باسم حبوب العذاري - فزاعة..

أنه يتدفق، خليط من الماء الأسود والأبيض على شكل دفعات كانت كافية ليحمل بين دفتيه العشرات من الأسماك الصغيرة، وهناك فتية قلائل ينظرون بأعين ولهة، وأكف مرتعشة، قد تطول عليهم المدة، ولكن هذا الانتظار يجعلهم يهملون ما حولهم؛ التوجس الدائم والقلق المستمر، فلم يحاولوا الالتفات إلى الجهة المغايرة.
اقترب منهم فتى يبلغ السادسة عشر من العمر، تفرس فيهم وأبصر ما يحمله البعض منهم، أرجع الخطى وهمهم بكلام لم يفهم، بان عليه التعب والشرود، فبدأ وكأنه لم ينم منذ وقت طويل، وتهادت من شفتيه أحرف مبعثرة ثم أطلق صيحة عظيمة، فتعلوا ضحكاتهم ويعلوا صراخهم مرة ثانية، عند ذلك ترتسم خطوط الكآبة على وجه الفتى، فهو لا يبتعد عن ذلك المكان الخالِ من كل شيء، يحيط به الخوف، ويحدق طويلا في الوجوه، فتبدوا له العوالم الهامشية أشد وجودا وأكثر تأثيرا مما هو موجود على الخارطة الحقيقية، فلا زمن يعدل الموقع الأخير الذي يحتمل بعض أولئك الحمقى الذين لا تحتملهم الذاكرة بأي حال من الأحوال.
كانت خطاه حائرة مثل خطى مجنون، فتقترب من المكان ثعالب بشرية كانت تبعث لديه هواجس بغيضة لا يحتملها على الدوام، وتعبث معه دون سبب.
كان يرتدي غلالة سوداء، وعيناه شاحبتان وغائرتان، فقد أغلب أسنانه في زمن ما، فظهرت البقية مبعثرة كقطع الدومينو، وبدأ كظل رجل لا يمتلك من أمره شيء، وبصعوبة بالغة يمسك مقاليد نفسه، التفت اليهم وخاطبهم ببرود:
ــ يمكنكم الحصول على تلك الأشياء بلا ضجيج ودون تلك الطريقة الفجة في أخذ أشياء لا تعود لكم.
ثم توقف كالفزاعة في وسط حقل للذرة، وهم كالغربان العابثة تنهش في جسد المكان غير ابهين بشيء، فصرخ به أحدهم باستهزاء:
ـ لسنا في عجلة من أمرنا حتى لو تأخر المشهد أكثر، فعندها سنبصر تعابير مضحكة تعلو وجهك، وسنبتهج أكثر.
لم يعد أمامه سوى الابتعاد للخروج من المأزق الذي وجد نفسه فيه، تحرك قليلاً إلى الأمام ثم التفت إليهم وكأنه قرر الرضوخ والقبول دون تأخير، رفع رتاج الباب الخشبي الكبير ودخل المنزل.
علت الضحكة وجوه أولئك الرجال، برؤوسهم الكبيرة وأجسادهم الضئيلة كعيدان الثقاب، ثم فتح الباب مرة ثانية، فأختفى جميع عيدان الثقاب من المكان في لحظة واحدة، ولم يبقوا ورائهم سوى غبار متطاير، نظر الصبية الصغار صوب الباب، فوجدوا فزاعة حقيقية تحمل في يدها بندقية صيد محشوة بشكل جيد.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى