إخلاص فرنسيس - الرقصة الأخيرة..

الجو الهادئ، صمت الهواء، المدى يسترخي فوق المحيط، لا شيء يعكّر صفو الجو، ولا حتى نسيمات تعبر من النوافذ المطلّة على الغابة من الناحية الأخرى، الفندق ينام على شبه هضبة ما بين صخب الموج الذي أخرسته المسافة، وما بين حمرة الشفق، وفي ظلّ نخيل تكاد تخنقه حرارة الطقس، في البهو المقابل رجل وامرأة يتبادلان الصمت أيضًا، لا يحرّكان ساكنًا إلّا حين يلتقط أحدهما فنجان قهوته بحركة آلية يرفعه إلى شفتيه، ومن ثمّ يعيده إلى الطاولة الرخامية أمامها. الفندق معروف في المنطقة، وكان فيما مضى يؤمّه كبار رجال الأعمال، ومعروف بحركته الدائمة ولياليه الصاخبة.
في خارجه كان صراخ السيارات يطغى على أيّ سكون وزوابع الغبار، الأصوات مكتومة، والصيف على الأبواب، الباب الزجاجي المطلّ على الحديقة الخضراء يفصل ما بين حرّ الخارج وبرودة الصالة المكيفة، وبرغم هذا بدا لي الجوّ خانقًا، تعمّدت الجلوس إلى النافذة كي أتأمّل المحيط وما خلفه، علّه يبعث بي شيئًا من السكون. في الأربعين من العمر، حنطية البشرة، وشعر كثّ مخضّب بالحمرة. لم يكن بالإمكان أن أرى وجهها جليًّا، ترتدى ملابس رياضية، لا أعرف كم من الوقت مضى وهي تجلس هناك ربما أكثر من ساعتين، فتح الباب الزجاجي، واندفع الحرّ داخلًا مع دخول رجل في عقده الأربعين، يرتدي الجينز وقميصًا أبيض، يمسح العرق المتصبّب على جبينه بمنديله، وينفض الحرّ عن وجهه بحركة آلية.
كانت عينا الفتاة منصبتين نحو المحيط، لم تشعر بالزائر الجديد، ولم تلاحظ موجة الحر التي غزت الصالة لانشغال فكرها إلى أن وقف الرجل أمامها، وكأنّه آتٍ من غياهب الزمن.
كانت عيناه مثبتتين نحو عينيها في انفعال مضنى، أما هي فرفعت وجهها نحوه وكأنّ الليل هبط فجأة، والبحر أطلّ منهما، أو لربما جادة من شجر الزيتون أينعت، وهطل زيتها المطحون في معصرة الألم. بقيت النظرات سابحة في غليان الدموع، والصمت يرمقهما، ويزيد من الطين بلة، والفضول على درجة عالية في صدري، وقد بدت الأشياء أمامي وكأنّني في صالة سينما أشاهد فيلمًا ملوناً صامتاً. وحيدة منهكة، جميلة، مجهولة، سحبت يديها الهامدتين عن الطاولة، وارتمت في حضنها، والابتسامة شاحبة، وشفتان ترتجفان في محاولة جاهدة أن تشقّ الصمت بصوت رقيق، ولكن يمنعه النشيج.
أرّدت أن تعطي البكاء حقّه، وتترك للصوت حرّيته، تمنّيت لو أستطيع مساعدتها، أن أسألها: أين تسكن. أشارت بيدها إلى الرجل وكأنّها فقدت الذاكرة فجأة ربما محرجة من الصمت، تكلّمت بصوت خفيض، فسحب كرسيه، وجلس في مواجهتها.
المحيط كان قد اختفى في حضن الظلام الصامت، وأقفل الليل عليه المفتاح، هو قبالة عينيها، وهي في الجانب الآخر تحدّق وكأنّها ترى ولا ترى، أخرج من جيبه منديلًا ودفعه برفق إليها، تمتم بكلمات غير مفهومة لديّ، أخذتها منه، وقف بابتسامة متصنّعة كمن يمرّ بوقت عصيب وكأنّه في ساعاته الأخيرة، مدّ يده مصافحًا يدها، ولأول مرة في هذا المساء أسمع صوت الموسيقا ، وبصوت مضطرب :
يتفحّصها باهتمام أكبر ومسحة مأساوية تعلو جبينه
أنت تبكين،
المساء يزداد رمادية، ولا طاقة لي على البكاء،
يخشى أن يتركها، فيجلس مرة أخرى، وعيناه تفضحانه،
ويداه تسبقان تفكيره، يمسك وجهها، يقرّبه إلى شفتيه
تسلمه له
يقبّل جبينها وكأنّه لا مناص من تذوق زيت الزيتون المعصور للتو في حدقات العيون
ترتفع الأضواء.. الموسيقا،
وحرارة يدي هذا المجهول، يدنو أكثر من ثغرها، شفتان ترتديان القرمز، تنتشر رائحة الياسمين المفعمة برائحة البخور والورود.
مرّ وقت طويل، مشهد مأتمي للحزن في وسط غرفة مفروشة برائحة الصندل الذكوري، والنوم السحيق ينظر إلى اليدين المفتوحتين، وإلى ظلال الوجه، ينام في راحتيه، يحدّق ، يتسارع تدفّق الدم إلى وجنتيه، وبهدوء يتأبّط الجسد الطيع الرشيق رغم الفاجعة في رقصة أخيرة.


اخلاص فرنسيس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى