تيسير خلف - رحلة الشبيبي.. كيف رأى العلّامة العراقي المغرب الأقصى

في عام 1960؛ احتفلت المملكة المغربية احتفالاً كبيراً بمرور الذكرى المئة بعد الألف على تأسيس جامعة القرويين في مدينة فاس، وشارك في الحفل الذي أقيم تحت رعاية العاهل المغربي محمد الخامس نخبة من الأدباء واللغويين العرب، ومن بينهم العلامة العراقي محمد رضا جواد الشبيبي، الشاعر المعروف، والزعيم الوطني، ووزير المعارف لمرات عدة، وأحد مؤسسي المجمع العلمي العراقي، وكان عمره يومها واحداً وسبعين عاماً.

دوّن الشبيبي وقائع رحلته، ونشرها في المجلد الثاني عشر من مجلة المجمع العلمي العراقي تحت عنوان "رحلة إلى المغرب الأقصى"، حيث غلبت على الرحلة الجوانب اللغوية والأدبية؛ أكثر من الجوانب الجغرافية الوصفية، وكانت المملكة المغربية يومها خارجة لتوها من عهد الحماية الفرنسية (1912–1956)، وكانت تقوم بإعادة بناء شاملة لكل شيء، بما في ذلك علاقاتها مع محيطها الحضاري. وقد كتب الشبيبي رحلته هذه في أوج المد القومي العربي الذي كان يرى الوحدة الكبرى من المحيط إلى الخليج قاب قوسين أو أدنى.


من بغداد إلى الدار البيضاء

بدأ الشبيبي رحلته إلى المغرب جواً من مطار بغداد في يوم الأحد، الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 1960، فهبطت الطائرة في أنقرة، ثم بعد ذلك في إسطنبول، ثم روما، ثم باريس. وفي ذلك يقول: "هبطت طائرتنا على مدرج مطار أورلي بباريس، وبعد مبيتنا ليلة الاثنين في باريس بكرنا في الذهاب إلى المطار المذكور، حيث أقلتنا طائرة فرنسية قديمة، لا وجه للمقارنة بينها وبين الطائرة الأولى في رحلة استغرقت أكثر من أربع ساعات، حلقنا خلالها فوق جنوب فرنسا، والأقطار الأندلسية، ومضيق جبل طارق، أو بحر الزقاق كما يسميه البلدانيون العرب. ومن هناك هبطت طائرتنا على مطار الدار البيضاء، وكان وصولنا إلى هذه المدينة المغربية في الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر اليوم المذكور".

وبعد أن يقدم لمحة جغرافية عن موقع المغرب، وما يحيط به من بحار وجبال ودول يقول: "وسكان المغرب خليط من العرب والبربر، وليس لسكان القطر إحصاء مضبوط، والمشهور أن عدد هؤلاء البربر أكثر من العرب الذين تغلب عليهم مظاهر الحضارة، بخلاف قبائل البربر. وهذه القبائل هي العنصر القديم من سكان البلاد وكلهم مسلمون، هذا وفي أصل البربر أقوال، منها ما يردهم إلى عرب الجزيرة، ومنها ما يردهم إلى غير ذلك من الأصول. وفي أصل اللغة البربرية أقوال من قبيل ذلك. والمرجَّح أن البربر جيل مغربي قديم في بلاده المذكور".

ويضيف واصفاً الأزياء: "أزياء العامة فيما لاحظناه، وبالخاصة في الأقاليم الشمالية، محتشمة، فالذكور يلبسون القمصان والأقبية والعمائم على الأكثر، والنساء الأزر والملاءات، واللون المفضل هو البياض، ولا تنقصه النظافة في كثير من الأحيان، وهذا الزي متوارث قديم وهو زي يحجب مفاتن المرأة وينأى بها عن التبرج والبذلة".


طنجة وإيفران

ينطلق الشبيبي وبعض المدعوين من الدار البيضاء إلى الرباط، في طريق معبدة مظللة بالأشجار، كما يقول، ويجتاز وصحبه أودية مفعمة بمياه راكدة، وغابات كثيفة وبقاعاً مخضوضرة كان يظنها فيما مضى بقاعاً جرداء. ويبدو أنه أقام في الرباط أياماً عدة أمضاها بالسياحة في بعض مدن المغرب، مثل طنجة التي دخلت ضمن حدود البلاد في الزمن الأخير، إذ كانت قبل ذلك منطقة دولية حرة، ومدينة تطوان، وهي من أشهر حواضر الشمال الواقعة على شواطئ المحيط الكبير. ويقول واصفاً المنظر الذي رآه: "هذا ومن شواطئ هاتين المدينتين يمكننا أن نتطلع ـ وقد تطلعنا فعلاً ـ إلى شواطئ الأندلس والجزيرة الخضراء شواطئ "الفردوس المفقود" المؤدية إلى المدن الآتية: قادس، جَيَّان، غرناطة، قرطبة، إشبيلية، طليطلة وغيرها من حواضر الأندلس في عصورها الذهبية الإسلامية".

ومن الأماكن التي استوقفته مصيف إيفران الذي قال عنه: "هو منطقة جبلية تكثر فيها الغابات وتتوفر المياه الجارية العذبة والمروج الخضراء، وتعد إيفران من أحسن مصايف المغرب، ينتجعها الراغبون في الاستجمام. ومن مظاهر الحفاوة بالضيوف في "إيفران ظهور كتائب من "فرسان المغرب" المشهورين، مدججين بالسلاح، وكانوا يمثلون هجوماً عنيفاً يطلقون فيها النار، ولإطلاق النيران صداه في ذلك الوادي الكبير، وكان يرافقنا في هذه الرحلات عدد من شباب مدينة فاس وغيرها من حواضر البلاد؛ عنوا عناية فائقة بكل ما يوفر لنا الراحة والمتعة والطمأنينة، على أننا لاحظنا أيضاً أن الرجل العادي أو ابن الشعب المغربي في أكثر الحواضر التي زرناها لا يعرف شيئاً كثيراً عن هذه الرحلات. ولا يلم إلماماً كافياً بأهداف المهرجان ـ مهرجان جامعة القرويين ـ ومن رأينا أن السلطة المغربية مسؤولة عن هذه الجمجمة والسكوت".

ويلاحظ الشبيبي أن مجتمع النخبة المغربي كان منقسماً حول الاحتفال بمهرجان جامعة القرويين، فثمة فريق مندفع في تأييد فكرة الاحتفال، وشباب المغرب الواعي من هذا الفريق، كما يقول. وهناك فريق آخر هم الفريق الفاتر المتهاون، ومنهم فيما يبدو من يحن إلى عهد قديم حوربت فيه رسالة القرويين، ويقصد مؤيدي فرنسا. ويقول إن هذا الفريق لا يطيب له التوسع في إقامة هذا المهرجان.


حجر على الأفكار

وصل الشبيبي إلى مدينة فاس، مقر المهرجان الذي دام أياماً عدة، فكتب عن هذه المدينة العريقة: "لاحظنا في البلاد ضرباً من الكبت والحجر على الأفكار، لعله من بقايا ذلك العهد الذميم عهد الحماية. ولا تخلو الأحياء القديمة من المدن، وفي مقدمتها أحياء فاس، من مظاهر الفاقة والحرمان، ولنا الأمل كله أن تجتث حكومة المغرب الفتية في عهد الاستقلال مساوئ عهد الحماية من عنف وإرهاق وإذلال لذلك الشعب الوديع، وأن يُشعر المسؤولون هذا الشعب بسياسة الرفق واللين في هذا العهد الجديد، وهذا يتوقف بالطبع على تطهير جهاز الحكم تطهيراً تاماً من أذناب عهد الاستعمار، ولاحظنا أيضاً أن الأحياء القديمة في حواضر المغرب لا تتوفر فيها شروط الصحة، خصوصاً في فاس القديمة، فإنها لا تخلو من المستنقعات، ولكنها قليلة المجاري والمصارف التي تدفع المياه الآسنة إلى أماكن بعيدة".

ويضيف قائلاً: "تستحق مدينة فاس القديمة كل رعاية من السلطات الحكومية في ناحية التنظيم والتجديد، والتخطيط لا سيما في الجهات المحيطة بجامع القرويين، فإن زوار هذا الجامع يتكاثرون في العهد الحاضر، والجامع واقع في مطمئن عميق من الأرض لا يصل الزائر إليه إلا بشق الأنفس. وفي الجامع تُحف نفيسة من أبواب ومسارج أو "ثريات" وطرف مختلفة يقال إنها جلبت من الأندلس أو من جامع إشبيلية وزين بها جامع القرويين".


يوم الاحتفال بجامعة القرويين

عقد الاحتفال في الجامع الكبير، وحضر الضيوف يتقدمهم الملك محمد الخامس، ومن بينهم الشبيبي، وسط هتافات الناس بحياة الدول العربية والأمة الإسلامية، وألقى العاهل المغربي كلمة بليغة نوه فيها برسالة القرويين وأهدافها، جامعاً ومدرسة، قائلاً: "يعود الفضل في ذلك إلى تشبث المغاربة بالدين الحنيف، وهيامهم بكل فضيلة وتقديسهم للعلم وتقديرهم للعلماء في هذه الجامعة التي مكنت للإسلام في نفوس المغاربة، وأطلقت ألسنتهم بالعربية، وخطت لهم المنهج الذي ساروا فيه زهاء ألف عام، فلا عجب إذا صارت مهوى الأفئدة وقبلة الأنظار، واستأثرت بعطف جميع الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب ورعايتهم وتأييدهم، وتسارع إلى التدريس فيها علماء الأقطار المغربية والأندلسية، وتسابق الطلبة من القارة الأفريقية ومن أوربة لطلب العلوم التي كانت تقرأ فيها من علوم الشريعة واللغة إلى العلوم المشاعة بين البشر".

وأضاف الملك في كلمته: "ولئن تخلفت الجامعة القروية عن مماشاة التطور العلمي في وقت من الأوقات فإنها لم تتخلف عن أداء رسالتها إذا انقلبت إلى حصن تلوذ به حضارة الإسلام وثقافة العروبة في الجانب الغربي من بلادهما، ولما وضعت الخطط لإنقاذ المغرب لم يغرب عن أحد أهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به "جامعة القرويين" في نهضة المغرب الجديدة فوضع لها نظام جديد، وأدخلت على برامجها تحسينات، ومن مظاهر العناية والتجديد الذي أدخل عليها إنشاء "حي جامعي" كبير نقلت إليه الدراسة من جامعها العتيق، وتعليم العلوم الحديثة باللغة العربية إلى جانب العلوم الإسلامية، ورفع مستوى الدراسة فيها".


حديث العربية

ويفرد الشبيبي فقرات مهمة من رحلته للحديث عن العربية في المغرب ولهجاتها في هذا العصر، فيقول إن ما أصاب العربية في المغرب أضعاف ما أصابها في المشرق، وذلك بسبب الاستعمار الفرنسي الذي استطاع أن يجعل من الفرنسية لغة عامة على شكل لا نظير له في غير هذه البلاد، وقال إن المغاربة جابهوا مشكلات لغوية خطيرة في المدرسة، وفي دواوين الرسائل والإنشاء، ومصالح الدولة كافة لما انتهى عصر الحماية. ويلاحظ رحالتنا أن أبناء المغرب جادون في وضع خطة تكفل حل هذه المشكلات.

ويشير الشبيبي إلى أن العربية أصبحت بعد الفتح الإسلامي لغة المخاطبات، ثم أصبحت لغة الدواوين والتأليف والتعليم والقضاء في جميع الدول التي قامت في المغرب بأقسامه، وفي الأندلس، ويقول إن هذه الدول التي كونتها قبائل المغرب القديمة، مثل المرابطين والموحدين والمرينيين ومن تلاهم، لم تعرف في دواوينها وفي ترسلها غير العربية، ولم يكتب بغيرها حملة الأقلام. ويلفت النظر إلى أن أعلاماً من البربر الأقحاح بزوا غيرهم في خدمة العربية وعلومها، وحسبنا منهم ابن آجروم الصنهاجي من أهل فاس صاحب المقدمة الآجرومية، والجزولي مؤلف الجزولية، وهما من أبناء قبائل المغرب في الصميم.


لهجة المغاربة

حول اللهجة المغربية يقول الشبيبي: "لا شك أن لهجة المغاربة في حواضرهم ومدنهم الكبيرة إحدى لهجات العربية إلا أنها مشوبة بعدد غير قليل من الكلمات البربرية والعامية المغربية والفرنسية، وقد بذل الفرنسيون جهداً بالغاً في نشر لغتهم ببلاد المغرب المنكوبة بسلطانهم الاستعماري، خصوصاً بلاد الجزائر أو المغرب الأوسط لاحتلالهم إياها قبل غيرها من الأقطار. فأصبحت الفرنسية لغة عامة كما بدا لنا في بعض المدن والحواضر. على أننا لم نجد أثناء الرحلة والانتقال من جهة إلى أخرى في المغرب صعوبة في التفاهم أو التحدث إلى من تحدثنا إليهم بالفصحى، أو بلهجة قريبة منها، وبناء على ذلك فأحسن أداة للتفاهم فيما إذا اختلفت اللهجات العامية هي الفصحى أو لهجة سليمة قريبة من الفصحى، وقد دلت التجربة على ذلك".
ويرى رحالتنا أن لهجة أبناء فاس أسلم لهجات المغاربة وأقربها إلى الفصحى، ويشبهها من هذه الناحية بلهجة أهل القاهرة في مصر، أو دمشق في سورية، أو النجف في العراق، أو لهجة كل بلد يعد مركزاً للدراسات الإسلامية والعربية الأصيلة، فالفضل في ذلك يعود إلى تلك الدراسات، كما يقول.


مصطلحات لا تستعمل عربياً

يفرد الشبيبي صفحات مهمة من رحلته لمناقشة مصطلحات المغاربة التي لا تستعمل في أقطار العالم العربي الأخرى، من ذلك كلمة "المخزن"، ويعنون بها السلطة أو الحكومة و"المشور" على وزن محور يعنون به قصر السلطان أو دار الحكومة، و"الحاجب" التي تعني في مصطلحات قدماء المغاربة والأندلسيين رئيس الوزراء أو نائب الملك. ويقول: "من قواعد هذه اللهجة قلب الياء في بعض الأفعال والألفاظ ألفاً أو همزة فيقولون في مثل يكون "إكون" وفي "يقول" إقول وفي يدوم إدوم، ومن ألفاظهم الغريبة الشائعة كلمة "وخّى" بالتضعيف يستعملونها مكان كلمة "حاضر" في اللهجة المصرية، أو "طيب" في اللهجة العراقية، وقد اختلفت الآراء في تخريج هذه الكلمة، وسألنا بعض أدباء المغاربة في طنجة عن أصلها فردها قوم إلى أصل عربي من الإخاء والمؤاخاة، وردها آخرون إلى أصل بربري (..) وإذا أراد المغربي أن يقول لك "كفاية" قال بركة، وإذا أراد أن يقول لك جميل أو حسن قال "صافي" إلى غير ذلك. ولنا أن نقول حبذا هذا الصفاء وحبذا تلك البركة في منطق القوم".

ويلاحظ العلامة الشبيبي أن المغاربة يقلبون الجيم ياءً في جملة من الألفاظ، فيقولون: مَسيد في مسجد، والجمع مسايد، ويقول إن هذا النوع من القلب شائع في عامية أقاليم العراق الجنوبية كالمنتفك والبصرة والعمارة خصوصاً، بين طبقة الزراع والفلاحين.

ويشير إلى كثرة الاختزال في كلام العامة من المغاربة فيقولون في عبد الرحمن "رحوم" وفي عبد القادر "قدور" وفي زكريا "زكور" وفي عبد العزيز "عزوز" وفي عائشة "عشوش" ويقول إن هذا الضرب من الاختزال معروف في لهجة أهل بغداد والموصل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى