتوحد المشهد مع القمر المرسل ضياءه بتأنق حياء يزيده روعة وبهاء.

قليل من الشباب يظل مسامرا الليل الغائص بالعتمة، يتحدثون عن الرتابة القاتلة، والبطالة المحكمة قبضتها على مستقبلهم الموزع بين النوم والمقهى والسمر.

أصبحنا وأصبح الملك لله، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما آماتنا واليه النشور، اللهم بارك لنا في هذا الصباح وقنا شره، الله واكبر، لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب يسر ولا تعسر.

يوم جديد.


مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 2006




من مجموعة الموت في لندن القصصية، الصادرة عن دار كنعان ومؤسسة عيبال في دمشق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى