محمد فيض خالد - أبو دقيق..

هذا أوانُ امتلاء حقول البرسيم بتيجانِها البيض ، افَاحَت الرِّيحُ السّاخنة رائحة زهَراتها النّاضجة ، وتِلكَ أمارة نعرِفُ بِها أن نهايتها قد أزفت ، ما إن يخطو اللّيل خطوة جديدة نحو الصَّباح ، إلّا ويعبِّق الدَّرب رائحة لا اجهلها ، تتهادى رخيّة ، تتلاقى وغناء الكروان الطّروب ، المُلازِم لشجرةِ التوت المُطلّة من بيتِ الأفندي ، سريعا انفض عني رداءَ الكسل ، حقيقة الأمر فإن جنبيّ لم يَطمئنّ لمضجعٍ سَواد اللّيل ، في تلهفٍ ارتدي جلبابي ، اندفِعُ مُلتاعا جهة الحقلِ ، عليّ استقبال تباشير الصّباح النّدية ، تحملُ بقايا من طراوةِ المساء ، قبل أن تُكشِّر الشّمس عن أنيابِها ، استوفي حظي من مُتَعِ الصِّبا في مكامنِ القدرةِ والجمال .
يتوزّع بصري فوقَ البساط السُّندسي المُتلألئ ، اخطُر بخطواتٍ مُتّئدة ، اغرق وسط أكوام النّدى المتراصّ فوق الكساءِ المُخضرّ المتوهج ، في هاتهِ اللّحظة يقبل عن بعدٍ صديقي الأعزّ ، يطرفُ بجناحيهِ في تعاظمٍ وكبرياء ، يُعابِث تِيجان البرسيم ، ويدور مُنتشيا حَولَ عِيدان اللّفت ، يُلاطِف زهراتها الصُّفر ، سريعا يَلحقه رفاقه ، يتحلّق السِّرب الأبيض ، ليبدأ وصلته في استعراضٍ بهيج ، مأخوذًا بصنوفِ الجمال من حولهِ ، يتراقص قلبي ، ويعرَق جبيني ، اجاهِد كتم أنفاسي الملتهبة، اتحَسّس موتورا طرف جلبابي الواسع ، ارفعه قليلا، يكاد يتصدّع حجر صبري ، وفي تحفزٍ اقفزُ قفزاتٍ خِفاف ، تتَهدّج في وجهي صُفرة عارضة ، انكّفئ فوقَ الرِّفاق البيض ، جاعِلا من حِجري وعاء يحويهم ، بإحكامٍ اُطبق على صَيدي الثمين ، تتوالى ضحكاتي عالية مُجلجلة ، تهزّ الحقول ، وتُوقِظ الكون الهاجع من حولي ، اتسمّع رفيف الأجنحة الهزيلة في تسريةٍ مزهوا ، امدّ يدي برفقٍ اتلمّس تلكَ المخلوقات البريئة ، التي زعرت مهتاجة ، حينها يقشعِرّ بدني ،وكأنّني اشعر أنينها المكتوم ، ليسَ من بُدٍّ إلا أن أفلتها ، وهذا ما افعل مُنذ عرفت طريقي لهذا التّلهي ، لقد أخذت شمس النّهار الفاترة تتقوى ، ولابد من عودة ، احسِد هذا المخلوق الهزيل على جسارتهِ ، فما إن أفلته حتى يستقبل الفضاء يُطوِّقه بجناحيهِ ، مدفوعا بعزيمةِ الحياة ، يبتعد قليلا لكنّه يعود نحوي في تهورٍ وبسالة ، يسير الهوينة غير عابئ ، كأني اشاهد ابتسامته السّاخرة تقهرني ، تُكبل جسدي ، يتصايح بصوتٍ عال مستهزءا ، اندفع في عمايةٍ استكمل ملاحقته ، أكابِد القيظ واحتمال العناد ، ابتغي كُلَّ وسيلةٍ في النّيل منه ، يُحوم من حولي حومان الرُّوح من حولِ الجَسدِ ، عندها يزول عنّي كُلّ تحفظٍ ، تتلألأ على فمي ابتسامةٍ وضاحة ، اطلق صيحتي المعتادة : أبو دقيق.. أبو دقيق ، هكذا افترّ بهمةٍ من حقلٍ لحقلِ مبهور الأنفاس ، حتى تملأ الجسور أسراب الفلاحين ، عندها اتوقف عن مطاردتي ، لأرجع من حيث أتيت ، مُكتفيا بهذا القدرِ ، يجيش في نفسي من الآمال ، لغدٍ يجمعني و " أبو دقيق ".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى