رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.. [مقدمة المحقق] د. عبد الهادي التازي.

[المجلد الاول][مقدمة المحقق]

من حوافز التّفكير في هذا النشر الجديد ...

لقد كان في صدر ما دفعنا لمراجعة الرحلة البحث عن مدى صحة المقولة التي تذكر أنّ الرحلة الموجودة بين أيدينا إن هي إلا "تلخيص" على حد تعبير ابن جزي نفسه، تلخيص من" تقييد" صاحب الرحلة ... وأن هناك أثرا للنص الكامل لذلك التقييد الأصلي ...وقد دعتنا للبحث حول هذا الموضوع فقرات وردت عند بعض الذين تحدثوا عن ابن بطوطة، نقلوها على أنها من أخباره في الرحلة ... وقد كان في صدر هؤلاء لسان الدين بن الخطيب 776- 1374 الذي نقل عن شيخه أبي البركات البلفيقي" أن ابن بطوطة أخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطينية، وهي على قدر مدينة مسقفة كلّها، وفيها اثنا عشر ألف أسقف ... " «1» هذا إلى فقرات نقلها أبو الحسن علي التمجروتي عن مدينة قابس في رحلته (997- 1589) وأنها كذا وكذا، ثم إلى فقرات ساقها أبو القاسم الزّياني تتحدث عن" حوار" تم بين ابن بطوطة والسلطان أبي عنان في أعقاب زيارة الرّحالة المغربي لبلاد السودان.قال الزّياني- نقلا كما يزعم عن البلوي في رحلته-: إن أبا عنان لما أحضر ابن بطوطة بين يديه عاتبه على عدم الاجتماع به لمّا قدم لفاس ... فقال: «يا مولانا إنما أتيت بقصد المثول بين يديك، ولكن لما دخلت المدرسة التي شيدتها ولم أكن وقفت على مثلها فيما شاهدته في المعمور كلّه، قلت: والله لابد لي أن أتمم عملي وأبرّ في قسمي بالوصول إلى أقاليم السودان حتى أشاهده وأقسم أنّ ليس في المعمور كلّه مثلها! فحقق الله ظني وأبرّ يميني، هذا موجب تأخيري عن المثول بين يديك". «2»وها نحن نرى أولا أن ابن بطوطة في الرحلة التي بين أيدينا يصرح أنه لم يدخل إلى الكنيسة، وإنما دخل حرمها ... وأنه لم يذكر عددا محددا لأساقفتها ... كما أن الرحلة- ثانيا- لم تتحدث عن قابس بمثل ما تحدث به التمگروتي، كما أنها لم تتحدث إطلاقا عن حوار جرى بين السلطان أبي عنان وبين ابن بطوطة على ما زعمه الزّياني «3» ، ونتيجة لكل ذلك فإن نقل البلفيقي حول الكنيسة ونقل التمگروتي عنه حول قابس ونقل الزّياني عن ذلك (الحوار) ... كل ذلك يبقى في عهدة رواته، سامحهم الله! ولم يسلم ابن بطوطة من الذين تقوّلوا عليه حتى في عصرنا الحديث هذا، فهناك من نقل عنه أنه خرج مغاضبا لذويه وانه لم يكن متعلقا بأسرته! ومنهم من ذكر أنه أي ابن بطوطة تأثر بما قيل إنه حديث (اطلبوا العلم ولو بالصّين) فشدّ الرحلة من اجل ذلك للصين! بل وفى العلماء من نسب إليه حديثه عن البلهارسيا في مصر ... وفي علماء الهند من حكى لي عن وقائع غريبة تروي عن ابن بطّوطة هناك ... !!غير أنه إذا كان البحث قد أدى بنا إلى أنه ليست هناك زيادات كثيرة على "تلخيص" ابن جزي لتقييد ابن بطوطة، فقد اكتشفنا إضافات فرضت علينا أن نقف أمامها معقّبين أو مصلّحين أو مستدركين. وحملتنا على الاقتناع حقّا بأن نشر الرحلة من قبل الأستاذين ديفريميري (DEFREMERY) وسانگينيتي (SANGUINETTI) في منتصف القرن الماضي معتمدين على المخطوطات الثلاث، أصبح متجاوزا فعلا سيما مع ما عثرنا عليه من تحريف لبعض الكلمات أو نقص في بعض الألفاظ مما سيقع التّنبيه عليه في مكانه بحول الله بعد أن توفّرنا على نحو من ثلاثين مخطوطة ...وقد كان من حوافز نشر الرحلة كذلك رغبة ملحة في الاستجابة لأمنية غالية شعرت بأهميتها عند ما انتسبت للمؤتمر العالمي للأسماء الجغرافية، تلك هي ضبط المواقع الجغرافية التي ذكرها الرحالة، وهي زهاء ألف علم جغرافي ورد ذكرها في الرحلة إلى القارات الثلاث، وهذه ثروة هائلة كان علينا أن نحافظ عليها كما أداها لنا ابن بطوطة.نحن نعلم أنّ السبب في تأليف ياقوت الحموي لموسوعته العظيمة: (معجم البلدان) هو ضبط علم جغرافي ورد في حديث نبوي شريف. لقد كان ياقوت بمرو الشاه خان «4» في مجلس يناقش موضوع أسواق العرب في الجاهلية وضبط كلمة (حباشة) حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتّجر لحساب السيدة خديجة، فرأى ياقوت أنها بضم الحاء، ورأى أحد المحدثين أنها بفتح الحاء، فاندفه ياقوت يبحث عن نصوص تؤيد ما ذهب اليه وطال بحثه حتى وقع على ما يؤيد رأيه ... وهنا فكّر في وضع موسوعة لضبط أسماء البلدان والمواقع على ما يقوله هو في المقدمة مغتنما هذه الفرصة ليردّ على المثل القائل: " ما ترك الأول للآخر شيئا"، ومردّدا قوله الجاحظ: ليس هناك أضر على العلم من هذا المثل الذي يفتّر الهمة ويضعف المنّة!! وهكذا جمعت عددا من الخرائط من ذات المقياس الواسع الذي يصل احيانا إلى مقياس واحد على خمسين ألفا. وهنا وجدت نفسي فعلا أنني أمام عالم واسع فسيح الأرجاء..

ولقد حاولنا أن نعيش مع حاضرنا ما أمكن، لذلك تجاوزنا (معجم البلدان) في التعريف ببعض المواقع الجغرافية ... كما حاولنا أن نتجاوز التعابير بالفراسخ والأميال والمراحل وما أشبهها إلى التعبير بالكيلوميترات، والتحديد بخطوط الطول والعرض ما أمكن ذلك.ولقد كان ابن جزيّ عظيما عند ما كان يلح في معظم الحالات على تحريك الأسماء الجغرافية أي شكلها بالوصف كما عرفنا ... وهي ظاهره كان ابن جزيّ من السبّاقين إليها ... لقد لاحظ البارون دوسلان De Slane في مقدمته لكتاب المغرب لأبي عبيد البكري أنّ إهمال ضبط كلمة من أربعة أحرف مثل (يعرف) ، عارية من التّنقيط، يمكن أن تصل احتمالات قراءتها إلى ثلاثمائة طريقة!! ونحن مع الأعلام الجغرافية في الرحلة لابد أن نشير إلى بعض الذين علّقوا على الرحلة واصطدموا ببعض الأسماء الجغرافية التي لم يصلوا إلى الحقيقة حولها، أولئك وجدوا من السهل عليهم أن يشكّكوا في مصداقية مرويات ابن بطوطة عوض أن يقوموا بتحقيق تلك الأعلام في عين المكان ودون ما أن يستسلموا لليأس!! ومع هذا فإنه من المفيد أن نعرف أن كثيرا من الذين اشتغلوا بابن بطوطة لم يفتهم أن يوسّعوا دائرة بحثهم حول المناطق التي زارها الرحالة المغربي. وهكذا نجدهم عند حديث ابن بطوطة عن البحرين مثلا يذكرون أن مدلول البحرين بالأمس كان أوسع بكثير مما هو عليه الأمر اليوم، بمعنى أن البحرين كانت تمتد لتشمل دولة الكويت الحالية وتشمل دولة قطر وتمتد إلى الاحساء. ومثل هذا نقوله عند الحديث عن زيارة ابن بطوطة لبعض الجهات في منطقة عمان (بضم العين) حيث نقرأ عن شمول الزيارة لبعض الإمارات العربية المتحدة اليوم: الشارقة مثلا التي تتبعها كلباء وخور فكان كما وقفنا عليها بالعيان! وعند ما يجدون أنفسهم مع ابن بطوطة في آسيا:- مل جاوة- قمارة، طوالسي، نقرأ عن احتمال زيارته للفيتنام، والطايلاند علاوة على الفيليبين واليابان ... ، ومالاكا في ماليزيا،- وسنغافور- والتّبّت- بورما (بره نكار) - الكامبودج والسيام ... وفي مصاحبته للأميرة التركية يبقى علينا أن نعرف عن بعض المناطق التي سلكها وعن حظ بعض دوّل أروبا الشرقية في إفادات ابن بطوطة على ما سنشرحه في التعليقات ...ومثل هذا نقوله عن زيارته لشرق إفريقيا الذي يحتضن اليوم عددا من الأمم التي لها كيانها الخاص، على نحو ما نقوله عن الدول التي توجد اليوم في إفريقيا الغربية التي كانت خاتمة رحلاته: موريطانيا، السينغال، غامبيا، غينيا، مالي، النيجر ...وإلى جانب الأسماء الجغرافية التي كان فيها ما يحرّك ... هناك تلك اللائحة الطويلة والعريضة من الأعلام الشخصية للعلماء والملوك والزعماء والقادة والمتصوفة والمحدثين الخ،

كلّ هؤلاء كان علينا أن نبحث عن تراجمهم في مختلف المصادر المشرقية والمغربية: حياتهم، اهتماماتهم، اتصالاتهم ...وقد كان إلحاحنا على تقديم تراجم الرجال الذين ورد ذكرهم في الرحلة والنساء كذلك ... مناسبة أخرى للتأكد من مصداقية مرويات ابن بطوطة، فقد تضافرت المصادر التي رجعنا إليها عند التحقيق في حياة أولئك الرجال ... ، تضافرت على تزكية ما ورد في الرحلة جملة وتفصيلا حول أولئك الذين كانت لهم فرصة الاجتماع بابن بطوطة أو الاتصال به من بعيد أو قريب. ونرى من واجبنا أن نشيد مرة أخرى بالفائدة الجلّى التي استقيناها من كتاب الدّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة تاليف شيخ الاسلام شهاب الدّين ابن حجر المتوفى سنة 852، فلكأنما بعث الله هذا الرجل ليكون شاهدا صادقا يؤيد كلّ التأييد مرويات الرحالة المغربي عن شيوخه وشيخاته ... !وقد تكوّن لدينا من كلّ أولئك الرجال فهرس ثرى يفتح هو ذاته الطريق أمامنا للتعرف على عوالم أخرى. وهكذا تمكنا- والفضل لله- من تصحيح بعض الأسماء التي وردت مغلوطة في بعض المخطوطات أو قرأها بعض الناشرين محرّفة عن الصواب فكتبوها حسبما اتفق لهم ... !! ولم يبق علينا إلّا عدد ضئيل وضئيل جدّا من الأسماء التي لم نستطع أن نصل فيها إلى كلمة فاصلة.ومن تلك الأعلام الشخصية ما اقتضى منا- على نحو ما كان منا في الأسماء الجغرافية وبعض المصطلحات- تحرير المراسلات وتبادل الخطابات مما كوّن لدينا ملفا ضخما مليئا بالفوائد التي نظل فيها مدينين لمن استجابوا لاستفساراتنا، وكلّ هذا كان الهدف منه محاولة أداء الرسالة الملقاة على كاهلنا. (تراجع الملاحق)

وقد رأيت أنّ مما يقرّبنا إلى الصورة- علاوة على هذا التقديم وعلاوة على التعريف بالأعلام الشخصية وتحديد الأسماء الجغرافية- أن أضع عند بداية كلّ فصل من الفصول الثمان عشرة التي وزّعت الرحلة عليها خريطة جغرافية ترسم معالم الطّريق المسلوك حتى يتسنّى للقارىء أن يستأنس بها لمتابعة خطوات رحّالتنا، على أن أجعل في آخر المجلّدات خريطة شاملة كاملة لمسالك ابن بطوطة من طنجة إلى الصّين. كما رأيت أن أثري كلّ فصل من تلك الفصول بما تيسّر من رسوم وصور تجعلنا تقريبا في الجوّ الذي كان يعيشه ابن بطوطة ... وربّما أضفت إلى بعض العناوين التي فصّل بها المؤلف رحلته بعض ما يكشف المبهم منها أو يشدّ القارئ إليها ...وقد وجدت نفسي أمام حيرة الاختيار حول أيّة مخطوطة أعتمدها لوضع أرقام تكميلية توثيقية أجعلها على يمين الصفحات لأني اعتمدت- كما سبق أن قلت- عددا من المخطوطات. ولهذا، وحرصا مني على أن تكون الفائدة عامّة وشاملة بالنسبة لكل الذين يهتمون بابن بطوطة منذ أكثر من قرن ونصف القرن ... اخترت بدوري أن أوزع الرحلة على أربع مجلدات وأن يكون الرقم الأساسي هو الذي تحمله المجلدات التي طبعت في باريز عام 1858 لأنها المرجع الأصليّ الوحيد لكل الذين درسوا الرحلة دراسة علمية بمختلف اللغات بمن فيهم بعض الذين درسوها باللغة العربية، من أمثال الزّميلين الراحلين: الأستاذ محمد الفاسي الذي تحدث عن الرحلة في العدد الأول والثاني من مجلة المغرب 1934، والدكتور سليم النعيمي الذي تحدث عنها في مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد 24- 25- 26 عام 1974- 75 ...ثمّ إنّنا بعد هذا وجدنا أن مما يساعد على ضبط الرحلة وتقييد أوابدها أن نقوم- اقتداء بمن سبقونا- على وضع فهرس بل فهارس ترشد لمفاتيحها المتنوّعة. وهكذا خصّصنا مجلدا خامسا لفهارسها التي تجاوزت الثلاثة والثلاثين ... تتناول الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والأشعار والقوافي، والأمثال والأقوال السائرة، والأعلام الشخصية والأسماء الجغرافية، وأسماء القبائل والعشائر والأجناس، ثم الأدوات والآلات، والوسائل والمراكب، والأسلحة، والأمراض، والأنهار، والجواهر والحلي، والحيوان، والعطور، والطّعام والشراب، والعادات، وأسماء الكتب، واللّباس والمعلومات، والأسواق، والحصون، والزوايا والرباطات، والقصور والقلاع، والكنائس والأديرة، والمدارس، والمزارات، والمساجد، والمنشآت المتفرقة، والمواد، والنبات، والنقود، والعملات، والألفاظ الحضارية، وكذلك فهرس لموضوعات الرحلة ثم فهرس لمراجع الرحلة علاوة على الملاحق ...لقد رأينا أن هذه الفهارس والملاحق كانت ضرورية للمساعدة على الاستفادة الكاملة من هذا التراث الغنيّ والضخم الذي هو رحلة ابن بطوطة.

وأخيرا أرى دينا علىّ أن أتقدّم مرة أخرى بالشكر الجزيل والتقدير الجم لكل الباحثين الذين تمكنت بفضل ما سبقوني به- عربا وعجما- من أعمال جليلة عظيمة عمّني نفعها وخيرها، وخطوات رائدة أرشدني قبسها ونورها، وتمكنت عن طريقهم من الإدلاء بدلوي في هذا الموضوع" الشّاق والصّعب" الذي قدرت جيّدا تبعته- وأكاديمية المملكة المغربية نرى نشرها- مذكّرا بأن رحلة ابن بطوطة ستبقى في حاجة أكثر إلى استجلاء غوامضها والكشف عن المزيد من أسرارها وفوائدها ...وكما كان مني في تأليفي السابقة فإن الشّعار الذي أرفعه وأنا أخوض هذه المغامرة هو نفس الشّعار الذي رفعه قبلي العلامة ابن خلدون الذي اعترف في مقدّمة تاريخه بالعجز وأهاب بمن ياتي بعده- ممّن يزوده الله بعلم صحيح- أن يكمّل ما نقص ويفصّل ما أجمل، ويلحق ما أهمل، ويصلح ما أغفل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.


فيلّا بغداد- الرباط 15 يونيه 1996- 28 محرم 1417
د. عبد الهادي التازي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى