علي خليفة - الزمان في مسرح نجيب محفوظ

لم يكن نجيب محفوظ منقطعا لكتابة المسرحيات، ولكنه كان شحيح الكتابة فيها، والمسرحيات الثماني التي كتبها تعد تجارب مسرحية بحق، فهو في كل مسرحية منها يحاول أن يقدم تجربة جديدة في الصياغة والشكل؛ ولذلك رأينا بصمات مسرح العبث واضحة عنده في مسرحية المطاردة، كما رأينا بصمات مسرح بيرانديللو في وجود تمثيل داخل تمثيل، وصراع المخرج مع المؤلف والممثلين في مسرحية مشروع للمناقشة، ورأينا أيضا بعض آثار من مسرح ما بعد العبث في الشكل في مسرحية المهمة.
والأمر لا يقتصر في مسرح نجيب محفوظ على محاولاته للتجريب في الشكل المسرحي في أكثر المسرحيات التي كتبها، ولكنه كان فيها أيضا يتناول قضايا فلسفية، كقضية الموت، ومن أهم هذه القضايا التي عرضها في بعض مسرحياته هي قضية موقف الإنسان من الزمان، وأثر الزمان عليه، وسنعرض في هذا المقال أبعاد هذه العلاقة بين الإنسان والزمان في مسرح نجيب محفوظ.
أولا: تتبع الزمن للإنسان وظهور آثاره عليه
الزمان هو شيء خفي لا يظهر لنا بشكل ملموس، ولكننا نستشعر آثاره فينا وفي كل ما حولنا، وفي مسرحية المطاردة جسد نجيب محفوظ الزمن في شخص قوي، يتتبع الناس، ويستغربون من تتبعه لهم، ولا يعرفون سبب تتبعه ومراقبته لهم، ويتضايق بعض الناس من تتبعه ومراقبته لهم، ويحاولون أن يواجهوه، ولكنهم يشعرون بالعجز عند مواجهته.
ويكشف الزمن في هذه المسرحية - التي كتبها نجيب محفوظ متأثرا بمسرح العبث لا سيما في تقنياته - عن محاولات الإنسان العديدة لتجاهل الزمن أو للتغلب عليه بصبغ الشعر وما شابه ذلك، ولكن الزمن يفضح تلك الحيل، ويكشف عن آثاره العميقة في الجميع.
ونرى في هذه المسرحية أخوين يستغربان من تتبع شخص قوي يمسك سوطا، ويبدو مخيفا، ويظهر نفسه لهذين الأخوين في مراحل عمريهما المختلفة، ويحاولان أن يهربا من تتبعه لهما فلا يستطيعان ذلك، كما أنهما يعجزان عن مواجهته، ويظل ذلك الشخص يتتبعهما من بداية المسرحية حتى نهايتها، ويبدوان محاصرين منه.
ثانيا: عاطفة الحب هي وحدها التي تتغلب على الزمن
وخلال مسرحيات نجيب محفوظ الثماني نرى الزمن دائما يقهر كل شيء، ويستسلم له كل من يحاول مواجهته ومجابهته، فيما عدا عاطفة الحب القوية، فإنها وحدها التي تستطيع أن تقاوم الزمن وتتحدى آثاره، ونرى هذا في مسرحية مشروع للمناقشة، ففيها نرى ممثلة قد هويت فن التمثيل لحبها لأحد المؤلفين، وكان حبها له حبا رومانسيا لا دخل للجسد فيه، وحاولت قبل احترافها التمثيل أن تعرفه بحبها له، ولكنها لم تستطع، ومارست مهنة التمثيل المسرحي بعد ذلك، وصارت ممثلة مشهورة، وصرحت لهذا المؤلف في أحد المواقف التي جمعتها به بأنها أحبته منذ سنوات عديدة، ولم تحب غيره، وذلك على الرغم من كثرة علاقاتها مع بعض الرجال في الوسط الفني، وتصرح له أيضا بأنها ما زالت تحبه وذلك على الرغم من تقدم العمر به، وتقول له في ذلك الموقف: إنها لم يكن لها أن تخوض غمار فن التمثيل لولا حبها له.
ثالثا: تكثيف الزمن
وأقصد بتكثيف الزمن هنا أننا نرى مشهدا أو مشاهد متتابعة سريعة تعطينا دورة سريعة للزمن ونتبصر آثاره خلال ذلك، وفي مسرحية المهمة نرى نجيب محفوظ يعطينا صورة من تكثيف الزمن من خلال عرضه فيها لشخص مر في يوم واحد بأحداث غريبة، وفي كل موقف منها كان يرى شخصا غريبا يراقبه خلالها، ولا يلتفت ذلك الشاب لذلك الشخص الغريب الذي يتبعه في تلك المواقف الغريبة ذات النذير الواضح، ولكنه يواصل يومه، ويلتقي في نهايته بحبيبة له في مكان مهجور، فيأتيه ذلك الشخص ويفسد عليه ذلك اللقاء، وتفر تلك الحبيبة من ذلك المكان عند حضور ذلك الشخص الغريب إليه، ثم نرى بعد ذلك أربعة أشخاص غريبي الهيئة يقومون بمحاكمة ذلك الشاب وعقابه، ويعرفونه أنه يستحق العقاب الذي يقع عليه؛ لكونه لم يتعظ من المواقف التي تجمعت له هذا اليوم وكانت نذيرا له بقرب نهايته.
رابعا: استرجاع الزمن وارتكاب نفس الأخطاء
ونرى في مسرحية الشيطان يعظ جنيا يعيد لمدينة دمرت من عشرين ألف سنة الحياة لأهلها؛ وذلك تنفيذا لرغبة شيخ صالح ورفيقين له، وكانت هذه المدينة - واسمها مدينة النحاس، والمسرحية مستوحاة من إحدى قصص كتاب ألف ليلة وليلة - قد دمرت وهلك أهلها لظلمهم، ولتجرؤ ملكتها بإعلانها نفسها إلهة لأهل هذه المدينة.
وحين تعود الحياة لهذه المدينة وأهلها يحاول هؤلاء الأشخاص الذين وفدوا عليها من عصر آخر أن ينصحوا أهلها بألا يرتكبوا أخطاءهم السابقة حتى لا ينالوا نفس المصير، ولكنهم يفشلون في ذلك، وتدمر هذه المدينة من جديد، ويهلك أهلها.

علي خليفة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى