محمود عرفات - مرآة غائمة.. قصة قصيرة

رأتنى أمي فوقعت من طولها. لم أستطع أن أسرع نحوها. تصلبت فى مكاني على الكنبة بجوار أبي الذى هم بالنهوض. أخواتي البنات كنَّ يتحسسنني غير مصدقات. تركنني وقفزن لنجدة أمي التى أفاقت بعد ثوانٍ من الرعب. قمت نحوها. أحطتها بذراعي فتدفق نهر دموعها. تمتمات الحمد والدعاء الشاكر تخللت فيض الدموع. همت الصغيرة أن تطلق زغرودة. أخرستها نظرة أمي اللائمة وهى تنطق فى خفوت: عيب. وأومأت برأسها ناحية الشارع.
أختي الكبرى المتزوجة والتى تسكن على بعد شارعين، جاءت تجري حافية بلبس البيت. اقتحمت الباب وهى تهذي باسمي. أخذتني فى صدرها وهى تنهنه. بدا أبى متماسكًا وهو يضغط كتفى بحنو: حمداً لله على سلامتك.
بعد لحظات امتلأت الدار بالمهنئين. لم يطاوعنى لسانى فاكتفيتُ بهمهمات خافتة لا أسمع منها غير: الحمد لله. كأني عازف عن الكلام، أو كأني أعانى من ألم فى فمي. شممت رائحة طبيخ ظننت أنى افتقدتُها للأبد. تعجبت.. من الذى يطبخ وكل نساء العائلة يحطن بي. قامت أمي كأنها أفاقت.. أمسكت بيدى واقتادتني إلى الحمام.
*
خلعتُ الأوفرول المتكلس بالعرق. خجلت من وسخ ملابسي الداخلية التى لم أجد وقتًا لتغييرها.. فاجأنى القائد.. استدعاني وناولني خطابًا موجهًا إلى المستشفى العسكري القريب من مدينتي. قرأتُ الخطاب مندهشًا. لم ينتظر أن أسأل. قال: الإجازات ممنوعة.. الخطاب يسمح لك بالمرور لأداء مأمورية رسمية.. أمامك أربع وعشرون ساعة بالثانية.. أنت المسئول عن نفسك حتى ترجع. حملتني السيارة الجيب إلى أقرب موقف سيارات. مضيت في الطريق لا أعي شيئًا. اختلطت المشاهد أمام عيني وفى ذهني. كأني أعوم فوق وسادة من هواء مضغوط. لا أكاد أشعر بالطريق. وجوه من حولي بلا ملامح. هربت من أسئلتهم الصعبة فغطست فى بئر النوم الحنون.
*
تركت الماء يقوم بالعمل كله. لامس الماء الدافىء جلدي فارتعدت. فيض الماء أدهشني. تذكرت الزمزمية فى جرابها الكاكي، فأحسست بلساني يرطب شفتي. انتبهت للماء فخجلت. خرجت فإذا بأختي الصغرى تغسل الأوفرول فى وعاء تفيض منه رغوة الصابون. سمعتها تدندن: آخد حبيبي.. وعندما رأتني مضغت الحروف. قلت لها: كملي.. صوتك حلو. فارتفع صوتها بباقي المطلع: زرع فى القلب وردة. رأيتها تهتز مع إيقاع اللحن وحركة يديها تدعك السترة الكاكي. قامت لتنشر فحذرتها أمي: لا تنشري على السطح.. انشريه فى وسط الدار. اتجهت البنت إلى باب الوسط وفتحته في سكات.
*
صنعنا دائرة حول الطبلية الزاخرة. تعالت الضحكات والمعابثات. لمحت على وجه أبي ابتسامة رضا شجعت الجميع على التمادي. انهمكت أمي فى توزيع المنابات. أخجلني أنها اختصتني بأفضل قطعة من صدر ذكر البط.. ومنحتني قطعتي لحم محمر وفردة حمام. بدأت بي فقلت لها مشيرًا لأبي: الحاج الأول. قالت فى دلال: سيب الحاج فى حاله.. أنت العريس.
خفَتَ الكلام وتصاعدت جلبة الطعام. لم أقدر على مد يدي للأكل. لمحتُ أمي تنظر نحوي بامعان. مددت يدي ببطء. تناولت ملعقة أرز وقضمت قطعة من صدر البط. فوجئت بها تهتف وهى تكاد تبكي: مالك يا حبيبي؟ فيك إيه؟ قلت بسرعة: أحتاج وقت للتعود. سألتني فى دهشة: كأنك تأكل معنا لأول مرة؟ تصنعت الابتسام وأنا أمد يدي. لم أحس بشهية. رأيت أمي تكاد لا تأكل. قلت فى نفسي: هي دائمًا هكذا، لا تكمل أكلتها أبدًا. تقوم لأي سبب ولا ترجع. تهش البطة عن الكتاكيت الصغار، أو ترد على سائل، أو تطفيء الوابور، أو تُقلب أعواد الملوخية المنشورة على حصيرة.
قمت بعدها بقليل. بحثت عنها فوجدتها تجلس على حصيرة الصلاة تدعو بصوت خافت. الدموع تملأ وجهها الرائق بالرضا. جلست بجوارها وهى تفسح لي مكانًا. قالت: لم تأكل. قلت: الحمد لله.. نعمة. قالت: عامل إيه يا حبيبي؟ قلت: عال العال. قالت فى أسى: شفت نفسك فى المراية؟ قلت: لا.
*
شعرت ببوادر صداع. لم أحس بالصداع منذ بدأت الحرب. تمددت على الحصيرة قرب أمي. وضعت أمي وسادة صغيرة تحت رأسي فتهت فى النوم. قمت مفزوعًا لاأعرف أين أنا. انتصبت واقفا وهممت بالجري. شعرتُ بأيدي تمسك بي بقوة فأفقت. رأيت أمي وأخواتى يجذبنني لأجلس. انهرت على الأرض متمددًا على ظهري.
أغمضتُ عيني وكأنى رحت فى النوم. شريط الأحداث أخذ يكر فى غير نظام. سمعت أمي تهمس لأختي: أخوك سخن.. اعملي له كمادات. جاء أبي مسرعًا فقالت أمي: خير خير لاتقلق. سمعت أذان العشاء فلم أقدر على القيام. تمتمات أمي أصابتني بخدر.. ورعشة الحرارة تهزنى هزًا خفيفًا. بين الفواق والنعاس سمعت صوتًا أعرفه. بعد لحظة أدركت أنه صوت امرأة عمي. اختنق صوتها وهى تردد كلمات تهنئة متفرقة. بدا أنها تقاوم إحساسًا طاغيًا بغير جدوى فانفجرت بالبكاء. فى تلك اللحظة تذكرت خيري ابن عمي. تتابعت دقات قلبي فى هلع.. إنه ضمن لواء الكباري فى شمال الإسماعيلية.. ولا أعرف عنه شيئًا.. ماذا أقول لو سألتني عنه؟
*
فتحت عيني على وجه أمي يعصف به الفرح، وصوت أبي يدندن لأم كلثوم: فى نور محياك الغنى. والبنات يرحن ويجئن فى أرجاء البيت. مع كل خطوة من خطواتهن يتعدل المشهد. كأنهن يلمسن الهواء فيتعطر.. ويُشرن فتتلون الحيطان وتلتمع الأرضيات. أشعلن المواقد ففاحت فى البيت رائحة الفطير بالسمن البلدي. وسمعت البنت الصغرى تدندن ببواقى أغنية الأمس: آخد حبيبي يا بلاش. خرجت إلى وسط البيت أتعثر فى عبارات البهجة والفرح. استنشقت بعمق رائحة البكور. ولفحني تيار لذيذ من الهواء البارد.
على طبلية الإفطار الشهي تذكرت أننى سأغادر بعد العصر مباشرة.. وتذكرت خيري. الجيران والأقارب سيأتون يهنئون ثم يسألون.. لا أملك إجابة. ولن أحتمل نظرات الترقب التى تعقب السؤال. تمنيت أن أغادر فورًا. بدأ القلق يلتهمني ببطء.. ماذا أقول؟ وكيف؟
*
فى وسط الدار رأيت أبي جالسًا يُسبح فى خفوت. اقتربت وجلست بجواره.أغمضت عيني حتى يستكمل تسابيحه، واستسلمت لأشعة شمس حانية. شعرت به يتململ. نظرت فإذا هو يجمع السبحة ويضعها فى جيبه. انتظرت أن يبدأ. سألني كأنه يخيرني بين الإجابة أو الامتناع: كيف صنعتم المعجزة؟ قلت فى يقين: كان ظهرُنا للحائط.. والحقُّ معنا. هز رأسه يستحثني على الكلام.. قلت: الحرب شيء بشع.. شفنا أيام سواد لكن ربنا نصرنا. ساد الصمت. كنت أخشى من أسئلة لا أجيب عنها. قال فى تردد: وإذا سألوك عن أحبابهم؟ سكتُّ لحظة، ثم أتاني الجواب من حيث لا أدري: كلنا أحياء.. ولن يموت منا أحد.

كفر الزيات فى 16 أكتوبر 2012.

محمود عرفات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى