د. علي خليفة - عروض المضحك هي أقدم فنون الفرجة عند العرب

(١)
كثرت الدعوة لإيجاد شكل مسرح عربي مستمد من تراثنا العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي - على وجه الخصوص - وكثرت الدراسات النظرية في ذلك الحين التي تتحدث عن بعض أشكال الفرجة ونصوص من الأدب العربي القديم يمكن من خلالها أن يتم استنبات شكل مسرحي تقدم من خلاله مسرحيات تتميز بمعالجتها لقضايا عربية، وفي الوقت نفسه يكون الشكل الذي يتم التعبير عن هذه القضايا هو شكل مستوحى من التراث العربي.
وأغلب الظن أن المقالات الثلاث التي كتبها يوسف إدريس عن البحث عن جذور للمسرح المصري أو العربي - وقد نشرها أولا في احدى الجرائد، ثم نشرها بعد ذلك في مقدمة كتابه الذي نشر فيه مسرحية الفرافير - تمثل أقدم دعوة للبحث عن شكل مسرحي عربي، وقد رأى يوسف إدريس أن شخصية الفرفور هي شخصية مصرية، وأنه يمكن من خلالها إيجاد ذلك الشكل الخاص بنا - على الأقل كمصريين - وعرض يوسف إدريس فكرته هذه بشكل تطبيقي بعد ذلك في مسرحية الفرافير التي رأى أنها تمثل بشكلها وأحداثها والفرفور الذي بها البيئة المصرية.
ولدي قناعة بأن الفرفور الذي عرضه يوسف ادريس في مسرحية الفرافير هو أراجوز بعثت فيه الحياة، وصار قادرًا على مغادرة الصندوق الصغير الذي كان يتحرك من خلاله للعالم الفسيح، وهو مثله حاد في نقده لازع في قوله، ويجيد التنكيت والقافية، ومن ثم فإن شخصية الفرفور بهذا الشكل لصيقة بالفعل بتراثنا، وبأحد فنون الفرجة عندنا.
أما الشكل الذي عالج من خلاله يوسف إدريس هذه المسرحية، فهو أقرب لمسرح العبث، ففيه نرى الأحداث لا تخضع للمنطق والمعقول، ففيها نرى أشخاصا يقومون من موتهم، وفيه نرى صراعا عبثيّا بين الفرفور وسيده، وإن كان يعكس في الوقت نفسه صراعا طبقيا.
وأرى بعد كل هذا أن تجربة يوسف إدريس في مسرحية الفرافير فيها مزج بين منابع من التراث المصري في شخصية الأراجوز، وبين شكل مسرح العبث الغربي، وأن التجربة التي خاضها يوسف إدريس في هذه المسرحية من الصعب أن تتكرر، فهي حالة خاصة، وليست شكلا يمكن الكتابة على منواله.
(٢)
وتجربة توفيق الحكيم في كتاب قالبنا المسرحي هي تجربة نظرية تشير للاستعانة بالحكواتي والمقلداتي في تحويل بعض النصوص المسرحية الغربية لهذا الشكل الذي يعتمد على السرد أكثر من التمثيل والتجسيد، ويكفي في هذا الصدد أن نقول: إن توفيق الحكيم لم يكتب أي مسرحية من تأليفه على هذا الشكل؛ مما يدل على أن كلامه في هذا الكتاب لا يخرج عن الإطار النظري الذي لم يكتب عليه هو أو غيره أي نص مؤلف، ومن ثم فهو شكل من الواضح أنه لا يحقق المطلوب.
(٣)
وهناك تجارب أخرى كانت على المستوى العربي في بعض البلدان العربية بحثا عن هذا الشكل المسرحي المستمد من تراثنا، ومن ذلك ما نراه في مسرحية الطيب الصديقي مقامات بديع الزمان الهمذاني التي استعان في كتابتها ببعض مقامات الهمذاني - خاصة المقامة المضيرية - كما بدا شكل هذه المسرحية متأثرا بأسلوب مقامات الهمذاني، وهي مسرحية جيدة، ومتصلة في شكلها وموضوعها بتراثنا، ولكنها من الصعب أن تتكرر، فهي أيضا حالة خاصة.
(٤)
والحقيقة أن هناك مسرحيات أخرى عربية استعانت بحكايات أو بأشكال فرجة من تراثنا العربي، وقمت لنا مسرحيات نرى فيها شكلا يربطها بالتراث من ناحية، ويربطها بشكل المسرح الغربي المتوارث من ناحية أخرى، ومن ذلك مسرحية حلاق بغداد لألفريد فرج، ففي هذه المسرحية نرى من يقوم بالحكي تمهيدا لعرض الحكايتين اللتين يتم تجسيدهما في هذه المسرحية، والمرأة التي تقوم بالحكي هنا في مفتتح كل حكاية من هاتين الحكايتين تذكرنا بشهرزاد التي كانت تحكي حكاياتها لشهريار في كتاب ألف ليلة وليلة.
وكذلك نرى سعد الله ونوس في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر يستعين بالراوي الذي كان يروي في المقاهي السير الشعبية، ويجعله يقوم بالحكي داخل مقهى لحكاية معينة، ويتم تجسيد أجزاء منها، كما يقوم هذا الرواي بحكاية أجزاء أخرى منها، فهو راو عليم بالأحداث، ولكنه غير مشارك فيها.
(٥)
وأنا لا أقلل من قيمة هذه الكتابات النظرية عن البحث غن شكل مسرح عربي يمكن أن يتفق المسرحيون العرب على الكتابة من خلاله، ولكننا لم نر في كل الكتابات النظرية في هذا الأمر ما يصلنا بشكل مسرحي عربي يمكن الكتابة عليه، والسير على أسلوبه، وكذلك لم نر في المسرحيات التي اعتمدت على قصصا من التراث وعلى فنون فرجة منه شكلا مسرحيا يمكن تكراره في مسرحيات عديدة.
(٥)
وفي هذا الصدد أقول: إن عروض المضحك هي أقدم فنون الفرجة التي عرفها العرب، وقد ظهر هذا المضحك عند العرب منذ العصر الجاهلي، ورأينا أمثلة له في عصر صدر الإسلام حاصة في شخصية الصحابي البدري نعيمان الذي كان يحب المزاح، وكثيرا ما كان يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بأقواله الطريفة وبعض تصرفاته الغريبة.
وفي العصر الأموي رأينا شخصية المضحك لها وجود قوي في البيئات التي نعمت بالثراء والتحضر خاصة في مكة والمدينة، وكان أشعب والغاضري هما أهم مضحكين فيهما، وكان أشعب- على وجه الخصوص - يحرص كثير من الناس على الائتناس به؛ ليضحكهم بالتمثيل المضحك وعرض النوادر والمواقف الطريفة.
وقد ذكر الأصغهاني في كتاب الأغاني خلال ترجمته لأشعب مواقف مضحكة له كان يقوم بالتمثيل فيها لإضحاك من حوله، وأيضا ذكر له مواقف أخرى كان يشوه فيها وجهه بشكل غريب؛ ليثير الضحك فيمن معه.
وفي العصر العباسي رأينا منصب مضحك الخليفة في قصور الخلفاء العباسيين، وقد قلد الخلفاء العباسيون الفرس في استعانتهم بهؤلاء المضحكين في بلاطهم، ومن أشهر مضحكي الخلفاء العباسيين الأوائل أبو دلامة وابن أبي مريم المدني وأبو حبيب وغيرهم.
وحين نتتبع أخبار هؤلاء المضحكين في كتب المختارات الأدبية والنوادر نرى أنهم كانوا كثيرا ما يقومون بتمثيل مواقف من تأليفهم لإضحاك غيرهم، ومنهم من كان يحرص على تأليف النوادر، ويحكيها بطريقته التي فيها تمثيل يثير الضحك.
ونرى أيضا في العصر العباسي الأول مضحكين كانوا منقطعين لإضحاك أبناء الشعب العاديين في بعض الساحات، وقلما كان هؤلاء المضحكون يفدون على الخلفاء أو كبار رجال الدولة، ومنهم ابن المغازلي، ونرى في بعض كتب التراث وصفا لما كان يقوم به ابن المغازلي وأمثاله من المضحكين في إضحاك أبناء الشعب العاديين، فكانوا يستعينون في ذلك بالتمثيل للمواقف الطريفة، وتشويه وجوههم، والحديث مع بعض الجمهور فيما يشبه القافية.
ولا شك أننا نرى في عروض هؤلاء المضحكين فنونا للفرجة، وهي بلا شك يمكن أن يتم استثمارها، وكتابة مسرحيات من خلالها، وقد كتبت في هذا الصدد مسرحية عن ابن المغازلي بعنوان مضحك الشعب.
ولا أدعي أننا حين نكتب مسرحيات عن هؤلاء المضحكين مستعينين بجوانب من عروضهم المضحكة أننا نكتشف شكلا مسرحيا خاصا بنا، ولكننا بهذا نكون معبرين عن تواصلنا بأقدم فن من فنون الفرجة عند العرب، وبهذا نشعر أننا نبث في الشكل المسرحي الغربي المتوارث بعض الظواهر الشرقية الخاصة بنا؛ وبهذا نرى في هذه المسرحيات التي من هذه النوعية مزجا في الشكل الذي بها بين الشرق والغرب.



د. علي خليفة



1623942088448.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى