مصطفى عوض - الطيور.. قصة قصيرة

لماذا أحوم دائماً حول هذا المنزل القاتم في الحي المنعزل؟!
ضبطت نفسي متلبساً بالوقوف لأوقاتٍ طويلةٍ فوق سوره القصير، المغطى كله بنباتات الزينة الشائحة، أتأمل باب المنزل، ونوافذه ذات الحواف المتآكلة، بذهولٍ ينسيني كل ما حولي، حتى أن قطاً كاد يأكلني، حين تسلل بخفةٍ، ذات صباحٍ، واعتلى السور، مقترباً مني بحذر، كنت حينها أراقب تلك البنت الصغيرة ذات العامين، والتي تسقي باهتمامٍ، أصيصاً صغيراً من الصبار، ثبت بقوائمٍ من حديدٍ أعلى (الدرابزين) الأيمن للسلم المؤدي للمنزل ذي الدرجات الثلاث، كان لعينيها وهي تضحك، هذا السحر الذي يثبتك في مكانك، فلا تستطيع التحليق، وجهها الأبيض، المشرب بحمرةٍ خفيفةٍ، وهذا الشعر الأسود الكثيف المسترسل حتى شحمتي الأذن، وطابع الحسن أسفل الذقن، يشبه تماماً طابع الحسن في الخد الأيمن للبنت الشقراء التي أحاطت وسطها بذراعيها، وضمتها إلى صدرها جيداً كي لا تفقد توازنها، فتسقط من فوق الكرسي القصير، الذي اعتلته -الصغيرة -لتصل إلى الأصيص، البنت الشقراء أطول كثيراً، شعرها ناعمٌ منسابٌ إلى منتصف الظهر، أو أطول قليلاً، عيناها واسعتان، زرقاوتان، ووجهها كسطح بحيرةٍ رائقةٍ عند الشروق، كنت أتأمل صفحة وجهها التي تعكس حزناً كبيراً، وهي تحاول الابتسام للصغيرة، التي انهمكت تماماً في ري النبتة، بفرحٍ غامر، حين سمعت ما يشبه تكسر فرعٍ جافٍ تحت ثقل قدمٍٍ بالجوار، فطرت، بغريزة الطائر التي تدرك الخطر عن بعدٍ، وقبل حدوثه…حلقت بعيداً، وحين ابتعدت لمسافةٍ كافيةٍ، نظرت لأسفل، فرأيت قطاً ضخماً يخمش الهواء بمخالبه، وهو يمؤ بغضب، قررت بعدها أن أبني عشاً صغيراً، على فرع شجرةٍ مازالت أغصانها خضراء غضة، وسط حديقةٍ صغيرةٍ تعاني إهمالاً انتهى بكل شجيراتها إلى الاصفرار والذبول، اخترت غصناً يمتد حتى حافة شباك غرفةٍ صغيرةٍ في الطابق الثاني، وبنيت العش، كانت غرفةٌ أقرب للضيق، بها سريرٌ متوسط الحجم، وآخر صغير، بحواجز عالية على الأجناب، وخزانةٌ صغيرةٌ مثبتةٌ بالحائط، صورتين معلقتين لبنتين أعرفهما جيداً، تتوسطهما صورةٌ أكبر حجماً، لرجلٍ في منتصف العمر، ذو شاربٍ أنيقٍ، وشعرٍ فاحم السواد، وطابع حسنٍ أسفل الذقن، يبتسم لي طوال الوقت، لم يكن لي وليف، ولم أهتم أبداً، كعادة الطيور، بالبحث عن واحدٍ، مر موسم التزاوج، وموسم الهجرة، وأنا قابعٌ هنا لا أتحرك، تابعت أقراني، وهم يحلقون جماعاتٍ نحو الشمال، فتحرك داخلي هذا الشئ، الذي انتزعني من مكاني، لأتبعهم دون إرادةٍ مني، فردت جناحي، وضربت الهواء مبتعداً، لألحق بهم، وعندما اقتربت أخيراً، انتابني شعورٌ جارفٌ بحنينٍ خفيٍ، وإحساس من يهوى من حالقٍ، فحولت وجهتي، عائداً من حيث أتيت، من بعيد لمحت وجهي الفتاتين حزيناً، وهما تتأملان عشي الفارغ، بعد أن نثرتا الحبوب الصغيرة، على الإفريز، كي آت لالتقاطها، كما اعتادتا أن تفعلا منذ بنيت العش، نزلت مباشرةً إلى الشباك، فصفقت الصغيرة فرحةً، وضحكت الكبيرة بحبور، انتابتني النشوة، فنسيت حذر العصافير، وقفزت لأفق على كتف الصغيرة، التي صرخت بسعادةٍ غامرةٍ، ثم طرت لأحط على كف الكبرى، الذي بسطته مليئاً بالحبوب، فضحكت بمرحٍ، ثم تكلمت بصوتٍ مرتفعٍ، فدخلت الغرفة امرأةٌ نحيفةٌ شقراء، تشبه البنت الكبيرة إلى حدٍ بعيد، بهذا الوجه الحزين، والعينين عميقتي الزرقة كسماءٍ صافيةٍ، مع خطين أسودين كثيفين تحتهما، دنت بتثاقلٍ، ووقفت تتأملني، بينما البنت تحكي لها شيئاً ما، باهتمام، كانت المرأة تنقل بصرها بين البنت التي انهمكت في الحديث بكل جوارحها، وبيني، أنا الذي ،رغم عدم اتقاني لغة البشر، فهمت أن الحديث يدور حولي، وشعرت براحةٍ لم أدرك سببها، حين رف شبح ابتسامةٍ على وجه المرأة الشاحب، وهزت رأسها مرتين، وهي تعيد خصلةً من شعرها، نفرت من تحت غطاء الرأس إلى مكانها، ثم تدور مغادرةً الغرفة، في اليوم التالي، تأخر الوقت كثيراً، وأنا أقف على إفريز الشباك الذي لم يفتح مبكراً جداً كالعادة، عند انتصاف النهار، استبد بي القلق، فرحت أدور حول المنزل، علني أعثر على منفذٍ، أو ثغرةٍ أنفذ بها إلى الداخل، لكنني لم أجد، فعدت إلى عشي، لأجد النافذة مشرعةً، وقفصٌ مربعٌ من الخشب، معلقٌ بخيطٍ رفيع، يتدلى من حلقةٍ حديديةٍ، مثبتتةٍ في الإطار العلوي للشباك، نحن العصافير، نكره هذه الأقفاص، لأنها تسلبنا المعنى الأساسي لوجودنا، ووجود أي طائرٍ في هذه الحياة، الحرية، بيد أنني طرت لأحط قريباً من القفص، ونظرت، كان ثمة صندوق صغير ممتلئٌ عن آخره بالحبوب، وآخر بالماء، وبيتٌ ضيقٌ مثبتٌ في الركن، يكفي، بالكاد، لأحشر جسدي فيه، كان باب القفص مشرعاً، والمكان خالٍ، غير أن ضحكةً، قصيرةً، مكتومةً، انطلقت من زاوية الغرفة، جعلتني ألتفت، لأرى وجهين صغيرين يطلان، مبتسمين، ببراءةٍ، وترقبٍ، من تحت الفراش، فعلمت أن ثمة مؤامرةٌ تحاك لاصطيادي، ضحكت في نفسي من سذاجة الطفلتين، وبدلاً من المسارعة بالهرب، كما تفعل كل الطيور، وجدتني أنطلق كالسهم داخل القفص، مدفوعاً برغبةٍ محمومةٍ في إسعاد هاتين البنتين، و مهما كلفني الأمر، خرجت الكبرى، و جرت نحو القفص، تتبعها الصغرى، و هي تصفق، و تضحك، و تصدر أصواتاً، تنم عن بهجةٍ بلا حدود، أغلقت الباب، و حملت القفص، و خرجت من الغرفة، نزلت عدة درجاتٍ لسلمٍ خشبيٍ، يفضي إلى طابقٍ سفلي، أوسع قليلاً من العلوي، كان البهو مظلماً رغم انتصاف النهار، و يخلو تقريباً من الأثاث، باستثناء مقعدين متوسطي الحجم، حالكي اللون، و بلا مساند، و في ركنٍ ينسرب إليه الضوء عبر كوةٍ في الجدار، انحنت الأم على آلةٍ تصدر أصواتاً مزعجةً، اسطوانية الشكل، لها طرفٌ مدببٌ، يترك خطوطاً مستقيمةً، و متعرجةً على قطعةٍ من القماش، تحركها الأم بمهارةٍ، و سرعة، اقتربت البنت الكبرى من الأم، فتوقفت، و نظرت بطرف عينها إلى القفص..ابتسمت، و حركت رأسها، و قالت شيئاً، ثم استأنفت عملها، اختارت البنت طاولةً بالقرب من باب الخروج، و وضعت الصندوق، حيث أمكنني بوضوح، رؤية حديقة المنزل من شقٍ في زجاجه، على الحائط أمامي، كانت صورةٌ أكبر لهذا الوسيم، ذو الشارب المنمق، و الذي لا يكف عن متابعتي، و الابتسام لي طوال الوقت، لسببٍ ما خفي، شعرت بالألفة تجاه هذا الرجل، و كأنني أعرفه منذ زمنٍ بعيد، مرت الأيام دون أن أشعر بالضيق الذي يفترض أن يشعره أي طائرٍ في الحبس، بل على العكس، كان كل يومٍ يمر، يزيدني التصاقاً بالمكان، كنت أفرح و البنتين يدوران حولي، يغنيان، و يلقيان لي بالحبوب، فأصفق بجناحي، و أبدأ بالغناء، لاحظت أن الأم بدأت تغيب عن المنزل كل عدة أيامٍ في موعدٍ معلوم، ثم تعود شاحبة الوجه، لتستلقي على أقرب مقعدٍ، و تبقى ساكنةً لمدةٍ، قد تطول حتى غياب الشمس، كان شعوراً خفياً بالقلق قد استبد بالبنت الكبرى، جعلها تهملني قليلاً، و تعطي الكثير من الوقت للعناية باختها الصغرى، و معاونة الأم في أشغال المنزل، كنت أراقب الأم مشفقاً، و هي تذوي كل يومٍ، و تشحب، حتى أضحت كغصن شجرةٍ يابس، تثاقلت خطواتها، و لم تعد تجلس إلى آلتها التي تصدر ضجيجاً مزعجاً، حتى هذا الشعر الطويل الأشقر، لم يعد موجوداً، فبدا رأسها صغيراً لامعاً، و وجهها بائساً، يعتصره ألمٌ تجاهد كي تكتمه، فيتجلى في عينيها دموعاً، و تلك التشنجات في كل جزءٍ من جسدها، فتنثني على نفسها، و تتلوى، حين يغيب البنتين، أو تستلقي على الأرض، قابضةً بفكيها على طرف وسادةٍ متسخةٍ، أحياناً طوال الليل، تمنيت لو أن لدي القدرة لأقدم لها شيئاً، كنت أتمزق لأجلها، و أنظر لذو الشارب، فأجده ما زال يبتسم ببلاهةٍ، فأشعر بالرغبة في صفع وجهه الوسيم بجناحي، أو نقر عينيه…كان هذا النهار بارداً جداً، و كئيباً، حين خرجت الأم، و لم تعد، قبيل الغروب، طرق الباب غريبان، رجلٌ، و امرأة، فتحت البنت الكبرى، و تبادلت حواراً سريعاً معهما، انخرطت بعده في بكاءٍ حادٍ، و عويل، أعادني لذكرى حزينةً، لم أدر مصدرها، و لا ما هي! كانت الصغرى قد تعلقت بذيل ثوب الكبرى، و بدأت بالبكاء، رغم أنها لم تفهم بالضبط ما يدور، حملت المرأة البنت، و ضم الرجل البنت الكبرى، بعد مدةٍ هدأتا، نامت الصغرى، و صعدت الكبرى للطابق العلوي، و عادت بحقيبةٍ قديمةٍ، مهترئةً، جمعت بعض الأغراض، ثم اقتربت مني، فتحت باب القفص، ثم اجهشت بالبكاء، أدركت أنها تريدني أن أرحل، لكنني لم أكن ارغب بهذا، كنت أشد ما أكون رغبةً في البقاء معهم، فدخلت بيتي، و استكنت، اندهشت البنت، و حاولت أن تحثني على الخروج، لكنني لم أفعل، نقلت البنت نظرها بيني، و بين المرأة التي بدأت تستعجلها للمغادرة، ثم ابتسمت، و قالت شيئاً، انعكس امتناناً على وجه البنت التي حملت القفص، بلهفةٍ، ثم خرجنا، خمستنا، حيث كانت سيارةٌ تنتظر أمام باب البيت، ركبنا، و وضعت البنت القفص أعلى الكرسي الخلفي للسيارة التي انطلقت، تنهب الأرض مسرعةً، راقبت البيت الذي بدأ يبتعد، رويداً رويداً، كان في تلك اللحظة مظلماً جداً، و كئيباً، و خالياً من الحياة، لولا هذا الطائر الذي انطلق من الشرفة العلوية، حيث غرفة البنتين، نحونا، و حين اقترب، استطعت أن أميز وجه عصفورةٍ، ذات وجهٍ شاحبٍ حزين، بعينين عميقتي الزرقة، كسماءٍ صافية، تضرب الهواء بجناحيها بأقصى ما في استطاعتها، محاولةً اللحاق بموكبنا الحزين…



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى