علي خليفة - صورة المرأة في مسرح نجيب محفوظ

لفت نظري أن المرأة لها حضور قوي في المسرحيات الثماني التي كتبها نجيب محفوظ، وهي في أغلب هذه المسرحيات محركة للأحداث فيها، وكذلك لاحظت أن نجيب محفوظ غالبا ما يقدم في مسرحياته نماذج للنساء، وهن في أغلب هذه المسرحيات ذوات سلوك سلبي متطرف، ولا يطلعنا نجيب محفوظ في هذه المسرحيات على أبعاد شخصياته النسائية تلك، بل هو يكتفي في الغالب بإظهار جوانب معينة منهن تناسب الأحداث التي في هذه المسرحيات، ومن ثم بدت النساء في مسرحياته - كما قلت - أقرب للنماذج التي تظهر من خلال سلوك معين أو جانب معين بارز فيها، وهذا على خلاف حال شخصياته الرئيسة في رواياته فإننا نراها شخصيات حية لها جوانبها المتعددة، ونشعر من شدة حيويتها أنها تعيش بيننا، كالشخصيات الرئيسة في الثلاثية على سبيل المثال، لا سيما شخصية السيد أحمد عبد الجواد.
وربما كان إظهار نجيب محفوظ لشخصياته النسائية - بل الرجالية أيضا - في مسرحياته على أنها نماذج، ولا يبدو من كل شخصية سوى جانب واحد فيها - أن أكثر هذه المسرحيات يغلب عليها الغموض والتجريد، كما أننا نرى فيها مظاهر واضحة للتجريب في الكتابة، كمسرحية مشروع للمناقشة التي يبدو فيها تأثر نجيب محفوظ بمسرحيات بيرانديللو التي فيها تمثيل داخل تمثيل، وفيها يناقش بعض قضايا الفن والتمثيل لا سيما قضية الصراع بين الفن والواقع عند الفنان، وأيضا نرى نجيب محفوظ في مسرحية المطاردة يتأثر بمسرح العبث بشكل واضح، وكذلك نرى أثر تأثره ببعض كتابات كتاب ما بعد العبث خاصة في البناء الغريب لمسرحياتهم، والغموض الذي بها وغرابة نهاياتها، كما نرى ذلك في مسرحية المهمة، ومسرحية النجاة.
ومن ملاحظاتي الأخرى على مسرحيات نجيب محفوظ أنه غالبا ما يضع امرأة واحدة في كل مسرحية من مسرحياته - باستثناء مسرحية المطاردة التي نرى فيها امرأتين ومسرحية الشيطان يعظ التي تظهر بها عدة نساء - في حين يكون عدد الشخصيات الرجالية في مسرحياته يتجاوز الشخصيتين في كل مسرحية، وفي كل الأحوال فالشخصيات قليلة في مسرحيات نجيب محفوظ، وهذا يتناسب مع قصرها من ناحية، ويتناسب أيضا مع طبيعة التجريد والتجريب التي نراها في أكثر هذه المسرحيات.
وسأذكر الآن نماذج المرأة في مسرحيات نجيب محفوظ:
أولا: المرأة الرمز
والمقصود بالمرأة الرمز هنا المرأة التي يوظفها نجيب محفوظ في مسرحه لترمز لأمر معين، ومن ثم فإنها لا يظهر منها خلال ظهورها في المسرحية إلا ما يؤكد طبيعة الرمز الذي تشير إليه، ونرى هذه المرأة الرمز في مسرحية يميت ويحيي، والمرأة في هذه المسرحية هي فتاة شديدة الجمال، وترمز لمتع الدنيا، وهي تحاول أن تغري شابا بألا يفكر في مواجهة خصم له أهانه؛ لأنه فيما يبدو يظهر أقوى منه، كما أن له أنصارا سيقفون معه عند مواجهة هذا الشاب له، وتطلب هذه الفتاة من ذلك الشاب ألا يفكر وألا يهتم بغير المتعة بجوارها، وينتاب هذا الشاب حيرة من أمره، وتغريه هذه الفتاة بجمالها الساحر، ولكنه يقرر مع ذلك أن يواجه ذلك الشخص الذي أهانه، ويصمم على مواجهته حتى بعد أن يرى شخصا يبدو كالعملاق عرفه بأنه قريب لهذا الشخص الذي أهانه وأنه لن يسمح له بأن ينال منه، وحين يواجه ذلك الشاب ذلك الشخص الذي أهانه ومن يقف معه كذلك العملاق تظهر له أرواح أجداده تناصره وتشد من أزره، وتقاوم معه من يعتدون عليه ويسلبونه حقوقه.
وقد كتب نجيب محفوظ هذه المسرحية خلال الفترة بين حرب ٦٧ وحرب أكتوبر ٧٣، والرمز واضح في هذه المسرحية بأهمية مواجهة هذا العدو حتى لو بدا بمعداته وأعوانه أقوى.
ثانيا: نموذج المرأة الغامضة
ونرى هذا النموذج في المرأة الغامضة في مسرحية النجاة، وهذه المرأة تبدو شديدة الغموض، من بداية هذه المسرحية لنهايتها، وتنتهي المسرحية، وتظل هذه المرأة غامضة، وكان من نتيجة ذلك أن رأينا أجواء الغموض والترقب في هذه المسرحية؛ لكشف القناع تلك المرأة الغامضة فيها والغموض بها، ولكن المؤلف لم يكشف مع نهاية هذه المسرحية عن غموض هذه المرأة التي بها.
ونرى في هذه المسرحية هذه المرأة الغامضة الجميلة تدق جرس شقة يعيش فيها شخص عازب، وتبدو مذعورة قلقة، وتطلب إلى ذلك الرجل أن يسمح لها بأن تقيم في شقته لساعات قليلة، ثم تنصرف منها، ويظن ذلك الرجل أن هناك أمرا بسيطا جعل هذه المرأة تطلب إليه أن تمكث في شقته لوقت قليل، فيسمح لها بذلك، وحين يسألها ليعرف منها حكايتها لا تقول له شيئا.
وحين يدق جرس شقته من جديد تهدده هذه المرأة بأنه لو أبلغ عنها الشرطة فإنها ستلقي بنفسها من نافذة في حجرة دخلت إليها، ويستشعر الرجل خطورة الأمر، ويفتح الباب، ويرى صديقا يخبره عن كثرة رجال الشرطة أسفل هذه العمارة وأنهم يبحثون عن امرأة هربت إليها واختبأت في شقة فيها، ثم يخرج ذلك الصديق، ويتحدث الرجل مع هذه المرأة، ويحاول من خلال حدة حديثه وإمساكه لها بعنف أن يعرف حكايتها حتى لا يتورط معها، ولكنها ترفض، ثم نراه يجذبها نحوه ويقبلها، ويظلم المسرح، ونعرف ما حدث بينهما خلال ذلك، وحين يسألها من جديد بعد إضاءة المسرح عن حكايتها تقول له: من الأفضل أن نستمتع بهذا الوقت، فيشربان.
ويدق جرس الباب بعد ذلك، وتظن المرأة أن الشرطة قد أتت للقبض عليها، فتخرج حبوبا معها، وتبتلعها، وتقع ميتة على الأرض، ويدخل بعض رجال الشرطة، ويسأل أحدهم الرجل عن هذه المرأة المطروحة على الأرض، فيخبره الرجل أنها سكرانة من الشرب، ويطلب رجل الشرطة من ذلك الرجل أن يحمل تلك المرأة ويخرجا حتى يواجها أشخاصا على علاقة بتلك المرأة الغامضة يصوبون رصاصهم من خارج تلك العمارة ناحية هذه الشقة، وهنا يحمل ذلك الرجل هذه المرأة وهو يظنها فاقدة الوعي من السكر، ويقول لها: لقد نجوت، ونجونا معا، وتنتهي المسرحية.
ثالثا: المرأة التي تكشف الغموض
وإذا كنا قد رأينا في مسرحية النجاة نموذج المرأة الغامضة فإننا نرى في مسرحية الجبل امرأة تكشف الغموض عن جماعة تنتمي لحارة شعبية من حواري القاهرة، وكانت قد قررت هذه الجماعة أن تطبق العدالة على كل ظالم في حارتهم ممن لم تطله يد القانون، وذلك باصطحابه لمكان ناء عند جبل في منطقة المقطم، وهناك تتم محاكمة سريعة له ويقتل من قبل هذه الجماعة.
ونرى أن هذه الجماعة المكونة من خمسة أشخاص قد ارتكبت جرائم باسم تطبيق العدالة الغائبة، فنرى زعيمهم عساف يقتل شخصا منهم فيه رقة خشية أن يشي بهم.
وتشك هبة - وهي المرأة الوحيدة التي ذكر اسمها بين كل النساء في مسرحيات نجيب محفوظ - في سلوك خطيبها عساف، فتتبعه دون أن يراها، وترى بعينيها محاكمة هذه الجماعة لواحد من حارتها وقتله على أيدي هذه الجماعة، وتصرخ من شدة الخوف، ويصمم رفاق عساف على قتلها حتى لا تشي بهم، ويرفض ذلك، ويشتبك معهم، وخلال ذلك يقتلهم جميغا، ولكن هبة التي كشفت غموض هذه الجماعة وأظهرت بصرختها زيف العدالة التي يطبقونها - قد قتلت خلال ذلك الشجار من أحد هذه الجماعة الغريبة قبل أن يقتله عساف.
رابعا: نموذج المرأة المتمردة
ونرى هذا النموذج في امرأتين في مسرحية المطاردة ذات الشكل العبثي، والمرأة الأولى منهما يطلبها للزواج أخوان في وقت واحد، وتستغرب من هذا التصرف، ولكنها توافق عليه، وتتزوجهما، ثم نرى امرأة أخر ى في هذه المسرحية هي أكثر تمردا من المرأة الأولى بها، وهي التي رغب نفس الأخوين بعد ذلك في الزواج منها معا بعد أن كبرا في السن، فعملت لهما اختبارات لنعرف مدى صحة كل واحد منهما، وظهر ضعفهما عند ذلك، وتظهر هذه المرأة في هذه المسرحية بطبيعة قاسية مبتذلة في حديثها عن الجنس.
وهذا النموذج من تلك المرأة المتمردة بذلك الشكل الغريب رأى نجيب محفوظ أنه غريب على المجتمع في عصره، ولكن يمكن إظهاره من خلال ذلك الشكل العبثي في تلك المسرحية.
خامسا: نموذج المرإة المستبدة
وأطعلنا نجيب محفوظ على ذلك النموذج من النساء في مسرحية الشيطان يعظ، وذلك من خلال قيام جني بإعادة أهل مدينة النحاس التي كانوا يعيشون فيها من عشرين ألف سنة للحياة برغبة من أحد الصالحين تنفيذا لرغبة الخليفة عبد الملك بن مروان.
وتبعث الحياة في هذه المدينة وأهلها، وتظهر فيها ملكتهم امرأة مستبدة باطشة بكل من يعارضها، كما أن النساء في هذه المدينة كن هن اللائي يسيطرن على الرجال ويطلبنهم للزواج، وتبالغ هذه المرأة في ظلمها، فتدعو أهل هذه المدينة لعبادتها، ويحاول ذلك الشيخ الصالح وموسى بن نصير وشاب آخر نصح هذه الملكة وسكن مدينتها وتعريفهم بأنهم عادوا للحياة من جديد وأنه لا يجب عليهم أن يكرروا أخطاءهم التي فعلوها في الماضي واستمروا غضب الله عليهم بتدمير مدينتهم وموتهم، ولكنهم لا يستمعون لهم بل أمرت تلك الملكة بقتلهم، وقبل أن يقتلوا يعيد ذلك الجني تلك المدينة لما كانت عليه من هلاك وتدمير.
سادسا: المرأة المخادعة
وتظهر هذه المرأة المخادعة في مسرحية التركة، ونراها فيها تشترك مع رجل - هو عشيق لها - في إدارة خمارة، وتأتي معه لبيت أبيه على أنها زوجته، ولا ترى هي وذلك الرجل والده، ولكن تحدث حوادث غريبة لهما في ذلك البيت المهجور الذي ذهبا إليه، وكان ذلك عقابا لهما على سوء خلقهما وعلى خداعهما على وجه الخصوص.
سابعا: المرأة العاشقة
ونرى نموذج المرأة العاشقة في مسرحيتين من مسرحيات نجيب محفوظ، وتظهر على أنها شخصية ثانوية في مسرحية المهمة حيث تأتي لشاب في مكان خلاء مهجور، وكانت قد تواعدت معه على أن تلتقي معه فيه، ولكن شخصا يقطع عليهما حديث الغرام بينهما؛ مما يجعل هذه الفتاة تغادر ذلك المكان، وتحدث أحداث غريبة بعد ذلك في هذه المسرحية هي أقرب للفنتازيا.
أما المرأة العاشقة الأخرى في مسرح نجيب محفوظ فنراها في مسرحية مشروع للمناقشة، وهذه المرأة هي ممثلة، وكان قد جذبها لحب التمثيل حبها لمؤلف، وقد صرحت له بحبها بعد شهرتها، وأخبرته أنها لم تحب غيره وذلك على الرغم من كبر سنه عنها، وكذلك على الرغم من كثرة عشاقها الذين عرفتهم ولم تحبهم إلا لنشوة الجسد فقط.

علي خليفة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى