خيرة جليل - مازن عرابي تجربة جادة تشق طريق الاحترافية بتأني

إن الفنون تأخذ وضعها الخاص في حياة الإنسان، إذ تشكّل طرائقه المتفرّدة والمختلفة من حيث طبيعة وسائطها وبنائها واشتغالها الدلالي، بعدا و أنماطا تعبيرية تقدّم تصوراته عن ذاته وعالمه، مما يجعلها صياغة للتجربة الإنسانية، بوسائط متعددة بصرية.
اليوم سنتناول أعمال الفنان التشكيلي مازن عرابي لنزيح اللثام عن لغته التشكيلية ومدى قوتها. فمن هو التشكيلي مازن عرابي؟ وكيف مارس انزياحه الفني للتعبير عن أفكاره الفنية ....؟ وفي إطار أية مدرسة تشكيلية اختار التعبير عن همومه اليومية وقضاياه الفنية ؟
الفنان التشكيلي مازن عرابي فنان لبناني الجنسيه مقيم بدبي، درس الفنون بمركز أدهم إسماعيل للفنون، لكنه فضل التخصص بالتجارة والاقتصاد بجامعة دمشق. هو مصمم ملابس للرجال ومتخصص ببيع ماركات ايطالية . أقام عدة معارض فنية بدول مختلفة وأعماله من ضمن المبيعات بالسوق الفنية بدول عربية وأجنبية .
إنّ "الأثر الفني يدخل مفتوحا" كما يُرشدنا " Umberto Eco ) اليه، سواء كان كتابة أو تصويرا، ومتعدد مجال الرؤية والتأويل، والقارئ بدوره يظل عنصرا مشاركا في تحديد دلالته. بل انّ القراءة الفنية هي الطريقة المثلى لفهم العالم، وطريقة لرؤية الأشياء وضبطها في إطار نسقها الفكري، كما أنها طريقة تفكير تتجدّد مع تجدّد التجارب الفنية وتعدّدها، وبذلك فإن قانون القراءة يفرض أن تحمل اللوحة خطابا معينا، وللوصول إلى ذلك فإننا نستعمل وسائل وطرائق نسميها التقنية أو اللغة التشكيلية، ولنتمكن من أن نميط اللثام عن هذه اللغة يتحتم علينا أن نقف عند السند الفني والكتلة اللونية وانتقاء الألوان و مزجها وتخريجها وتوزيعهابالفضاء الفني، و تشخيص نوع الانزياح الفني لدى الفنان مازن عرابي بعيدا عن الكلمات الأدبية الفضفاضة أو الفلسفية الموغلة في الغموض حتى يستطيع المتأمل لأعماله الوقوف عند مضامينها الفنية والجمالية والفكرية.
إن اللون لدى مازن عرابي علامة تشكيلية ذات دلالات متعددة ومتشعبة وبأبعاد فكرية ورموز تشكيلية تعمل على تكثيف دلالة اللون ليبقى النص البصري مفتوحا في التأويلات ، وتتعدد القراءات التأويلية بتعدد المتناولين له بالدراسة والتمحيص بحسب خلفياتهم الفكرية أو الفلسفية و الجمالية المتنوعة كذلك، مما يجعل النص مثيرا للاهتمام لما يتوفر عليه من معاني تشكيلية لونية ورمزية في إطار سيميائية الألوان والرموز .... والتي تساهم في فك طلاسمه الجمالية والوصول لحمولة تجلياته البصرية الخفية....
بالنسبة للكتلة اللونية في معظم أعماله كثيفة، كما تذكرنا بقوة ألوان وكثافة المدرسة الوحشية. أعماله تبدو ذات رمزية هامة وأبعادها الأولية عميقة توحى بشكل تلقائي إلى أجساد متحركة ومتحاورة ومتعايشة داخل الفضاء التشكيلي أو يستدعيها بصريا بطريقة ايحائية لأشكال تمويهية بألوان لها علاقة بأشياء أخرى سبق له أن رآها و شكلت تغذية راجعة لأعماله أو ما يسمى بالفيد باك، خصوصا انه تلقى تكوينا في تصميم الأزياء وتخصص بتجارة ملابس الرجال الإيطالية، مما يستوجب عليه التردد عادة على ايطاليا ونحن نعلم سحر هذا البلد العريق بالمجال الفني و مدى تأثيره كبلد متوسطي على فناني العالم وإبداعاتهم الفنية من حيث اللون والضوء، باختلاف مدارسهم التشكيلية وخلفياتهم الفكرية والفلسفية ومرجعياتهم. وأحيانا يكون تدخل الفنان مازن واضح على كثافة اللون مما يفقده بعضا من هالته بشكل إرادي من طرف الفنان . فاصبحت كثيرة من الأعمال التشكيلية لديه تكون نسقا فنيا بعدما كانت مستقلة بنفسها أو تتناص بوضوح مع تيارات ومدارس غربية واضحة : واقعية،انطباعية،سريالية أو تجريدية...
فمن خلال الإبحار بعوالم التشكيلي مازن نلاحظ أنه مازال يبحث عن ذاته الفنية بين كل تلك الذوات الفنية الأخرى التي دخل في علاقات متنوعة معها، كما يقوم بانتقاء ألوانا حسب ذوقه الذي يتميز بالرقي مما يساهم في تعدد أبعاد التأويل لنصه البصري . وبذلك فهو يبتعد في رؤيته وفهمه وتطبيقه للفن عن النماذج التقليدية التي يشكل الفضاء الفني غالبًا فيها بطريقة تشخيصية مباشرة .بل وتستمد مشروعيتها من ثقافة العقل والرؤية الفنية و الإحساس باللون و بالإنشاء التصويري للعمل والإحساس بالخامة وكل ما يخص العمل الفني بشكل متكامل ... فهو بذلك لا يمارس الرسم التجاري المبتذل ... وتركيزه على التجريد يجعل عمله ضمن خانة التجارب الداخلية العميقة لأن هذه التجربة الإبداعية بشكلها العام غنية بالأحاسيس العميقة والانفعالات النفسية ولم يعتمد في اشتغاله على أهمية اللون فقط، بل جعل من كتلته اللونية بعض الأشكال الراقصة والطائرة وذات الانسيابية الملحوظة لتعطي انطباعا لأطياف نسائية بألوانها القوية تلخص لمساره الفني و لتجاربه كفنان يبحث عن أسلوب أصيل لنفسه داخل المدرسة التجريدية عامة ، كما أن هذه الأطياف اللونية الانسيابية هي هاربة من العدم ومن الاندثار تحت ما يعرفه العالم من دفن للثقافة الجمالية بالإرهاب والاغتيالات والانفجارات القاتلة ليبث الجمال فوق كل الاعتبارات ويجزم ان الثقافة الجمالية هي اقوى من كل تخريب او طمس لمعالم الإبداع مهما كانت الذريعة....فهي أطياف الذات الحالمة بالسلام والتسامح وهي تتسم بألوان الحياة في ارقى التجليات اللونية. ومع ذلك، فإن الشكل في اللوحة عنده مبهم وغامض دائما، فالعين لا تُمسك بالجاهز فيها إلا بعد تأمل طويل ، إنها تستعيد جزء من ماضيها كما يمكن أن ينتشر في كل المنافذ الحسية، أو تقوم بشحن الشكل بانفعال هو ما تود الإمساك به ضمن سياق هذه النظرة دون سواها. إن الأمر شبيه بالاستعارة في اللغة، فإزاحة المعنى الجاهز شرط لميلاد الشعري الإبداعي
فيها. فليس العبثي في اللغة وفي الشكل دوما شذوذا، بل قد يكون وسيلة مثلى لتوليد معاني غير مرئية بشكل بديهي.
ملاحظتي الوحيدة هو ضرورة تحكمه في غضبه ومحاولة إخراجه بسلاسة في بعض الأعمال حتى لا يكسر جودة اللون بها مثل لوحة الصرخة والتي أظن أنه رسمها خلال الفترة التي تم فيها تفجير ميناء بيروت ، وهذا شيء عادي بالنسبة لفنان مرهف الحس وله روابط قوية مع بلده الأم ، بل يجب أن ينزل الألوان لحظة غضبه عبر فترات زمنية متباعدة حتى ياخذ كل لون حقه في اللوحة من حيث المساحة والاندماج دون أن يفقد لمعانه أويفقد جودته ويطمس الضوء به أو تختفي كتلة لونية أمام كتلة أخرى لتعطي لونا تشكيليا آخر لا يطمح الفنان لظهوره. فهو كفنان يقوم بإدارة أعماله بذكاء مما سمح له بإدارة ألوانه والمنشأ الفني بنفس الحنكة ، وأكاد على ضرورة إدارة غضبه وانفعالاته النفسية لأنها تشكل ثراء عاطفيا يمكن أن يمتح منه نفسا قويا لأعماله و مواضيع متعددة لفنه وبجودة عالية، وهذا يظهر في أكثر من لوحة حيث مثل حبه وارتباطه ببلده بخلفية اللون الأحمر و الذي قد يمكن أن يكون حب قوي وجارف بنفس القدر الذي هو معاناة وألم من خلال استدعاء أطياف أشخاص إما أنه يفتقدهم إلى جانبه أو رحلوا عن عالمه إلى الأبد.
عموما إن التشكيلي مازن عرابي يسعى لتأسيس لرؤى تشكيلية حداثية تروم التأسيس لمذهب روحاني تشكيلي يرقى بالروح الإبداعية إلى عوالم الذات الإبداعية الحالمة والمتمردة و المتطلعة لغذ أفضل باقتحام خامة ألوان جريئة لا يجرأ على اقتحامها اي فنان اخر حيث تعامل معها بسلاسة و انسيابية بين أنامله وبشكل ذكي ......خيرة جليل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى