صديقة علي - منديل أحمر.. قصة قصيرة

وقفَ المصارعُ مشدوهًا، في خضمِّ ضجيجِ هرجٍ ومرجٍ، فتحَ فمه، وعينيه على مداهِما الأوسع، ورأسهُ للأعلى كبطيخةٍ صفراء تكادُ تسقطـُ من على كتفيهِ، بدأَ الضجيجُ يتخامدُ، ثلةٌ من السجناءِ انتبهوا لدهشتهِ فتتبعوا دربَ نظراتهِ إلى أن تسمَّرت عيونهم في نافذةِ ضيقة تشقُّ العتمةَ.

صرخَ الملقبُ بالناعمِ:
انظروا!
مشيرًا إلى نافذةِ أعلى جدارِ الزنزانةِ، وقد حطَّ عليها شالٌ نسائيٌ أحمر٠
حلَّ صمتٌ مطبقٌ٠
غنَّى ذو الصوت الحزين
أيُّ ريحٍ ساقتكَ إلينا، وأيُّ روحٍ مشقَّقةٍ لدينا
آه يا دنيا جودي .. جودي علينا
مابقي من عمرنا من صبرنا إلا قليلا
لم يكترث أحدا لغنائه ولا لصوته الشجي و لطالما وحّدهم بالبكاء، بل انهمك الجميع بمتابعة ما يقوله المهندس الزراعي بمرح أعاد له نشاط الشباب:
-هاتوا الوشاح لنزرعهُ وردةً تلوِّنُ حياتنا في هذهِ الصحراءِ ٠
أحدهُم استغفرَ ربَّه، واستعاذَ من الوسواسِ الخنَّاسِ.
ثمانونَ عينٍ معلقةٌ بشالٍ أحمرٍ ...يلصقهُ الهواءُ بحديدٍ صدِئ، أربعونَ قلباً يخفقُ وخيالاتٌ ملأت فضاءَ االمكانِ وخرجَت من النافذةِ٠
جمعَ المصارعُ خيرةَ الشُّبان وأخذَ يشرحُ لهم خطَّته للحصولِ على الشالِ٠
اعترض الشيخ:
-ستوديهِم الى التهلكةِ كُرمى لنزوةٍ عابرةٍ.
أجابَ الدكتور:
-هي ليست نزوةً يا شيخنا؛ بل هديةً من الريحِ إلينا كي تلينَ أيامُنا.
ـاستغفر ربَّكَ يارجل. ..ربك! ؟
وقهقه متمتمًا:
-المعذرة.. نسيتُ أنَّه .. لاربَّ لك.
كان الشبابُ قد اتفقوا على بناءِ هرم من أجسادهِم قاعدَته المصارعُ والقوادُ، أمَّا ميزان الحرارة فقد وضع خدَّه كالعادةِ على الجدارِ لينبئَهم بأنَّ الحرارةَ في الخارجِ فوق الخمسين، وأنَّ هناكَ رياحًا محملةً بالغبارِ كذلك، وأنَّ الساعةَ قد قاربَت الثالثةَ ظهرًا، أما الملقَّبُ بالمذياعِ وكانَ بلا رقمٍ فقد أخذَ يبثُّ نشرةَ الظهيرةِ عن أهمِّ حدثٍ حصلَ، خلال خمسةِ أعوامٍ، لزنزانةٍ نزلاؤها منسيون٠
المستمعونَ الأفاضل ...إليكم موجزَ النشرةِ، تفاجأَ نزلاءُ الزنزانةِ رقمِ ثلاثةَ عشر بزائرةٍ لطيفةٍ..
قاطعه المصارع:
اخرس قبلَ أن ألصقَ رأسكَ بشباكِ الشَّال، حان وقتُ العمل٠
كانَ الدكتورُ يلاحقُ بنظراتهِ المذياعَ المتعرقَ المرتجفَ، والذي صمتَ مكرهًا، مبتسمًا للحدثِ الجللِ الذي جعلَ كافةَ النزلاءِ يحرِّكون أدمغَتهم للتعبيرِ عن ذواتِهم. كما أسرَّ للمهندس المبتهجِ بكسرِ الرتابةِ المخيمةِ على حياتهم.
سقطَ المصارع ليستقرَ بحضنِ الشيخِ مطقطقًا عظامَه، الذي كان شامتًا بفشلِ الخطةِ، مبتهجا بتأكيد توقعاته مما أنساه وجعه، لكنّ الدكتور طمأَنه أنْ لا ضررَ به وحثَّهم على تكرارِ المحاولةِ قائلاً: من يريدُ الأنثى عليه ألَّا ييأسَ.
وصلت يد النواعم الى طرفِ الشَّال، سحبهُ بلطفٍ ودون أن يحرِّرَ اشتباكه مع حديدِ النافذةِ، بهرهُ نورُ الشَّمس المحمَّل بخيوطِ الأتربةِ فأغمضَ عينيهِ، وتابعَ مهمَّته بساقينِ قلقتينِ على أكتافِ ميزانِ الحرارةِ، ولخشيتهِ من الانزلاق ثبَّت أصابعه بقضبانِ النافذةِ، صرخَ بهِ الدكتور
-اشرح لَنا ماذا تَرى؟
-عاصفةٌ رمليةٌ يا دكتور لا أَرى سوى ريحٍ قويةٍ بنِّيةٍ
زجَره المصارعُ:
-انهِ مهمَّتكَ واخرس….
وإذا بالشالِ يهوي سابحًا في فضاءِ الزنزانةِ يتموّج بدلال مع صراخ النزلاء وهياجهم،
نجحنا …نجحنا ….نجحنا
قال الدكتور سعيدًا بمتابعة المسرحية:
- من نصيب من ستكون أولاً؟
أجاب القواد بسؤال خبيث:
- من سيكونُ محظوظًا بفضِّ بكارَتها؟
ضحكَ الشيخُ من عقولِهم، وأدارَ ظهرهُ للاحتفالِ المقامِ.لكنه مافتئ يرمقُ الوشاح الأحمر من طرف عينه، اشتدَّ التدافعُ وباتت الزنزانةُ ملعبًا وباتَ الشالُ هدفًا لأيادٍ ممتدةٍ ولضحكاتٍ كانَت لوقتٍ قريبٍ ضنِكةً. فازَ القوَّادُ بالشالِ فقد لاحقَه بخبرةٍ وذكاءٍ، وتلقَّفهُ بذراعِهِ الطَّويلةِ دافعًا بلا رحمةٍ كلَّ منافسيهِ أرضًا.
تزاحمَت الأنوفُ فوقَ الشَّالِ الممدَّد براحتِيه. وأخذَ يستنشقُ عطرًا نسائيًا.
تنهد بعمق وقال:
-آه ..آه ...يا زمن ، كنَّ يركعنَ تحتَ قدميّ والآنَ أعبدُ أَثرَهنَّ .
وبدأَ بمحاولةِ تذكُّرِ نوعِ العطرِ، فلم يفلحْ إلَّا بوصفهِ عطرًا رخيصَ الثَّمنِ، صاحبَتهُ لم تزرْ ملهى ليلي في حياتها ٠
أحدهم قررَ أنَّ العطرَ لفتاة ٍمتزنةٍ لا خبرةَ لديها بإغواءِ الرجالِ. شعر النواعمُ بالغبنِ فهو أحقُّ بالشالِ من الجميعِ إذ ما كانت ليدٍ خشنةٍ أن تقوم بتخليصه إلَّا أنَّه بصوتٍ واهٍ شارك َعلى خجلٍ بتوقعاتِ الرائحةِ
أنها لفتاة راعية اخشوشن قدها في المراعي، انتشلَ المصارعُ الشالَ واستنشق بعمق:
- لم أشم سوى رائحةَ اللبنِ الحامضِ منه من أينَ تشتمونَ الروائحَ؟ من قفاكم؟
ضحكَ الدكتورُ لجدالِ العطرِ، وانتبهَ إلى سبعة الصامت المنزوي في زاوية الزنزانة، أشارَ له بغمزةٍ ماكرةٍ من طرفِ عينهِ (أي ما رأيك ...؟) أجابت كتفي السبعة بنهوضِهما المضمومِ الى الصدرِ.
- لا أعرفْ.
وتابع انشغالهُ ببطانيةٍ يطويها كعادتهِ ويفردُها طيلةَ النَّهارِ.
عندما اشتدَّ ظلامُ الزنزانةِ، وتعالتْ الصيحاتُ والضحكات على غير العادة حضرَ السجَّانُ ليقطعَ عليهم شبقَ الاسترسالِ، يزمجر بشتائمه المعتادة وينهي حديثه بصوت هادئ:
- حالكم لا يعجبني أرى في وجوهكم مصيبة تدبرونها.
نامَ القوادُ محتضنًا الشالَ، وفي أحلامهِ، لم يكن الشالُ سوى دمَ الضحيةِ المنتحرةِ بشفرةِ الحلاقةِ القاطعةِ لوريدها، والتي تدفقَ دمُها من بابٍ مقفلٍ ٠
صرخَ ليلًا: فليأخذْ أحدكمْ هذهِ اللعنةَ عنِّي. وقذف بالشال وتابع شخيره على الفور.
تلقفَّه ميزان الحرارة وأخذَ يحلّقُ بخيالهِ ...، إلى سطحِ المشفى المطلِّ على السماءِ، وهو يجرُّ ضحيتَهُ الرابعةَ المخدرَّةَ، مع ضميرهِ فاستلذَّ بمشاعرهِ، الى أنْ نبّههُ الدكتورهامسًا:
-لا تذهبْ بعيدًا فموعدُ الحمامِ الاسبوعي مازالَ بعيدًا.
عندما وصلَ الدورُ الى المصارع ...لفَّه على معصميهِ وثمَّ غطَّا وجههُ مشكلًا ستارةً تغطيه، غاصَ بعمقٍ، دمُ اختهِ كانَ قانيًا، لا كما قالوا لهُ. قطعَ النبعَ عن جنينهِا المتشكلِ بأحشائهِا خلسةً، متعةٌ عارمةُ في استردادِ الشرفِ لا يضاهيها سوى هسيسُ امرأةٍ بينَ يديهِ، فهاجَ جسدُه بتذكر لياليهِ الحمراءَ معها بغيابِ زوجِها٠
في ليلةٍ غيرِ متوقعةً كانت للشيخ الذي بدأَ يتلو صلواتِه قبلَ أن يفتي بذبحِ الأسرى الملحِدين، لكنَّ هذا لم يمنَعه بالاستماعِ بليلتهِ الأولى مع زوجتهِ الرابعةِ (حلاله) التي لم تكمِل الثانيةَ عشرَ من عُمرها والتي كانَت بعمرِ أحفادِه وماتت في أوَّلِ ولادةٍ نزفًا.
كان السجَّان قد بدأَ يرتابُ من هدوءِ الزنزانة ومن لطافةِ السجناءِ، وما أن يفتحْ عليهِم البابَ ويمدَّ رأسهُ الضَّخمَ حتَّى يلحظَ حركةً غريبةً يخفونَ فيها شيئًا ما ٠
- واللهِ حالكمْ غريبٌ ...هناكَ سرٌّ لا بدَّ أنْ أعرفَه، سوفَ أريكم
رمقَ المذياع بنظرةٍ طويلة٠
ثم غادرَ مهددًا أيَّاهم بهزاتٍ متتاليةٍ من رأسهِ الأشيبِ.تبرَّعَ الدكتور بليلتهِ مع الشالِ لرفيقِ النِّضالِ المهندس الزراعي، فقد تقاسَما معًا أحلامًا ومرارات التحقيق و ذِكرى ليالي التَّعذيب، لفَّا الشال على كفِّيهما وأخذا يشدَّانهِ بطرفيه متهامسَين:
ماذا فعلت بِنا هذهِ الأحلامُ؟
قالَ المهندسُ وهو ينظرُ بعتمةِ الليلِ الى وجهِ رفيقه
ـ لا شيءَ سوى استنفارِ المخبّأِ ٠
-إلى متى ..؟
-إلى أن يصحوَ النوّمَ، ويسقطَ الرعبُ من قُلوبهم ٠
بدأا ينصِتان الى تنفسِ المذيعِ، فلمْ يعدْ يشخرْ فارتابا لأمرهِ ولزما الصَّمت.
عندما حانَ دورُ النزيلِ رقم سبعة غمرتْه السعادةُ المتعذَّرةُ لسنوات، تلقف الشال بلهفةِ طفلٍ لحضنِ أمِّه. وهاهمْ يرونَ ابتسامَته أخيرًا، أدارَ ظهرهُ للجمعِ، واختَلى بهِ أمامَ الحائطِ ونامَ بعمقٍ معانقاً ذراعَ أُمِّه قالَت له لا تخف لنْ أترككَ وسآتي إليكَ حيثُ تكونْ، اذهب معهم لابدَّ أنَّ هناكَ خطأ ما وسأوكلُ لكَ محاميًا، الدنيا ما سائبة يا ولدي
الدنيا سائبة يا أُمي وها أنا متروكٌ في قاعِ الظلمِ بلا محاكمةٍ بلا تحقيقٍ بلا اسمٍ
في منتصفِ الليلِ، أيقظَ صراخَهُ الكابوسي كلّ من في الزنزانةِ وهو يضمُّ الشالَ الى وجههِ ويهذي ملوحًا بكفيهِ يتلمَسُ وجهها برائحةِ الشَّال الحليبية.
صدقيني يا أمي أنَّني مظلومٌ، وما أردتُ إلَّا فضحَ العلقِ الذي يمتصُ دمَّ هذا البلدِ، أمي لم يجدوا تهمةً تناسبُني فأخفوني عنكِ ...أخفوني عنكِ …
. كررَّ جملته هذه مرارًا والدكتور ممسكٌ برأسهِ ,يهزُّهُ بعنفٍ
-استيقظ يا بني .... اطلعْ من حالتكَ ..هذا مجردُ شالٍ ليسَ أُمَّك...
سبعة هو اللغز الذي عجزَ الدكتور عن فكِّه فلم يعرفْ عنه أيُّ شيءٍ وأمضى سنواتٍ معه لم يسمع منهُ سوى كلمةٍ واحدةٍ، حين يُتلى رقمهُ للتفقد بقولِ حاضر ٠
مع الأيامِ الطويلةِ كاد أنْ ينسى اسمهُ كانَ المحققُ يهددهُ:
الزمْ الصمت وإلَّا قطعتُ لكَ لسانكَ، إياكَ أنْ تتفوهَ بحرفٍ ستنسى كلَّ شيءٍ حتَّى اسمكَ
اجلسه الدكتور، وقدَّم له الماءَ، وحاولَ أنْ يحثَّه على الكلامِ لكنَّ هذا لم يستجب وعادَ يحضنُ الشالَ ويشمَّه ُ.. ولزمَ الصَّمتَ
في الصباحِ خيَّم الحزنُ على أغلبِ النزلاءِ، وأخذوا يواسونَ سبعة الذي نسيَ أنْ يطويَ البطَّانيةَ ويفردَها كعادتِه، بل انشغلَ حتَّى الظهيرةَ بطيِّ الشالِ الأحمرِ على ركبتيهِ ثم فردهُ ورفعهُ أمامَ وجههِ، حاجبًا نظراتِهم المشفقةِ والتي لم تمْنع
المذياع من أن يطالبَ بحقهِ في الشالِ، لكن السبعةَ تشبثَ به رافضًا التخلِّي عنْهُ فصرخَ القوادُ بصوتٍ جهوري
-لماذا لم تقلْ لنا أنَّ الشال هو أمُّكَ وإلَّا ما كنَّا فعلنَا بها ما فعلنَاه؟
انتفضَ سبعة متأبطًا الشال والعرقُ يندي جبينهُ، وزأرَ بأنفاسهِ كوحشٍ بريٍ، حملقَ بعينين حمراويين بوجهِ القوّاد، قهقهَ المصارعُ الذي كان يسندُ بيده كتفَ القواد، متجاهلًا ثورةَ سبعة المفاجئة قال:
-الآن علمنَا من هي الجميلةُ التي قضينا ليلتنَا معها٠
تقدمَ سبعة خمس خطوات ٍووقف باتجاههما، وبصقَ في وجهِ القوادِ، ذهلَ السجناءَ من جرأتِه المنبثقةِ من تحت رماد الصمت
اعذره ياولدي فقد فقدَ عقلهُ، قال الشيخ ممسكًا بكتفِ القوَّاد، بينما الدكتور يحاولُ احتضانَ سبعة وثنيهِ عن هجومهِ، ولكنَّ سبعة تضخمَ بالغضبِ وأبعدهُ عنهُ واقتحمَ المسافةَ القصيرةَ الفاصلةَ بينهُ وبين عدويه، وانقضَّ كنمرٍ مجروح ٍعلى القواد المندهشِ بتحولاتِ هذا الولدِ كما كانَ يسميهِ فبُغتَ بأظافرِ الولد ِ تنغرسُ في وجههِ، وتحتَ عينيهِ وترسمُ دروبًا متوازيةً منحدرةً إلى أسفل، التفتَ صوبَ المصارع اهتزَّت شفتي الأخيرِ غضبًا وطرحهُ أرضًا بلكمةٍ منهُ.
صرخَ الدكتور:
-كفى…. كفى
لكن صرخَته ضاعت بين صيحاتِ السجناءِ وبدوا مهتاجين وكأنهم يشاهدونَ صراعَ الثيران، هذا لمْ يشفِ غليلَ المصارع، بل أحاطَ بساقيهِ المتباعدتين جذع السبعة المستسلمُ لوقوعهِ على الأرض، وحنى ظهرهُ ليقابلَ وجههُ بوجهٍ يستفزهُ هدؤوه ونظرتهُ الثابتةُ في عينيهِ، لم يعدْ للمصارع وجودٌ فقدْ استبدلَ بالمحققِ ولم يبقَ صوتٌ في الزنزانةِ سوى صوتُ المحققِ:
لسانكَ سأقطعهُ ...لسانكَ سأقطعهُ، من اليوم وصاعداً عليك أن تنسى كل شيء حتى اسمك ..مفهوم؟
صرخَ المصارعُ وهو يضغطُ أسنانَهُ:
- ابن القحبةِ تتجرأُ علينا أيَّها الصعلوك!
فاستجمعَ سبعة لعابهُ وهو يعقدُ ذراعيهِ إلى صدرهِ، يشدُّ بقوة على شال مبلولٍ بعرقٍ تفصَّدَ من كافةِ مساماته، وقذفَ ببصقةٍ التصقت على جبينِ المصارعِ، فمسحها هذا بكمِّه واستقامَ مبتعدًا عن السبعة المستلقي باستسلام دون أن يبدي أي محاولة للنهوض، تراجع خطوةٌ واحدةٌ فانكشف وجههُ المحمرًّ حتى رقبتهِ بدت كتلة ملتهبة، ركّزالجميع الصامت نظره عليها، ثم على رجلهُ اليمنى الذي أبعدها للخلفِ بأقصى مداهَا كلاعبٍ كرةِ قدمٍ وثم ركل خاصرة غريمه الضامرة.
ركلةٌ مجنونة كانت كافية أن تطير بالسبعة الى بابِ الزنزانةِ الحديديّ، ارتطمَ رأسهُ بالباب، ولم يصدرْ عنهُ أيُّ أنينٍ، أيُّ وجعٍ أو صيحةٍ، تهشَّمَ رأسهُ، تدفقَ دمهُ كشلالٍ تشبَّعَ به الشال الذي سبحَ الى بابِ الزنزانةِ حيثُ فتحتْ بقوةٍ، ليلتفَّ طرفُ المنديلِ على قدمِ السجانِ وهو يحملقُ مذهولًا بوجهٍ غارقٍ بالدماءِ، لم يتبينْ من ملامحهِ سوى ابتسامةِ رضى تحبسُ بينَ أسنانِها الطرفَ الآخرَ للمنديل.
باشمئزاز سحب السجان بسبابتِه طرفَ المنديلِ عن قدميِّه، رافعاَ إيّاه بوجه السجناء كرايةٍ تقطّرُ دماً، وراح يصرخ في وجه الملقّب بالمذياع الّذي كانت فرائصه ترتعد:
- يا حيوان من أينَ لكم هذا؟



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى