[ 6 ]
فى منتصف الليل تماما ، تفتح عليه الباب ، وتدخل ، لتجده ، مرتديا " الشورت " فقط ، ومستلقيا على السرير ، ويغط فى نوم عميق ، ويتصبب جسده بالعرق . تتأمل جسده العارى ، وتبتلع ريقها وتقول فى نفسها :
هي :
ـ ما شاء الله.
" وتمرر يدها على جسده "
" فزعا ينهض "
= من ؟!
هى :
ـ لا تنزعج . أنا نجوى .
" ممسكا بفوطة ، ومنشفا عرقه ، ويتناول قميصه المعلق على مسمار بالحائط ويرتديه
على عجل "
ـ نمت . كما لم أنم من قبل .
" تنظر إلى الجداء والخراف الراقدة حول السرير . لا تحرك ساكنا "
هى :
ـ هل تصر على أن تكمل ليلتك هنا .
هو :
= نعم . هنا راحتى
" تنظر إلى جسده العارى ، تقترب منه تهمس " :
ـ هناك . فى الفيلا . أعددت لك ، غرفة نوم فاخرة .
" همّ أن ينطق ، وضعت سبابتها على شفتيه " :
= تك . تك .. لا تتكلم قبل أن تراها . غرفة أسطورية
" تسمر مكانه ، ولم يتحرك "
قالت :
ـ لا بأس . فأنا مثلك . كرهت الفراش الوثير ، و ..
" منسحبة بدلال وخفة ، ومعلقة خلفها الباب "
" تعود بعد قليل تحمل " صينية " عليها أنواع مختلفة من اللحوم ، وخمور ،
ومسليات "
هو :
= كل هذا الأكل لى ! ماذا تظنينني ؟!
هى :
ـ ولى أيضا .
هو :
= وهل تتنازل سيدتى وتأكل معى .
هى " ضاحكة " :
ـ مازلت مُصرّاً على أنك البستانى . وليكن أنك البستانى .
" وقائلة بنعومة " :
ـ لماذا لا تكون أنت الليلة السيد ؟!
هو " مثأثئا " :
= أ .. أ .. ن .. ا .. أنا الليلة السيد !
هى " تدس فى فمه شطيرة لحم " :
" وتمرر يدها على جسده العارى "
" كأنها تخاطب نفسها "
ـ ما أفسح صدره ، وما أجمل جسده.
هو " مطأطئأ رأسه إلى الأرض "
هى " مطوقة رقبته بيدها وضاحكة " :
ـ أتمثل الخجل ؟!
ـ أين اللواتى اعتمدتهن ؟!
و...
هو :
= أنت سيدتى .. وا .. أنا ..
هى :
ـ لا تندمج " أوى " فى تمثيل الدور . قلت أنت الليلة السيد وتطبع قبله على شفتيه ، وتمسك بيده .
هيا .. تعال .. انهض
" يقوم معها " :
= لى أين ؟!
هى :
ـ لا تخف . على بُعد خطوات من هذه الغرفة ستعرف . تطوق خصره بيدها ، وتسير عبر طرقة صغيرة إلى غرفة واسعة تضيء النور .
ـ تفضل .
هو " مرتجفا . وكاد أن يصرخ ويجرى "
هى " ممسكة بيده وضاحكة "
ـ تعال .. لا تخف .
هو :
= ما هذا ؟
هى :
ـ كما ترى .
هو :
= مقابر !
هى :
ـ هيا كل مقابر ، وليست مقابر .
هو :
= وهل الحب يمارس هنا .
هى :
ـ نعم .
هو :
= ما هذا المزاج الغريب ؟ .. حب فى المقابر ، أعرف أن الحب يمارس فى غرف وثيرة وجميلة ومغلقة ، فى أحواض زهور أو فى حدائق جميلة كما فى أوربا مثلا
هي :
ـ ويمارس أحيانا في خرابات ، في حمامات ، في .. وفي ..
هو :
= هل تعرفين أنني ..
هي " مقاطعة " :
ـ أعرف أنك داهية ، و..
هو :
= فى الحقيقة إننى ..
هى " مقتربة منه ، ونازعة الروب ، لتبدو فى قميص نومها القصير الشفاف – امرأة ، متوهجة ، مكتملة الأنوثة ، تدلك بيدها شعره وتمرر فمها وأنفاسها على شفتيه وأنفه وفمه ، تفك له أزرار القميص ، وتسحب الشورت ، تعلو دقات قلبه وتهبط ، تقبض بيدها على ... ، يبدو فى يدها كقطعة رخوة من عجين ، تنزعج ، وتفرط يدها ، تبتعد عنه ، وتتصلب واقفة ، ناظرة له بدهشة وغضب ، وهو يجرى ، منزويا فى جانب الغرفة ، قابضا على .. بكلتا يديه .. ضاحكة بهستريا .
ـ أنت ..
" هازا رأسه ومطأطأ رأسه "
= نعم .. نعم ..
قائلة بضيق وغضب :
ـ كيف ؟!
هو " مثأثئا ومتهتها " :
هى " مرتدية الروب " وبحسم :
ـ ارتد ملابسك ؟!
هو : " مرتديا ملابسه ":
= أسف يا سيدتى .. كان بودى أن ..
هى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ .. لا بأس . لا بأس . وباكية .. تختلط الدموع بالابتسامات والضحك بالبكاء .. وتحدث نفسها :
معقول هذا الجسد الجميل ، القوى ، غير قادر على .. ، .. " ناظرة له "
ـ ثم ما هذا " الفشر " ؟!
وضاحكة " وتقلده فى صوته وحركاته " :
ـ آلاف النساء التقيت بهن ، سمراوات ، وشقراوات ، بدينات ، ونحيفات ، مصريات ، وأوروبيات ، خليجيات ، وأفريقيات ، و.. ، .. تحتضن الهواء .
انظري ! .. هذا القميص !
" وتشد نفسا عميقا "
مازالت رائحتها فيه ، أنوثتها تخللت نسيجه وصارت من مكوناته .
آه – كانت ليلة .. هئ هئ .. هئ هئ ..
" تجلس على حصيرة متآكلة بجوار فوهة المقبرة ، ممسكة بزجاجة الخمر ، وتدفع الخمر من فوهة الزجاجة إلى جوفها مباشرة ، تتطوح قليلا وهى جالسة ، تنادى عليه .
ـ تعال . تعال يا مسكين ، تعال .. تعال يا " أبو لمعة " اجلس بجوارى ، واحك لى ، واسمع منى .
ـ اشرب ؟!
" تقرب الزجاجة من فمه "
ـ احك .. احك يا أبو لمعة ، بدون كذب ، مكسوف ، معلش ، أحكي أنا .
ـ كنا نعيش فى المقابر ، بعيدا عن القرية – أظنك تعرف .. أليس كذلك ؟! . المهم لما نمت أثدائي ، ونعم صوتى ، وكبرت أردافى ، التفت لى بعض شباب القرية ، كانوا يطاردوننى بالكلام المعسول ، كنت أفرح به ويطير النوم من عينى ، وطوال الليل ، أسترجع كلماتهم ، الهامسة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى ، فى جسدى ، وعيني ، وشفتى ، وصدرى .. كانوا يحومون حول المقابر بالنهار ، ويمطروننى بعبارات الغزل وجمل الهيام .
كان لكل بنت فى المدرسة حبيب ، يداعب أنوثتها ، وأحلامها ، كنت أحلم بفارس ، يأتى ، على جواد أبيض ، يأخذنى خلفه ، ويطير بي ، فوق السحاب ، يسكنى على سطح القمر ، أو فى أى كوكب آخر ، ينتشلنى من الفقر ، والمقابر ، والأموات ، وشباب القرية التى تحولت كلماتهم إلى رصاصات ، فتجرأت أياديهم على صدرى ، وعلى خصرى فى الطريق ، يتحلقون حولى ، وأشعر بعشرات الأيادي تمتد لتستبيح جسدى ، أصرخ ، والطريق إلى المقابر ، غالبا ما يكون خال من المارة .
أحفن بيدى التراب ، وألقيه فى أعينهم ، وأقبض على الطوب والأحجار ، وأحدفهم وأنا أجرى ، وأصرخ ، ويتناهى إلى مسامعى سبابهم ، ومعايرتهم لى بأبى وأمي .
كنت أدعو عليهم بالموت ، ليأتوا لنا فى المقابر ، فأنتقم منهم ، كنت أشكو لآبائهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو أخوالهم – الذين ماتوا !!.. كنت أتمنى أن يأتوا ويدفنوا ، فأنبش عنهم المقابر ، فأفقأ عيونهم النهمة ، وأقطع ألسنتهم التى ترجمنى ، وأبتر أرجلهم التى تركلنى ، وأياديهم التى تمتد إلى صدرى وخصرى ، ولا أنسى أبداً ذلك الولد العفى ، الذى باغتنى وأنا عائدة ، وخرج من غيطان الأذرة ، وكتم فمى بيده ، ولوى ذراعى ، وحملنى ودخل بي متدثرا بعيد أن الأذرة الفارغة ، وطرحنى أرضا ، وبرك فوقى ، أحسست به كجبل ، مزق قميصى ، وجذب سروالى ، و " سلت " بنطاله ، وبكل ما أوتيت من قوة رحت أقاومه ، لم أستطع أن " أتعتعه " . كان مثل الثور الهائج ، لا يحس بنبش أظفارى ولا بأسنانى المغروسة فى لحمه .
ولما قضى حاجته . إذ بقوته تخور ، وبجسده يخمد ، وبكل ما أوتيت من عزم و قوة دفعته بساقى ، فوقع على الأرض على ظهره ، ونهضت صارخة ، ألملم ملابسى ، وأمسح عرقى ، وأبصق فى وجهه ،وعدوت منهارة ، وهو لم يزل نائما ، مهدودا ، مثل العجل ، يرمقنى بابتسامة بلهاء !
" وتدفع بزجاجة الخمر إلى فمها ، وتضحك ... "
ـ وظلت صورته لا تفارقنى ، يأتينى كثيرا فى النوم ، ولكنى لا أقاومه أبدا ، كان يشبعنى فى الحلم لما توقف بهاء عن إشباعى ، انشغل بالمال والتجارة ، ويئس منى ، ومن نفسه ، كان يحلم بولد يرثه ، وكنت أحلم بعشرة أولاد ، بل عشرين ، ذكورا وإناثا ، طفنا على كل الأطباء . حتى السحرة قالوا لا فائدة مني ولا منه.
كل هذه الثروة من يرثها ؟!
ـ الرجل الكفيف والمرأة العجفاء ! أظنهما ماتا ! لم أرهما منذ أن غادرت القرية ، حتى لو كانا حيين ، فماذا يفعلان بها ؟! .. اتفقنا . بهاء وأنا على أن نعطى ظهرينا للماضى ، ونسد كل الطرق إليه ، وخلعنا إسمينا ، وجذورنا الهشة ، وبدأنا المسيرة ، كنا نعرف أن الزمن الآتي زمننا ، وأن الدنيا ستفتح لنا ذراعيها ، وفتحت لنا ذراعيها ، وأغدقت علينا ، ولكنها حرمتنا أيضا ، كنت أتعذب وأنا أراني أرضا يبابا .
" تغمض عينها ، وتضع يدها على بطنها ..، وتتناول كأسا " :
ـ كنت أتوق لأن أرى بطنى ، تتكور ، وتتمدد ، وتنفرط أمامى ، وأحس مثل كل النساء الحوامل ، بأصابعه الرقيقة الناعمة ، تنقر على بطنى ، وبقدميه الدقيقتين ترفسانى .
أتأمل بطنى ، وأنا أبدل ملابسى ، أنقر عليها بأصابعى ، أحس بخواء وخراب ، فالأرض جدب ، والمطر شحيح ، فأبكى ، وأبكى .. وأظل أبكى .. وأبكى ، حتى يزورنى النوم ، وفى نومى ، أرى القابلة لا الطبيب ، قد سحبته من رحمى ، طفلا جميلا ، أول ما وقعت عليه عيناى ، اختلج قلبى ، وغمرتنى فرحة ، أتناوله من القايلة ، أضعه فى حجرى ، يستكين ، أغمره بالقبلات ، أستيقظ ، وأوقظ بهاء ، وأنا أشعر وكأن ، أجنحة طير أبيض تهفهف ، وتخفق فى بطنى ، وبأصوات وكأنها هديل حمام أو زقزقة عصافير أو تغريد كروانات ، أو شدو بلابل أبصرته .. أبصرته فى نومى وأنا فرحانة ، فإذا هو على غير عادة الأطفال الساقطين لتوهم من رحم أمهاتهم ، مبتسم ، ابتسامة تملأ وجهه الصبوح .
أقول لبهاء . الذى لا يصدق بأنى أحس به يمد عنقه ، ويفرط يديه الصغيرتين ، بأنه يتحسس بطنى ، وينقر عليها بأنامله ، نقرات خفيفة ، كأنها قطرات ندى تسقط على ورق الشجر ، أطلب من بهاء الذى لا يصدقنى ، أن يتحسس بطنى وأن يضع أذنه عليها ليصغى إلى خفقات ابنه ، مغتاظا يغادر الفراش وأنا أصرخ فيه :
ـ ابق بجوار ابنك ، ولا تفارقه .
" ويخرج صافقا الباب خلفه "
وتزداد خفقات الأجنحة فى بطنى ، وأبقى وحدى – أصيخ السمع ، ولا أدرى ، إن كنت أسمع هسيساً أو همساً أو أصوات طير لا أتبينها ، ولا أدرى إن كنت فرحة أم حزينة ، كل ما أدريه – أنى فى عالم غير العالم ، وأبصر نفسى ، وأرانى ، أنا الممتلئة قليلا ، أخف ، وأشف ، وأصير مثل العصفور ، وبطنى الممدود أمامى يرق ويرق ، وتصير جلدة بطنى مثل الزجاج الشفيف ، وأرى هذه المرة بنتا لا ولدا ، وجهها بلون البدر ، وشعرها قطع من الليل ، أتناولها برفق ، أضمها لصدرى ، أهدهدها ، ألاعبها ، أحممها ، أعطرها ، أضع الكحل فى عينيها ، أزجج حاجبيها ، وأراها تكبر ، وتكبر ، وتجرى مع البنات هنا وهاهنا ، وشعرها السارح خلفها يتطوح ويتموج .
قال الساحر : لا حل لحالتكما إلا فى المقابر .
كان آخر شعاع أمل ، تردد بهاء
قلت :
ـ سنتسلل فى الليل ولن يرانا أحد .
وذكرته بأول لقاء .
وتسللنا إلى المقابر ، وبريق أمل يومض فى نفسى ،
أحسست به بارداُ .
منذ زمن وأنا أحس به بارداُ.
وأشعل سيجارته ، وأنا مستلقية على ظهرى ، وأقسم ألا يعود للمقابر مرة أخرى
أمام دموعى وحالتى النفسية التى تسوء يوما بعد يوم ، حول هذا المكان إلى المقابر عكف على صناعتها بنفسه ، وكنت أساعده ، ويحدونى الأمل ، وها أنت ترى المقابر – بكل تفاصيلها ، حتى أفراس النبى ، والسحالى ، كل الجزئيات ، والمنمنمات الصغيرة لم تغب عنا ، أنظر إلى تلك السحلية وهى تسعى ، أصغ إلى هذا الدبور وهو يزن ! وتلك الأشجار ، أنظر إلى ظلالها !! ومساحات الظلال .
وبدأنا نمارس الحب هنا ، فقد كان السرير الوثير باردا ، والحجرة باردة
نهرب إلى هنا ..
ننام على هذه الحصيرة المتآكلة ، ونشرب من هذه " القلة " وتلك الأسطوانات جئنا بها ،
" تدير أسطوانة "
" صفير الرياح ، وحفيف أوراق الشجر ، وصوت البرق ، وصوت الرعد والمطر "
" وتتناول كأسا .. "
ـ وأصبحت أقضى جلّ وقتى هنا ، يختلط فى ذهنى الماضى بالحاضر والمستقبل .
كنت أظن أنى دفنت الماضى ، فكنا بهاء وأنا نبعده عنا حتى لا يعيق خطا تقدمنا .
حاولنا أن نصنع ماضيا على هوانا .
هو ابن الحلاق أصبح ابناً لطبيب صيدلى . وأنا بنت التربى أصبحت ابنة لواحد من كبار رجال الأزهر !
وعندما تملك المال – لا أحد يسأل أو يهتم ، فقولك صدق ، فالأغنياء ملائكة لا يكذبون ، ولا .. ، ولا ..
" وتضحك " :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
وامتلكنا المال ! .. لا تقل كيف ؟!
كان لا بد أن نملكه ، ونقبض عليه ، وقبضنا عليه فى بضع سنين .. لم أكن جميلة ، ولكنى عرفت كيف أكون جميلة ، مسئولون ، وموظفون كبار ، من درجة مديرين عموميين ووكلاء وزراء ، فصاعدا ، نتسلل إليهم ، بهاء وأنا ، ونعرف نقاط ضعفهم ، وحاجتهم إلى .. ، وإلى .. ، إلى ...
" وتتجرع من الزجاجة "
ـ هذه شذرات من معاناتى ، ولمحات خاطفة من حياتى ، احك ، احك أنت ، أوقفنى على حكايتك ...
" وتصب له كأسا .. "
ـ اشرب .. ولا تخف ، فسرك فى بئر
" يتناول الكأس ، يدفعه مرة واحدة فى جوفه "، يقول :
= لا يمكن أن أنسى ، منظر الشيخ ، شيخ القبيلة ، وقد احتقن وجهه بالدم والغضب
" ويطوح بعصاته الأبنوس فى الهواء " ويقول :
= من يدرى .. قد يتجرأ فلاح ـ فى قادم الأيام على إغواء فتاة من فتياتنا
وأشار إلي ..
احتضننى الخوف ،
تحلقوا حولى ، وتكاثروا علي ،
جرونى إليه
أحكم قبضته القوية حول معصمى ، لم أبدِ مقاومة .
سحبنى إلى إسطبل الغنم والجداء ..
دفعنى إلى الإسطبل واغلق خلفه الباب ، مكثت يوما أو بعض يوم
حتى كان مساء اليوم التالى
جاء الرجل الأسود ، عبداً حبشياً ، أعرفه ، يأتي مرة كل عام ، يجز صوف الغنمات وشعر الحمير ، كان صديقا لأبي ، وكان أبى يساعده ، ويسامره وهو يعد له الشاي والغذاء ، والنارجيلة ، وينقده أجره قبل أن يجف عرقه ، نيابة عن الشيخ ..
يعرفنى ، بالتأكيد يعرفنى ، آنست به ، حاولت أن أساعده كما كان يفعل أبى ، ولكنه نهرنى ، كنت أريد أن أبوح له وأحكى له ما جرى لأبي ، وكنت أتمنى أن يسألني عن أبى ؟! ، لكنه لم يفعل ، كان هذه المرة ، متجهما ، عابس الوجه .
فيما مضى ، كان يداعبني ، وكان حينما يدس أبى فى جيبه الأجرة يبتسم ، ويمنحنى قرشا ، لماذا يتحاشى النظر الي ؟! لا أريد قرشا يا عم ، ولكن أريد أن تبتسم فى وجهى ، وتأخذني فى حضنك ، وتهدهدنى ..
وفور أن فرغ من جز الصوف وقص الشعر والوبر ، جاء من يساعده فى فصل الجداء والخراف عن المعزات والغنمات ، وسحبها إلى " الجرن " ، ولا أدرى لماذا سحبوني معها ؟!
وبدأت المراسم السنوية ، فى هذا الوقت من كل عام ، يتحلق حوله جمهرة من الناس ، يتابعون عملية الخِصاء ، جدى وراء جدى ، وخروف بعد خروف ، تمزق أصواتها السكون وتشرخ القلب .
قال الشيخ وهو يدفع بعصاته فى صدرى : ـ خذ هذا التيس !
قبل أن يجردونى من ملابسي ، كان البلل قد غطاها ، قيدوا قدمي ويدى ، خرس لسانى ، وجحظت عيناى ، و .. ، ..
[ يضع يداه بين فخذيه ، وتحس به ، ينكمش ، ويتكور على نفسه ، ويصرخ ، تصب له كأسا ، يتجرعه دفعة واحدة ]
ـ تارة أراني جديا ، وتارة أراني خروفا ، أحيانا أمأمأ ، وأحيانا أسير على أربع ، أجرش الفول بين أسناني ، وأخطف العلف ، والبرسيم من أمام البهائم ، انكسرت عيناى ، وتدلت أذناي ، إذا ما رأيت امرأة جميلة ، سال لعابي ، وإذا ما اغلق علينا الباب ، أرغو ، وأزبد ، وأصير مثل الجدى أو الخروف المخصى ..
إذا وطئ الجدى المخصي معزة أو الخروف المخصى غنمة ، جزعت ، ووجلت ، وطرحته أرضا ، وتروح تتفحص مكان أ .. ) بعينها ، وتتشممه بأنفها ، ترفسه برجليها الأماميتين ، وتفر ، وإذا ما نهض وعدا خلفها محاولا ، ترفسه بخلفيتيها .. وكان هذا حالى ، ولكن الجداء والخراف كانت أحسن حالا منى ، فأنقذتها السكاكين ..
[ ويبكي .. تهدهده ، تصب له كأسا .. يتجرعه ، وينظر إليها ]
= ما كنت أريد أن أتورط معك ، حتى لا تفرى منى ، مثل اللائى فررن ، لماذا أصررت ؟ ولماذا انسقت وراءك ؟
فى كل مرة ، مع كل امرأة ، كان يحدونى الأمل !
أمل كاذب .
هل كانت المعجزة ستتحقق معك ؟!
[ ويضحك .. ]
= ولى زمن المعجزات ، وزمن الأنبياء ، وصرنا فى زمن ..
هى " مقاطعة " :
ـ رغم كل شئ ما زال الزمن زماننا
هو " ضاحكا " :
= زمن بنت الترابي !
هى " ضاحكة " :
ـ وابن الكلاف !
[ تصب له كأسا ، ولها كأسا ..]
ـ فى صحتك
[ يطرق كأسه بكأسها ]
= فى صحتك
[ عيناه فى عينيها .. وكفه فى كفيها ... ]
هى :
ـ ما رأيك ؟!
هو :
= فى ماذا ؟
هى :
ـ أنت تملك القلم
هو :
= وأنت تملكين الفلوس 0
.....
.......
" تمت "
فى منتصف الليل تماما ، تفتح عليه الباب ، وتدخل ، لتجده ، مرتديا " الشورت " فقط ، ومستلقيا على السرير ، ويغط فى نوم عميق ، ويتصبب جسده بالعرق . تتأمل جسده العارى ، وتبتلع ريقها وتقول فى نفسها :
هي :
ـ ما شاء الله.
" وتمرر يدها على جسده "
" فزعا ينهض "
= من ؟!
هى :
ـ لا تنزعج . أنا نجوى .
" ممسكا بفوطة ، ومنشفا عرقه ، ويتناول قميصه المعلق على مسمار بالحائط ويرتديه
على عجل "
ـ نمت . كما لم أنم من قبل .
" تنظر إلى الجداء والخراف الراقدة حول السرير . لا تحرك ساكنا "
هى :
ـ هل تصر على أن تكمل ليلتك هنا .
هو :
= نعم . هنا راحتى
" تنظر إلى جسده العارى ، تقترب منه تهمس " :
ـ هناك . فى الفيلا . أعددت لك ، غرفة نوم فاخرة .
" همّ أن ينطق ، وضعت سبابتها على شفتيه " :
= تك . تك .. لا تتكلم قبل أن تراها . غرفة أسطورية
" تسمر مكانه ، ولم يتحرك "
قالت :
ـ لا بأس . فأنا مثلك . كرهت الفراش الوثير ، و ..
" منسحبة بدلال وخفة ، ومعلقة خلفها الباب "
" تعود بعد قليل تحمل " صينية " عليها أنواع مختلفة من اللحوم ، وخمور ،
ومسليات "
هو :
= كل هذا الأكل لى ! ماذا تظنينني ؟!
هى :
ـ ولى أيضا .
هو :
= وهل تتنازل سيدتى وتأكل معى .
هى " ضاحكة " :
ـ مازلت مُصرّاً على أنك البستانى . وليكن أنك البستانى .
" وقائلة بنعومة " :
ـ لماذا لا تكون أنت الليلة السيد ؟!
هو " مثأثئا " :
= أ .. أ .. ن .. ا .. أنا الليلة السيد !
هى " تدس فى فمه شطيرة لحم " :
" وتمرر يدها على جسده العارى "
" كأنها تخاطب نفسها "
ـ ما أفسح صدره ، وما أجمل جسده.
هو " مطأطئأ رأسه إلى الأرض "
هى " مطوقة رقبته بيدها وضاحكة " :
ـ أتمثل الخجل ؟!
ـ أين اللواتى اعتمدتهن ؟!
و...
هو :
= أنت سيدتى .. وا .. أنا ..
هى :
ـ لا تندمج " أوى " فى تمثيل الدور . قلت أنت الليلة السيد وتطبع قبله على شفتيه ، وتمسك بيده .
هيا .. تعال .. انهض
" يقوم معها " :
= لى أين ؟!
هى :
ـ لا تخف . على بُعد خطوات من هذه الغرفة ستعرف . تطوق خصره بيدها ، وتسير عبر طرقة صغيرة إلى غرفة واسعة تضيء النور .
ـ تفضل .
هو " مرتجفا . وكاد أن يصرخ ويجرى "
هى " ممسكة بيده وضاحكة "
ـ تعال .. لا تخف .
هو :
= ما هذا ؟
هى :
ـ كما ترى .
هو :
= مقابر !
هى :
ـ هيا كل مقابر ، وليست مقابر .
هو :
= وهل الحب يمارس هنا .
هى :
ـ نعم .
هو :
= ما هذا المزاج الغريب ؟ .. حب فى المقابر ، أعرف أن الحب يمارس فى غرف وثيرة وجميلة ومغلقة ، فى أحواض زهور أو فى حدائق جميلة كما فى أوربا مثلا
هي :
ـ ويمارس أحيانا في خرابات ، في حمامات ، في .. وفي ..
هو :
= هل تعرفين أنني ..
هي " مقاطعة " :
ـ أعرف أنك داهية ، و..
هو :
= فى الحقيقة إننى ..
هى " مقتربة منه ، ونازعة الروب ، لتبدو فى قميص نومها القصير الشفاف – امرأة ، متوهجة ، مكتملة الأنوثة ، تدلك بيدها شعره وتمرر فمها وأنفاسها على شفتيه وأنفه وفمه ، تفك له أزرار القميص ، وتسحب الشورت ، تعلو دقات قلبه وتهبط ، تقبض بيدها على ... ، يبدو فى يدها كقطعة رخوة من عجين ، تنزعج ، وتفرط يدها ، تبتعد عنه ، وتتصلب واقفة ، ناظرة له بدهشة وغضب ، وهو يجرى ، منزويا فى جانب الغرفة ، قابضا على .. بكلتا يديه .. ضاحكة بهستريا .
ـ أنت ..
" هازا رأسه ومطأطأ رأسه "
= نعم .. نعم ..
قائلة بضيق وغضب :
ـ كيف ؟!
هو " مثأثئا ومتهتها " :
هى " مرتدية الروب " وبحسم :
ـ ارتد ملابسك ؟!
هو : " مرتديا ملابسه ":
= أسف يا سيدتى .. كان بودى أن ..
هى :
ـ هئ هئ .. هئ هئ .. لا بأس . لا بأس . وباكية .. تختلط الدموع بالابتسامات والضحك بالبكاء .. وتحدث نفسها :
معقول هذا الجسد الجميل ، القوى ، غير قادر على .. ، .. " ناظرة له "
ـ ثم ما هذا " الفشر " ؟!
وضاحكة " وتقلده فى صوته وحركاته " :
ـ آلاف النساء التقيت بهن ، سمراوات ، وشقراوات ، بدينات ، ونحيفات ، مصريات ، وأوروبيات ، خليجيات ، وأفريقيات ، و.. ، .. تحتضن الهواء .
انظري ! .. هذا القميص !
" وتشد نفسا عميقا "
مازالت رائحتها فيه ، أنوثتها تخللت نسيجه وصارت من مكوناته .
آه – كانت ليلة .. هئ هئ .. هئ هئ ..
" تجلس على حصيرة متآكلة بجوار فوهة المقبرة ، ممسكة بزجاجة الخمر ، وتدفع الخمر من فوهة الزجاجة إلى جوفها مباشرة ، تتطوح قليلا وهى جالسة ، تنادى عليه .
ـ تعال . تعال يا مسكين ، تعال .. تعال يا " أبو لمعة " اجلس بجوارى ، واحك لى ، واسمع منى .
ـ اشرب ؟!
" تقرب الزجاجة من فمه "
ـ احك .. احك يا أبو لمعة ، بدون كذب ، مكسوف ، معلش ، أحكي أنا .
ـ كنا نعيش فى المقابر ، بعيدا عن القرية – أظنك تعرف .. أليس كذلك ؟! . المهم لما نمت أثدائي ، ونعم صوتى ، وكبرت أردافى ، التفت لى بعض شباب القرية ، كانوا يطاردوننى بالكلام المعسول ، كنت أفرح به ويطير النوم من عينى ، وطوال الليل ، أسترجع كلماتهم ، الهامسة أحيانا والصريحة أحيانا أخرى ، فى جسدى ، وعيني ، وشفتى ، وصدرى .. كانوا يحومون حول المقابر بالنهار ، ويمطروننى بعبارات الغزل وجمل الهيام .
كان لكل بنت فى المدرسة حبيب ، يداعب أنوثتها ، وأحلامها ، كنت أحلم بفارس ، يأتى ، على جواد أبيض ، يأخذنى خلفه ، ويطير بي ، فوق السحاب ، يسكنى على سطح القمر ، أو فى أى كوكب آخر ، ينتشلنى من الفقر ، والمقابر ، والأموات ، وشباب القرية التى تحولت كلماتهم إلى رصاصات ، فتجرأت أياديهم على صدرى ، وعلى خصرى فى الطريق ، يتحلقون حولى ، وأشعر بعشرات الأيادي تمتد لتستبيح جسدى ، أصرخ ، والطريق إلى المقابر ، غالبا ما يكون خال من المارة .
أحفن بيدى التراب ، وألقيه فى أعينهم ، وأقبض على الطوب والأحجار ، وأحدفهم وأنا أجرى ، وأصرخ ، ويتناهى إلى مسامعى سبابهم ، ومعايرتهم لى بأبى وأمي .
كنت أدعو عليهم بالموت ، ليأتوا لنا فى المقابر ، فأنتقم منهم ، كنت أشكو لآبائهم أو أمهاتهم أو أعمامهم أو أخوالهم – الذين ماتوا !!.. كنت أتمنى أن يأتوا ويدفنوا ، فأنبش عنهم المقابر ، فأفقأ عيونهم النهمة ، وأقطع ألسنتهم التى ترجمنى ، وأبتر أرجلهم التى تركلنى ، وأياديهم التى تمتد إلى صدرى وخصرى ، ولا أنسى أبداً ذلك الولد العفى ، الذى باغتنى وأنا عائدة ، وخرج من غيطان الأذرة ، وكتم فمى بيده ، ولوى ذراعى ، وحملنى ودخل بي متدثرا بعيد أن الأذرة الفارغة ، وطرحنى أرضا ، وبرك فوقى ، أحسست به كجبل ، مزق قميصى ، وجذب سروالى ، و " سلت " بنطاله ، وبكل ما أوتيت من قوة رحت أقاومه ، لم أستطع أن " أتعتعه " . كان مثل الثور الهائج ، لا يحس بنبش أظفارى ولا بأسنانى المغروسة فى لحمه .
ولما قضى حاجته . إذ بقوته تخور ، وبجسده يخمد ، وبكل ما أوتيت من عزم و قوة دفعته بساقى ، فوقع على الأرض على ظهره ، ونهضت صارخة ، ألملم ملابسى ، وأمسح عرقى ، وأبصق فى وجهه ،وعدوت منهارة ، وهو لم يزل نائما ، مهدودا ، مثل العجل ، يرمقنى بابتسامة بلهاء !
" وتدفع بزجاجة الخمر إلى فمها ، وتضحك ... "
ـ وظلت صورته لا تفارقنى ، يأتينى كثيرا فى النوم ، ولكنى لا أقاومه أبدا ، كان يشبعنى فى الحلم لما توقف بهاء عن إشباعى ، انشغل بالمال والتجارة ، ويئس منى ، ومن نفسه ، كان يحلم بولد يرثه ، وكنت أحلم بعشرة أولاد ، بل عشرين ، ذكورا وإناثا ، طفنا على كل الأطباء . حتى السحرة قالوا لا فائدة مني ولا منه.
كل هذه الثروة من يرثها ؟!
ـ الرجل الكفيف والمرأة العجفاء ! أظنهما ماتا ! لم أرهما منذ أن غادرت القرية ، حتى لو كانا حيين ، فماذا يفعلان بها ؟! .. اتفقنا . بهاء وأنا على أن نعطى ظهرينا للماضى ، ونسد كل الطرق إليه ، وخلعنا إسمينا ، وجذورنا الهشة ، وبدأنا المسيرة ، كنا نعرف أن الزمن الآتي زمننا ، وأن الدنيا ستفتح لنا ذراعيها ، وفتحت لنا ذراعيها ، وأغدقت علينا ، ولكنها حرمتنا أيضا ، كنت أتعذب وأنا أراني أرضا يبابا .
" تغمض عينها ، وتضع يدها على بطنها ..، وتتناول كأسا " :
ـ كنت أتوق لأن أرى بطنى ، تتكور ، وتتمدد ، وتنفرط أمامى ، وأحس مثل كل النساء الحوامل ، بأصابعه الرقيقة الناعمة ، تنقر على بطنى ، وبقدميه الدقيقتين ترفسانى .
أتأمل بطنى ، وأنا أبدل ملابسى ، أنقر عليها بأصابعى ، أحس بخواء وخراب ، فالأرض جدب ، والمطر شحيح ، فأبكى ، وأبكى .. وأظل أبكى .. وأبكى ، حتى يزورنى النوم ، وفى نومى ، أرى القابلة لا الطبيب ، قد سحبته من رحمى ، طفلا جميلا ، أول ما وقعت عليه عيناى ، اختلج قلبى ، وغمرتنى فرحة ، أتناوله من القايلة ، أضعه فى حجرى ، يستكين ، أغمره بالقبلات ، أستيقظ ، وأوقظ بهاء ، وأنا أشعر وكأن ، أجنحة طير أبيض تهفهف ، وتخفق فى بطنى ، وبأصوات وكأنها هديل حمام أو زقزقة عصافير أو تغريد كروانات ، أو شدو بلابل أبصرته .. أبصرته فى نومى وأنا فرحانة ، فإذا هو على غير عادة الأطفال الساقطين لتوهم من رحم أمهاتهم ، مبتسم ، ابتسامة تملأ وجهه الصبوح .
أقول لبهاء . الذى لا يصدق بأنى أحس به يمد عنقه ، ويفرط يديه الصغيرتين ، بأنه يتحسس بطنى ، وينقر عليها بأنامله ، نقرات خفيفة ، كأنها قطرات ندى تسقط على ورق الشجر ، أطلب من بهاء الذى لا يصدقنى ، أن يتحسس بطنى وأن يضع أذنه عليها ليصغى إلى خفقات ابنه ، مغتاظا يغادر الفراش وأنا أصرخ فيه :
ـ ابق بجوار ابنك ، ولا تفارقه .
" ويخرج صافقا الباب خلفه "
وتزداد خفقات الأجنحة فى بطنى ، وأبقى وحدى – أصيخ السمع ، ولا أدرى ، إن كنت أسمع هسيساً أو همساً أو أصوات طير لا أتبينها ، ولا أدرى إن كنت فرحة أم حزينة ، كل ما أدريه – أنى فى عالم غير العالم ، وأبصر نفسى ، وأرانى ، أنا الممتلئة قليلا ، أخف ، وأشف ، وأصير مثل العصفور ، وبطنى الممدود أمامى يرق ويرق ، وتصير جلدة بطنى مثل الزجاج الشفيف ، وأرى هذه المرة بنتا لا ولدا ، وجهها بلون البدر ، وشعرها قطع من الليل ، أتناولها برفق ، أضمها لصدرى ، أهدهدها ، ألاعبها ، أحممها ، أعطرها ، أضع الكحل فى عينيها ، أزجج حاجبيها ، وأراها تكبر ، وتكبر ، وتجرى مع البنات هنا وهاهنا ، وشعرها السارح خلفها يتطوح ويتموج .
قال الساحر : لا حل لحالتكما إلا فى المقابر .
كان آخر شعاع أمل ، تردد بهاء
قلت :
ـ سنتسلل فى الليل ولن يرانا أحد .
وذكرته بأول لقاء .
وتسللنا إلى المقابر ، وبريق أمل يومض فى نفسى ،
أحسست به بارداُ .
منذ زمن وأنا أحس به بارداُ.
وأشعل سيجارته ، وأنا مستلقية على ظهرى ، وأقسم ألا يعود للمقابر مرة أخرى
أمام دموعى وحالتى النفسية التى تسوء يوما بعد يوم ، حول هذا المكان إلى المقابر عكف على صناعتها بنفسه ، وكنت أساعده ، ويحدونى الأمل ، وها أنت ترى المقابر – بكل تفاصيلها ، حتى أفراس النبى ، والسحالى ، كل الجزئيات ، والمنمنمات الصغيرة لم تغب عنا ، أنظر إلى تلك السحلية وهى تسعى ، أصغ إلى هذا الدبور وهو يزن ! وتلك الأشجار ، أنظر إلى ظلالها !! ومساحات الظلال .
وبدأنا نمارس الحب هنا ، فقد كان السرير الوثير باردا ، والحجرة باردة
نهرب إلى هنا ..
ننام على هذه الحصيرة المتآكلة ، ونشرب من هذه " القلة " وتلك الأسطوانات جئنا بها ،
" تدير أسطوانة "
" صفير الرياح ، وحفيف أوراق الشجر ، وصوت البرق ، وصوت الرعد والمطر "
" وتتناول كأسا .. "
ـ وأصبحت أقضى جلّ وقتى هنا ، يختلط فى ذهنى الماضى بالحاضر والمستقبل .
كنت أظن أنى دفنت الماضى ، فكنا بهاء وأنا نبعده عنا حتى لا يعيق خطا تقدمنا .
حاولنا أن نصنع ماضيا على هوانا .
هو ابن الحلاق أصبح ابناً لطبيب صيدلى . وأنا بنت التربى أصبحت ابنة لواحد من كبار رجال الأزهر !
وعندما تملك المال – لا أحد يسأل أو يهتم ، فقولك صدق ، فالأغنياء ملائكة لا يكذبون ، ولا .. ، ولا ..
" وتضحك " :
ـ هئ هئ .. هئ هئ ..
وامتلكنا المال ! .. لا تقل كيف ؟!
كان لا بد أن نملكه ، ونقبض عليه ، وقبضنا عليه فى بضع سنين .. لم أكن جميلة ، ولكنى عرفت كيف أكون جميلة ، مسئولون ، وموظفون كبار ، من درجة مديرين عموميين ووكلاء وزراء ، فصاعدا ، نتسلل إليهم ، بهاء وأنا ، ونعرف نقاط ضعفهم ، وحاجتهم إلى .. ، وإلى .. ، إلى ...
" وتتجرع من الزجاجة "
ـ هذه شذرات من معاناتى ، ولمحات خاطفة من حياتى ، احك ، احك أنت ، أوقفنى على حكايتك ...
" وتصب له كأسا .. "
ـ اشرب .. ولا تخف ، فسرك فى بئر
" يتناول الكأس ، يدفعه مرة واحدة فى جوفه "، يقول :
= لا يمكن أن أنسى ، منظر الشيخ ، شيخ القبيلة ، وقد احتقن وجهه بالدم والغضب
" ويطوح بعصاته الأبنوس فى الهواء " ويقول :
= من يدرى .. قد يتجرأ فلاح ـ فى قادم الأيام على إغواء فتاة من فتياتنا
وأشار إلي ..
احتضننى الخوف ،
تحلقوا حولى ، وتكاثروا علي ،
جرونى إليه
أحكم قبضته القوية حول معصمى ، لم أبدِ مقاومة .
سحبنى إلى إسطبل الغنم والجداء ..
دفعنى إلى الإسطبل واغلق خلفه الباب ، مكثت يوما أو بعض يوم
حتى كان مساء اليوم التالى
جاء الرجل الأسود ، عبداً حبشياً ، أعرفه ، يأتي مرة كل عام ، يجز صوف الغنمات وشعر الحمير ، كان صديقا لأبي ، وكان أبى يساعده ، ويسامره وهو يعد له الشاي والغذاء ، والنارجيلة ، وينقده أجره قبل أن يجف عرقه ، نيابة عن الشيخ ..
يعرفنى ، بالتأكيد يعرفنى ، آنست به ، حاولت أن أساعده كما كان يفعل أبى ، ولكنه نهرنى ، كنت أريد أن أبوح له وأحكى له ما جرى لأبي ، وكنت أتمنى أن يسألني عن أبى ؟! ، لكنه لم يفعل ، كان هذه المرة ، متجهما ، عابس الوجه .
فيما مضى ، كان يداعبني ، وكان حينما يدس أبى فى جيبه الأجرة يبتسم ، ويمنحنى قرشا ، لماذا يتحاشى النظر الي ؟! لا أريد قرشا يا عم ، ولكن أريد أن تبتسم فى وجهى ، وتأخذني فى حضنك ، وتهدهدنى ..
وفور أن فرغ من جز الصوف وقص الشعر والوبر ، جاء من يساعده فى فصل الجداء والخراف عن المعزات والغنمات ، وسحبها إلى " الجرن " ، ولا أدرى لماذا سحبوني معها ؟!
وبدأت المراسم السنوية ، فى هذا الوقت من كل عام ، يتحلق حوله جمهرة من الناس ، يتابعون عملية الخِصاء ، جدى وراء جدى ، وخروف بعد خروف ، تمزق أصواتها السكون وتشرخ القلب .
قال الشيخ وهو يدفع بعصاته فى صدرى : ـ خذ هذا التيس !
قبل أن يجردونى من ملابسي ، كان البلل قد غطاها ، قيدوا قدمي ويدى ، خرس لسانى ، وجحظت عيناى ، و .. ، ..
[ يضع يداه بين فخذيه ، وتحس به ، ينكمش ، ويتكور على نفسه ، ويصرخ ، تصب له كأسا ، يتجرعه دفعة واحدة ]
ـ تارة أراني جديا ، وتارة أراني خروفا ، أحيانا أمأمأ ، وأحيانا أسير على أربع ، أجرش الفول بين أسناني ، وأخطف العلف ، والبرسيم من أمام البهائم ، انكسرت عيناى ، وتدلت أذناي ، إذا ما رأيت امرأة جميلة ، سال لعابي ، وإذا ما اغلق علينا الباب ، أرغو ، وأزبد ، وأصير مثل الجدى أو الخروف المخصى ..
إذا وطئ الجدى المخصي معزة أو الخروف المخصى غنمة ، جزعت ، ووجلت ، وطرحته أرضا ، وتروح تتفحص مكان أ .. ) بعينها ، وتتشممه بأنفها ، ترفسه برجليها الأماميتين ، وتفر ، وإذا ما نهض وعدا خلفها محاولا ، ترفسه بخلفيتيها .. وكان هذا حالى ، ولكن الجداء والخراف كانت أحسن حالا منى ، فأنقذتها السكاكين ..
[ ويبكي .. تهدهده ، تصب له كأسا .. يتجرعه ، وينظر إليها ]
= ما كنت أريد أن أتورط معك ، حتى لا تفرى منى ، مثل اللائى فررن ، لماذا أصررت ؟ ولماذا انسقت وراءك ؟
فى كل مرة ، مع كل امرأة ، كان يحدونى الأمل !
أمل كاذب .
هل كانت المعجزة ستتحقق معك ؟!
[ ويضحك .. ]
= ولى زمن المعجزات ، وزمن الأنبياء ، وصرنا فى زمن ..
هى " مقاطعة " :
ـ رغم كل شئ ما زال الزمن زماننا
هو " ضاحكا " :
= زمن بنت الترابي !
هى " ضاحكة " :
ـ وابن الكلاف !
[ تصب له كأسا ، ولها كأسا ..]
ـ فى صحتك
[ يطرق كأسه بكأسها ]
= فى صحتك
[ عيناه فى عينيها .. وكفه فى كفيها ... ]
هى :
ـ ما رأيك ؟!
هو :
= فى ماذا ؟
هى :
ـ أنت تملك القلم
هو :
= وأنت تملكين الفلوس 0
.....
.......
" تمت "